عادل سمارة
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1987)
عزيزي الرفيق أحمد حسين،
ومع أنني لم اسمع منك بعد، وبيننا من رام الله إلى أم الفحم مسافة يكفي الهمس ليوصلنا صوتاً وحسَّاً، ولكن، بيننا الكيان والمطبعين، إلا أنني وجدت في ما سمحت به انت من متسعٍ للحوار ما يغريني بمواصلة الكتابة إليك، بإخلاص العشق من طرف واحد، وهو الأكثر إخلاصاً ومعاناة. هذا من جهة ومن جهة ثانية، بواجب وضع التطبيعيين تحت القصف المتواصل. فماذا نفعل نحن سوى أنّا في هذه اللحظة نقيم متاريساً فكرية في طريق التطبيع والقُطرية وأطماع الأمم القديمة، والكيان اللا- أمَّة.
قرأت مقالتك (إسرائيل الخلفية….. عروس الكرد، أحمد حسين. كنعان العدد 1979 5 آب أغسطس 2009 ) وليس لديَّ اعتراض على التسمية والجوهر، لكنني ربما هذه المرَّة أكثر منك تشاؤماً، لأن إسرائيل الخلفية هذه ليست الأولى، وكنت كتبت ذات يوم في كنعان كما اذكر أن الكويت قد أُلبست هذا الثوب بعد أن حررها العراق وأُعيد اغتصابها وكان ذلك بمشاركة العرب مع العجم وهو ما انتهى أخيراً إلى تدمير العراق والاقتراب من اقتلاع جغرافيته من الكوكب لتظل مكانه فتحة سوداء داكنة الفراغ المريع تعوي فيها تيارات هواء خانق وفي برودة صرصر، تنذر كل من يقاوم أو يتبنى التنمية بمصير كهذا. وبمحض الصدفة سمعت وأنا اكتب هذا البَوْح لك قول محمد البرادعي: “كان يجب أن أصرخ بصوت أعلى ضد غزو العراق” . دعني اقولها لك وللقراء بصراحة، اين كان هذا المخزون الهائل من الخزي والخونة العرب! استخدم الغرب بطرس غالي في الأمم المتحدة لتمرير تدمير العراق ثم رماه الغرب كمنديل ورقي يُستخدم لمرة واحدة سواء للأنف أو بعد الجنس، واستخدم محمد البرادعي ليهيىء بجبنه “كعربي” أن لدى العراق حقاً قنبلة نووية، وها هو على طريق نهاية استخدام أكثر وضاعة مما حصل لبطرس غالي! ولذا، يندم اليوم على الصراخ، بعد أن افتضح أمر كل شيء! كيف تكوَّن هذا المخزون من العملاء في السياسة والتجارة والثقافة في الوطن العربي إلى درجة مجاهرة يبدو معها موقف غالي وبرادعي “وقفة عز”!
حينها كانت الهجمة على صدام حسين بأن “البسماركية” لا تلائم الوطن العربي ولا تلائم المرحلة، طبعاً لأن ما يلائم المرحلة هي التجزئة والقطرية و “أوسلو ستان”. وحينها أُخضعت عُقول البسطاء ومحاولي الوعي بطبية ووداعة، أُخضعت لوعي لئيم وماكر بأن الكويت عضو في الأمم المتحدة. ولم يجرؤ الكثيرون في الوطن العربي على القول: ولكن، ايها الناس، إن الكويت هي الولاية التاسعة عشرة من العراق!
وهنا، أُصرٌّ على إضافة نقطة نقد جديدة ضد مثقفي التطبيع (وأقصد هنا التطبيع مع المركز الراسمالي وليس فقط مع الكيان) فقد كتب هؤلاء محفوزين بهذا الكذب المعولم، وخاصة المتواجد منهم في بلاد المركز، حيث هناك يتكيفون ويُطبًّعون حتى بجلودهم. صادفت أثر الخيانة الفكرية/السياسية/القومية هذه إبَّان العدوان الذي بدأ ضد العراق يوم 17 كانون 1991. دعتني ثيا خميس (فلسطينية هناك) خلال أيام هذا العدوان للحديث إلى نقابة عمال المناجم قرب مدينة وجامعة ( دورهم Durham ) شمال بريطانيا للحديث عن الحرب. كانت معظم القيادات العمالية متعاطفة مع العراق باستثناء مجموعة محدودة عرفت أنهم إنجليز من الديانة اليهودية. لم يرتكز نقاش هؤلاء معي على كتابات برنارد لويس، وإنما على كتابات سوسيولوجيين عرب وفلسطينيين بالطبع بأن الكويت أمة، وانه لا توجد هناك أمة عربية…الخ. كان المؤدب من ردي عليهم : “حين لا تقرأوا التاريخ لا تتحدثوا في ما لا تعلمون”. الأمر الذي يهمني هنا هو أن بيننا صهاينة أكثر مما هم بين الأكراد، وهو ما ألمعت أنت إليه في مقالتك.
لقد تابعتك في التحليل والنقد للهجري، سابقاً وحالياً، وأجدني أكثر اتفاقاً معك في التطبيقات الأخيرة للموقف على ما يجري في الواقع. دعني أسميها استخدام الإسلام ضد الأمة العربية بل ضد النهضة العربية، لصالح التجزئة ورفعها من “فرق ـ تسد” إلى التفكيك والتذرير. ولعل أحد مرتكزات هذا الاستخدام، بغض النظر عن حدود قابلية الدين للقيام بالدور، هو الجنوح للانتماء إلى “أمة إسلامية” مفترضة كانت ولا تزال، للفتك بالأمة العربية كانت متعيِّنة ولا تزال.
لذا، أميل إلى التعاطي المعصرن مع مسالة الأمة العربية بهدف الحفاظ على حالة التعيُّن الموجودة موضوعياً، والمقتولة فعَّاليةً. وإن كنت بالطبع أنتمي إلى مدرسة التاريخ والاقتصاد السياسي وليس إلى الأكاديميا البرجوازية وحاملي كشكول بقايا البحث ممثلين بسوسيولوج كبير أو صغير لا فرق. فهم يقرأون الصراع الطبقي من تجربة اشتباك قبيلتين أو حتى من اختلاف أهل العريس والعروس. هذا ربما الفارق والذي يتجسد بفالق واسع لا يُرتق بين الفكر المنتمي وبين الذين لا يسيطر وعيهم إلا على الجزئيات فيسبحوا في كوب الشاي.
ما أود التطرق إليه في هذه العُجالة أن ما يتعرض له الوطن العربي من عدوان في القرنين الأخيرين ليس جديداً، فالأمة العربية في حالة دفاع دائم أمام ثلاث قوميات مجاورة وقديمة في الحبشة وإيران وتركيا. وهذا الصراع سابق على الإسلام، وجوهره قومي. هي أمم بغض النظر من اين أتت كالطورانيين في تركيا، إلا أنها لم تتعرض للتفتيت والتجزئة والعدوان المستدام كما هو حال الأمة العربية، بل إنها، وهذا ربما شديد الأهمية، شاركت في عدوان المركز الإمبريالي ضد الأمة العربية. فإثيوبيا/الحبشة تقود مضايقة مصر على مياه النيل، وهي في هذه الأيام تلعب دور الإمبريالية الرثَّة في الصومال لتمارس الاحتلال كوكيل للولايات المتحدة هناك. وإيران التي تحتل الأهواز تعمل بالحد الأدنى على تتبيع العراق العميل حالياً لها في حالة من التشارك والتشابك مع الاحتلال الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا، وتركيا التي تحتل لواء الإسكندرون وتتمسك بالقومية الطورانية ، وتزعم أن الوطن العربي هو جزء من خلافتها لا بد أن تستعيده، وبالتالي هي تستحضر وتمتطي الإسلام لتبرير هيمنتها القومية. وإلى جانب هذا كله تغمر المشرق العربي ببضائعها التي لم تلائم (المستوى الأوروبي) وفي هذا يكمن تنافس خفي مؤجل بينها وبين إيران التي تأمل في تصدير ما يتجاوز العمائم إلى السوق العربي. وفي حين أن الإسلام التركي المركب على علمانية متوسطة، ولبرالية غربية، وقاعدة تصنيع غير متأخرة، يحقق عضَّة من السوق العربي ويستهوي الطبقة الوسطى ذات الإمكانات الاستهلاكية (بينما البرجوازية العليا تتسوق من صادرات المركز السلعية والثقافية والأمرية السياسية ايضاً)، فإن إيران تقدم إسلاماً جهادياًً يستهوي الطبقات الشعبية وهو يشكل حتى اليوم رافعة للمقاومة لا يسعنا إلا التقاطع معها وليس حتى تحيتها من بعيد.
لكن هذا كله، بسلبياته من كل واحدة منهن، وبعض إيجابياته يكشف عن انكشاف الطبقات البرجوازية الكمبرادورية العربية التي تعمل منهجياً ضد التحديث التصنيعي وضد الحماية الاقتصادية اي ضد التحول أو بروز برجوازية قومية ذات توجه إنتاجي لأن هذا يشكل الأرضية الصلبة للتمسك بحق المواطنة، والمواطنة كحق وقناعة وممارسة هي من صلب المشروع القومي والوحدوي. فليس من معنى لتوحيد أكوام من المغاربة مع أكوام من المصريين، والسوريين وكلهم يأكلون من “خير” الحاكم او فتاته ولا ينتجون! هذا وكأننا نرسي قواعد معادلة جديدة مفادها، أن الحجز الذاتي والمقصود للتطور من قبل الطبقات والفرق الحاكمة في الوطن العربي، من الدولة القطرية، هو مشروع حياة لهذه الطبقات ومشروع مواتٍ للأمة.
وهذا يفتح إن شئت على مسالة الديمقراطية، بل الحريات قبلاً منها. فحينما يكون الحاكم قد جلس على مخزن النفط أو ضرائب مجبية من الطبقات الشعبية، ويمسك بزمام جيوش من المخابرات وأجهزة القمع، (مثلا في مصر مليونان من هؤلاء)، وترش عليه الإمبريالية بعض الأموال ليدير بها مشروعه الاقتصادي مع أدوات التحكم والحكم، فإن هذا الحاكم/الطبقة معه بالطبع، لا يحتاج وليس مضطراً لأية درجة من الدمقرطة. فالديمقراطية كالقومية الحديثة والمواطنة مترافقة مع الانتقال من غيبيات الزراعة المعتمدة في المجتمعات حتى المائية على الطبيعة إلى الانتقال إلى التصنيع. وربما كان سحر التصنيع في أن:
□ يساعد على تفكيك البنى البطريركية التي تجعل من رب كل اسرة ملكاً عليها بشعور متبادل أنها خالقها.
□ وعلى درجة من تحرر المرأة من قيد هذا الرب الصغير، وهذا يعني أن نصف المجتمع أخذ يرى بصيص نور حقوقه.
□ وهذا وذاك يدفعان الطبقة الحاكمة/ وأهم من ذلك المالكة كي تقدم مرونات حرياتية لرشوة الناخب كي لا يتوصل إلى الإضراب وقطع عمل خط الإنتاج. فالموظف في جهاز بيروقراطي والمعتمد على الأعطيات صغيرة أو كبيرة، ما هي مصلحته في الإضراب على سيده الذي يطعمه دون أن يُنتج كحال قرابة ربع مليون في الضفة والقطاع (آخر دولتين في الكوكب).
لذا، فاحتجاز التطور بمدخله الأساس احتجاز التصنيع هو أمر مقصود وهو جزء من الحرب الأهلية التي تشنها الطبقات الحاكمة/ المستورِدة من جهة، وهي نفسها مستَوْرَدة (كأنما أُنزلت بالمظلات في هذا الوطن) إلى الوطن العربي. وليس من الدقة بمكان نسب الأمر ببساطة إلى الإرث الاستعماري والإمبريالي والمعولم وحسب.
هذه المواقف والأعمال والخطط ضد الأمة العربية تصب شاءت أم ابت، وفي أحيان كثيرة صبَّت بمشيئة وخطة لصالح الكيان الصهيوني الذي يحاول أن يكون الطرف الرابع، في الإقليم، في تفتيت الأمة العربية. أما مركز القيادة لكل هذه الأطراف فهو المركز الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، بغض النظر عن طبيعة تحالفاته مع هذا الطرف او ذاك.
يشكو الكرد من تقسيم المنطقة التي أتوا إليها، وكان ذلك بالطبع ضمن معادلة استعمارية لم يكن للعرب شأن بها. ولكنهم في الوقت نفسه يعززون تجزئة الوطن العربي واغتنموا ولا يزالون اية فرصة للمشاركة في تعزيز هذه التجزئة. وبالتالي يرهنون انفسهم كأدوات للمركز على حساب الأمة العربية خاصة. ومن هنا فهم نبتٌ سيىء ل سايكس- بيكو.
في هذا الصدد، أود التعرض مجدداً لأطروحتي في هذا السياق، اقصد سياق المسألة القومية الحديثة أو المعاصرة. لا أقصد هنا الحديث عن القومية ما قبل الراسمالية وتحديداً عن الأمم القديمة، والتي يحاول الغرب، بما هو حديث عهد بالنعمة والقومية، تلافي الحديث عنها أو الإقرار بها وينسب الأمم إلى المرحلة الراسمالية.
وحتى القومية بمعناها العصري اي في المرحلة الراسمالية فإن الغرب ينسبها أو يعزوها إلى أوروبا القرن التاسع عشر، ويعممها على مختلف بلدان العالم، أي من المركز إلى المحيط وذلك بتسمية ذلك القرن عصر القوميات دون ان يحصر ذلك في اوروبا. وأعتقد أن ذلك العصر هو عصر الموجة القومية الحديثة الأولى التي حصلت في أوروبا حصراً وحتى غالباً في أوروبا الغربية التي شهدت الانتقال الأول من الإقطاع إلى الرأسمالية، وشهدت بالطبع الثورة الصناعية.
بينما الموجة القومية الثانية هي قوميات المحيط والتي تمظهرت بوضوح في حروب التحرر الوطني من الاستعمار في منتصف القرن العشرين. لقد حاولت هذه ربما جميعها اقتفاء أثر الموجة الأولى، ولكن كان الوقت قد تأخر. فقد قررت أوروبا أن : “لا أوروبا بعد أوروبا” ولهذا حديث آخر. لذا كانت النتيجة أن اندفعت هذه الأمم الجديدة والمتجددة في دروب البحث عن صيغ اقتصادية اجتماعية ثقافية لتطوير شخصياتها المتولدة/المتحررة حديثاً، لكن إغلاق باب الطور واحتجازه الذي بدأ من المركز وتبنته كمبرادور المحيط حال دون ذلك، فاستدار معظمها استدارة طالت أو قصرت ليعود إلى التبعية بقرار واختيار.
وإذا كانت قوميات الموجة الثانية قد حاولت، وكثيرا منها بإخلاص، فك إسار التبعية، وبناء أمم جديدة متحررة، فإن موجة القومية الثالثة التي ترافقت مع العولمة، في حين الثانية مع الامبريالية والأولى مع الاستعمار، فإن الموجة الثالثة أتت عميلة بامتياز. بل هي غالباً من تصنيع الراسمالية في حقبة العولمة مما يعني أن شرطها الأساسي أن تكون عميلة. أن تكون على حوامل إثنية، كمبرادورية، فئوية وطائفية، وحتى حالاتها القومية فهي مقودة بشرائح الكمبرادور والقيادات القبلية التجارية والريفية من كبار الملاك التي لم تتمايز مصالحها عن مصالح الاستعمار سابقا والعولمة حالياً. من هذه دولة الكرد، والدول الأخرى المحتملة في العراق ودارفور وجنوب السودان …الخ.
أعود إلى الأمة العربية، التي يعمل كافة هؤلاء الأعداء على حصرها في ذاتها وليس لذاتها. وتتم هذه المحاصرة عبر دعم الطبقة/ات في ذاتها كي تتمكن من إبقاء الأمة في ذاتها. ويكون بعد ذلك وحتى اليوم مصدر الهجمة، أو أحد مرتكزات أعداء الأمة العربية أنها منقسمة بلا مشتركات، قبائلية، ليست من روح العصر…الخ وكل يوم يبتكرون صفة سالبة أخرى بدافع استشراقي يخلق الواقع من عندياته ويلقيه على الواقع الحقيقي. وكل هذا للوصول إلى الهدف الأساس تشتيت الأمة العربية إلى الأبد ونفي بالتالي اي مشترك قومي لا شعوري بالمعنى الرومانسي القديم ولا كمصالح مادية للطبقات الشعبية بالمعنى العلمي/الطبقي الحديث. وفي حين أن القومية مرحلة ضرورية تاريخياً في مختلف بلدان العالم، تصبح افتئاتاً على التاريخ في الحالة العربية.
لفت نظري اقترابك من القول بأن ” الطبعتين المحليتين للأمميتين ال- الشيوعية والإسلامية” تلتقيان ضد الأمة العربية. في حين أن الأمميين في مختلف بلدان العالم لم يقفوا سدَّاً في وجه أممهم. فهل السبب هو ذلك التوظيف الخارجي للمحليين في الأمميتين؟ ما الذي يدفع قوى سياسية ومثقفين إلى هذه الدرجة من التخارج المدمر لواقع أمتهم، وهو تدمير عياني ومرئي، ولا يتغيرون وكأنما هي مسألة تكوين بيولوجي وليس وعيوي وحسب؟
في مثل هذا الواقع لا يعود غريباً أن يوجه أوباما دعوة التطبيع بالجملة، إلى قطريات متفرقة! لا تلتقي على اي مشترك عربي إيجابي، ويعاملها المركز كمجموع او كتلة واحدة أثناء فرض اتاوات وتنازلات عليها، بدءاً من الاعتراف بالكيان الصهيوني، وشطب حق العودة والتخلي عن أجزءا من أراضيها وصولا كما حصل مؤخراً إلى تقديم هؤلاء ما في الصناديق السيادية لإنقاذ اقتصاد عمالقة لصوص العالم، وإلا ما معنى أن يسرق برنارد مادوف (إبن العم) 50 بليون دولار! ومادوف واحد من طبقة وليس فرداً استثنائياً. وهنا يقف مثقفو التسوية والتطبيع من الأمميتين مع ما يقوم به المركز، ويقفون أنفسهم في خدمته؟