راهنية الفكر الماركسي

فؤاد خليل

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1989)

أخذت الماركسية بالمفهوم المادي في نظرتها إلى التاريخ والمجتمع. وقد تبيّن في ضوئه أنها تتصف بطبيعة إنسانية عامة. لان جوهر نظامها المعرفي يقوم على فكرة المساواة بين بني البشر. وهو ما يجعلها ملازمة للحاضر المجتمعي باستمرار طالما أن المجتمع الطبقي ينتج الظلم والاستغلال والتفاوتات المختلفة بين طبقاته ومكوناته الماركسية هي نظرية سوسيولوجية ماكرويّة (شمولية)، تناولت المجتمع بكل جوانبه. وهي عندما تدرس ظاهرة ما، لا تدرسها بمفردها، بل تقيم الربط الديالكتيكي بينها وبين الظواهر الأخرى. أو بمعنى آخر، إنها تدرسها من داخل سياق وبنية. وكل تحليل من هذا النوع، سوف يظل حاضراً في الفكر السوسيولوجي، ويشكل مرتكزاً لإحدى مدارسه، أو لأحد اتجاهاته البارزة.

النظرية الماركسية هي نقدية وتغييرية في آن. فالنقد في نظرها يحيل إلى الكشف عن الزيف الأيديولوجي في المفاهيم والأفكار التي تسوّغ الواقع الطبقي القائم وتدعو إلى استمراريته، أو هو فضح وتعرية للأقنعة الأيديولوجية التي تحجب حقيقة هذا الواقع… إنه بهذا المعنى، ممارسة نظرية في التغيير أو فعل تغييري بأدوات المعرفة. أما التغيير، فهو بالنسبة إليها عملية تنهض على العوامل الداخلية في المقام الأول، وتنشد تقويض النظام السائد. ولذلك، فهو ممارسة سياسة في نقض الأساس المادي للاستغلال، أو في إعادة تشكيل طبيعة البنى المجتمعية. وعليه، فالماركسية هي نظرية في الممارسة بوجوهها المختلفة، أو هي ممارسة في الديالكتيك الواقعي بين النظرية والتجربة، والتي تتجسد في السياسة من حيث كونها المسار العملي الذي يلعب فيه الأفراد والجماعات دورهم في التغيير الجذري أو البنيوي.

وعلى أساس النقد والتغيير وتالياً الممارسة، تبقى الماركسية نظرية حية وخصبة في وعي حقيقة المشكلات المجتمعية، والكشف عن أسبابها الموضوعية. ذلك أن كل علم إنساني يغيب عنه النقد، يقع في التبرير الأيديولوجي للواقع، حتى وإن ادّعى الحياد والموضوعية.

تناولت الماركسية المعرفة والثقافة بالتأسيس على الوجود المجتمعي لكل جماعة بشرية، لا على خصائصها العقلية أو ميزاتها النفسية. ولقد نأى بها هذا التأسيس عن نزعة الاستعلاء والتفوق في نظرتها إلى ثقافة الآخر غير الغربي. ثم أفضى بها إلى إحراز قصب السبق في بناء علم اجتماع المعرفة والثقافة على قواعد موضوعية، ما برحت توجه أبحاثه ودراساته المعاصرة، كما إلى تزويدها بقدرة علمية على تجديد نفسها داخل حقلها التاريخي المخصوص، وقابلية منفتحة باستمرار على التبيئة والتوطين خارجه.

درست الماركسية المجتمع البرجوازي في أوروبا، واتصفت دراستها بعلمية متميزة، سواء من حيث منهجها أو من حيث أدواتها التحليلية. فأتاح لها ذلك أن تشخص بدقة قوانينه الرأسمالية، وان تكشف عن أزمته البنيوية التي تلازم مسار تطوره ولا تنفك عن الظهور الدوري بأشكال مختلفة بين مرحلة تاريخية وأخرى. ومما اشتمل عليه تشخيصها من قوانين ونظريات:

* قانون التناقض البنيوي بين علاقات الإنتاج والقوى المنتجة/ التناقض بين رأس المال وقوة العمل/ مصدر الأزمة الدائمة في الرأسمالية

* قانون التوسع وإعادة التوسع في الإنتاج/ أصل العولمة الرأسمالي

* قانون التراكم في رأس المال/ مصدر النهب والسيطرة الاستعمارية.÷ نظرية القيمة /فائض القيمة/ مصدر الاستغلال الرأسمالي.

وهكذا، فمن ينظر موضوعياً في هذه القوانين يجد أنها ما زالت تحكم إلى حد بعيد قواعد اشتغال النظام الرأسمالي المعاصر. ومنها ما يحدد الأصول التاريخية للعولمة، ويساهم في تفسير حاضرها في الوقت نفسه

*تمثل الحداثة رؤية عامة للعالم، مرجعيتها العقل. الإنسان فيها مواطن سيد نفسه، يتحكم في مصيره ويؤمن بأن مصدر المعرفة يكمن في العقل وليس في أي مكان خارج رأس الفرد. والطبيعة هي موضوع للمعرفة، أي معرفة قوانينها بهدف استغلال مواردها والسيطرة عليها. والمجتمع بالنسبة إليها، تحرر من «الأمس الأزلي»، سلطة الأعراف والتقاليد، وبنى تنظيمه على قواعد عقلانية، ودولته من منطلقات القوانين والتشريعات الوضعية، وقد عرفت اسم الدولة ـ الأمة.

وفي الزمن الحداثي نفسه، أخذت الماركسية، كما هو معروف، بنظرة مادية تاريخية إلى العالم. فوجدت من خلالها أن البرجوازية تقوم في بداية عهدها بدور تاريخي تقدمي، أي بتنوير العلاقات المجتمعية. لكن ما إن ترسخ سلطتها حتى تروح إلى دور معاكس، هو تأبيد علاقات الظلم والاضطهاد بحق أوسع الطبقات المجتمعية. من هنا كان طبيعيا أن تنقد الماركسية مقولات الحداثة ومفاهيمها. ولقد أظهرت في هذا المجال، أن الإنسان في المجتمع البرجوازي ليس حراً أو سيد نفسه بل مستغل ومقهور. وان معرفة الطبيعة لا تكون من اجل السيطرة عليها فقط، بل أيضا في سبيل التقدم البشري عامة. وان العقل لا يعدو عن كونه فكراً برجوازياً يراد له أن يعولم قيمه وأحكامه، والعقلانية توظف في خدمة الحفاظ على الواقع الاستغلالي القائم، وفي حجب تاريخ العنف “العقلاني” للرأسمالية. كما كشفت عن طبيعة الدولة البرجوازية ووظيفتها الأصلية في القمع والسيطرة الطبقيين… وبذلك، تكون الماركسية الوجه الآخر للحداثة. وهذا ليس إلا وجه اشتراكيتها العلمية المعادل التاريخي للحداثة الحقيقية وفي زمننا الراهن، تمثل ما بعد الحداثة وبخاصة وجهها التفكيكي، رؤية فلسفية للعالم. وهي ترفض أو اقله تتشكك في أي مرجعية معرفية سواء كانت العقل أم المادة أم الروح… الخ.

فالعقل في نظرها لا يستطيع أن يتوصل إلى حقائق ثابتة أو مطلقة، بل جل ما يتوصل إليه، هو معرفة الجزئي، والحدثي او الظرفي، أي أن معرفته متغيرة باستمرار مع تغير الظرف والحدث. فيغيب بالتالي المنطقالعقلاني واليقين المعرفي، ولا يعود هناك تمييز بين الزائف والحقيقي أو الخطأ أو الثابت للعالم. وهو أصل يشكل عودة للغيبية الدينية، ويمثل سقوطاً في ميتافيزيقا التجاوز، كأن يجري الحديث على سبيل المثال عن كل مادي متماسك أو عن قوانينه الثابتة. فالكل لا يمكن أن يكون مادياً والمادة هي أجزاء. كما لا يمكن أن يكون ثابتاً والمادة في حالة حركة وصيرورة. ومع رفض أي أساس أو مصدر معرفي، لا يعود الإنسان في رؤية ما بعد الحداثة يستحق أي مركزية في الكون طالما لا يستطيع أن يدرك الواقع عقلانياً، أي أن يتوصل إلى إدراك الكليات لانتفاء الثبات في الطبيعة والمجتمع والذات الإنسانية. وفي النتيجة، يغدو مجموعة من الدوافع المادية والاقتصادية والأهواء المضطربة المتغيرة أبداً. وفي الجهة المقابلة، تمثل الماركسية من حيث كونها وجهاً إنسانياً في الحداثة، إحدى فلسفات الأصول والمرجعيات المعرفية. فهي تنطلق من المادة، المقولة الفلسفية التي ترى أن للعالم وجوداً موضوعياً مستقلاً وخارجياً عن وعي البشر. وتعتبر أن خاصتي الموضوعية والخارجية تحايثان الطبيعة وتحولاتها إلى موضوع للمعرفة والإنسان يستطيع أن يكتشف قوانينها ويتوصل إلى حقائق ثابتة عنها، لكنها بالتأكيد حقائق نسبية ومتراكمة. و نسبيتها تنبع من اكتشاف وقائع طبيعية جديدة، ومن الاغتناء المستمر لأداة التفكير نفسها. وبلغة أخرى، إن الماركسية لا تنظر إلى العقل كمعطى ماهوي تتوفر بنيته على حقائق فطرية أو قوانين قبلية وبعدية، أو على قوة مطلقة كامنة فيه، ولا كفعالية ذهنية تنحصر في نطاق معرفة المادي الجزئي في حركته الدائمة، بل تنظر إليه كأداة للتفكير تبنى ويعاد بناؤها في التاريخ، وهي تستطيع أن تتجاوز المادة إلى إدراك الكليات، أي أنها تستطيع أن تنتج الكل المادي الثابت، وان تميّز بين الزائف والحقيقي والخطأ والصواب والعرضي والجوهري، وتخوض في الغيب وفي مفاهيمه الماهوية والمطلقة. وعلى هذا يحوز الفرد مركزيته في الكون، وهي ما تتلازم مع فعله المجتمعي لأن جوهره الإنساني يكمن في مجموع علاقاته المجتمعية. فتكون الماركسية بالتالي، نظرية في الموازنة بين الفرد والجماعة، مثلما تؤلف نظرية نقيضة ابستومولوجياً لأطروحات ما بعد الحداثة، وبخاصة تلك التي ترى إلى الإنسان جملة من الدوافع المادية والاقتصادية والنوازع والأهواء المضطربة غير العقلانية.

“السفير”