د. خالد سليمان
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1994)
لا يتوقف قطاع الإدارة في مجتمعنا العربي عن التعرض لوابل من الانتقادات الوجيهة، وذلك بالنظر إلى ما يعانيه ذلك القطاع من بؤس وهشاشة وقصور، لكنني أخشى وأزعم أن القضية ليست قضية إدارة هزيلة ومذعورة فقط، بل إنها أعمق من ذلك بكثير وأخطر، وليس تدهور حال الإدارة إلا مجرد مظهر واحد من مظاهرها. إنها ـ حسب ظني ـ قضية الافتقار إلى هوية حضارية واضحة، والاحتياج إلى شخصية ثقافية ناضجة واثقة. فحتى الآن، ولأسباب عديدة متداخلة، ما زلنا عاجزين عن ترسيم معالم شخصية حضارية محددة لنا، فنحن لا ندري من نحن! نسمي أنفسنا زوراً وبهتاناً أبناءاً للحضارة العربية الإسلامية، ولا ندرك ما الذي يعنيه ذلك في واقع الأمر، وما الذي ينبغي أن يترتب عليه من استحقاقات عملية، فنتخبط في كل مجالات حياتنا وفق اتجاهات فسيفسائية متنافرة، حتى أضحينا مثل ذلك الغراب الساذج الذي حاول أن يقلد الحمامة في مشيتها، فلا هو أصبح قادراً على تقليد مشية الحمامة، ولا هو ظل قادراً على الاحتفاظ بمشيته الطبيعية، ليغدو كائناً مشوهاً يثير السخرية والازدراء!
علينا أن نعترف أننا نتعامل مع كل ما هو غربي بمنطق الإحساس بالهزيمة والنقص والانسحاق، لذلك لا نجد حرجاً أو غضاضةً أو غرابةً في النظر إلى “الغربي” وكأنه مبعوث العناية الإلهية لإنقاذنا نحن “المتخلفين” مما نعاني من مشكلات، فنتوهم مثلاً أن “خبيراً” أجنبياً “ديجيتالياً” لم يعرف الفقر في حياته، ومن العسير جداً أن يفهم عقليتنا وثقافتنا ومشكلاتنا، أقدر منا على وضع الحلول لمساعدة فقرائنا على التخلص من فقرهم، ونعتقد ـ خطأً ـ أن حال مؤسساتنا الوطنية لن يستقيم بحال من الاحوال إلا إذا استعنا بخبراء أجانب لمعاونتنا على إدارة تلك المؤسسات وتنظيم شؤونها!
نذهب إلى بلاد الغرب للدراسة أو العمل، فنكون مجبرين على تعلم اللغة الإنجليزية واستخدامها، وهذا أمر طبيعي ومنطقي، أما الأمر غير الطبيعي وغير المنطقي، فهو تدافع “الخبراء الأجانب” على بلادنا بدعوى مساعدتنا على فهم أنفسنا ومجتمعنا ومشكلاتنا وهم لا يكادون يعرفون كلمة عربية واحدة! وبدلاً من أن يشعروا بالحرج لجهلهم الفاضح بلغتنا وثقافتنا واحتياجاتنا الحقيقية وعجزهم المرجح عن مساعدتنا بصورة جدية، نشعر نحن بالحرج نيابة عنهم، ونهرع متلعثمين للحديث بلغتهم واستخدام منطقهم، وما ذلك إلا لإننا نعتقد في قرارة أنفسنا بأنهم أفضل منا وأعلم وأرقى، وأنهم، بلغتهم وأفكارهم، يمثلون المرجعية والمعيار والأنموذج الجدير بالاتباع والتقليد! الذين يتعاملون مع من يسمون “خبراء أجانب” يفهمون تماماً ما الذي أعنيه، فالكل يلاحظ أن كثيراً من أولئك “الخبراء” يأتون في حقيقة الأمر للاستجمام والأخذ بيمينهم معظم ما تمن به الجهات المانحة علينا بشمالها، وأن معظمهم يحتاج إلى سنوات طويلة من الإقامة بيننا حتى يتمكنوا من إحراز قدر بسيط من الفهم لمجتمعنا ومشكلاته، وهم الذين جاءوا بزعم أنهم “خبراء” لتطويره وتنميته!
قبل سنوات، أقدم الرئيس الفرنسي السابق “جاك شيراك” على الانسحاب من اجتماع مهم للمجموعة الأوروبية هو والوفد المرافق له، وذلك احتجاجاً على شروع مواطنه الفرنسي الذي يترأس مجلس الأعمال الأوروبي في إلقاء كلمته باللغة الإنجليزية. لقد قال “شيراك” في معرض تفسير حركته الجريئة أن بلاده لطالما حاربت لضمان التحدث بالفرنسية وعدم الاضطرار إلى استخدام الإنجليزية في المؤسسات والمنظمات الوطنية والدولية، وأن ذلك لا يشكل مصلحة قومية لفرنسا وحسب، بل يمثل أيضاً مصلحة للتواصل والحوار المتكافئ بين مختلف الثقافات؛ إذ لا يمكن بناء عالم يعتمد على ثقافة واحدة أو لغة واحدة.
يبدو أن “شيراك” أكثر وعياً من الكثيرين من أعضاء نخبنا “المستغربة” بمخاطر تسويد اللغة الإنجليزية، بالرغم من الأهمية القصوى لتعلمها. فهو يدرك ـ عن وجه حق ـ أن اللغة ليست مجرد وسيلة محايدة للتخاطب والاتصال كما يزعم البعض، بل إنها روح الثقافة والوعاء الذي يختزن مكونات هذه الثقافة ويحفظها. ومن ثم فإن السماح بهيمنة لغة مغايرة على المستوى الوطني لن يكون في المحصلة النهائية إلا على حساب الثقافة الوطنية، التي ستغدو تحت وطأة اللغة المتطفلة ضحية التشويه والتهميش والذبول، وربما الانقراض في بعض الحالات.
يعتصرني الهم وينهشني الأسى كلما وردتني رسالة من جهة عربية بلغة غير العربية، وأحاول جاهداً التفكير في مبرر شرعي واحد يسوّغ ذلك، فلا أنجح على الإطلاق. والمؤسف أن بعضنا بات يستسهل الحديث والكتابة باللغة الإنجليزية، وهو ما يوحي بضرب من ضروب النبذ والاحتقار المضمر للغة والثقافة العربية. البعض الآخر من الذين يصرون على التشدق بالحديث والكتابة بالإنجليزية يريدون أن يلبسوا ثياباً ليست لهم، وأن يحولوا أنفسهم وبصورة مجانية تستحق الرثاء إلى نماذج مشوهة لأصول قد لا تنقصها التفاهة في كثير من الأحيان! صحيح أن “من تعلم لغة قوم أمن شرهم”، وصحيح أن تمكن الإنسان من إتقان اللغة الإنجليزية يفتح له آفاقاً معرفية واتصالية أرحب، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يعني بحال من الأحوال إهمال لغتنا القومية والنفور من استعمالها، وكأن في ذلك ما يعيب أو يشين! فمن تخلى عن لغته وخجل من الحديث بها فإنه يخطو خطوة واسعة باتجاه التخلي عن هويته، وليس لهذا الذي يضحي بهويته إلا أن يسقط سريعاً، أو يعمق من سقوطه، في متاهات التبعية والاستلاب.
ليس سراً أن المراسلات الداخلية في كثير من مؤسساتنا الوطنية تُتبادل باللغة الإنجليزية! وليس سراً أن كثيراً من الاجتماعات في مؤسساتنا الوطنية تتم باللغة الإنجليزية، إما من باب ادعاء النخبوية والتميز، وإما إرضاءاً لزائر أو ممول أجنبي! وليس سراً أن إعلانات كثير من المؤسسات الوطنية عن مشاريعها وعطاءاتها تنشر في صحفنا العربية باللغة الإنجليزية! وليس سراً أن الكتيبات التعريفية والمواقع الإلكترونية لكثير من المؤسسات والمراكز والجامعات الوطنية تصمم باللغة الإنجليزية في المقام الأول، وكثيراً ما يتم تناسي إعداد تلك المواقع والكتيبات باللغة العربية، وكأننا نعيش في “نيويورك” أو “لندن”، وكأننا نعمل لا من أجل مخاطبة وخدمة أبناء مجتمعنا الناطقين بالعربية، بل من أجل إرضاء “سادتنا” الغربيين وإقناعهم بأننا نبذل قصارى جهدنا كي نكون مثلهم، وربما لاستدرار عطفهم لنفحنا حفنة من الدولارات، التي كثيراً ما تجد طريقها إلى جيوب اللصوص والفاسدين! إن احتياجنا للمساعدة في بعض المجالات لا يعني أن علينا أن ننبطح على وجوهنا ونتبرأ من لغتنا وثقافتنا كي تتعطف علينا المؤسسات الغربية بدعمها، ومن الواجب أن نعمل جاهدين على إيصال هذه الرسالة بوضوح ومباشرة لتلك المؤسسات، وإلا فإن من الأشرف لنا حتماً أن نتخلى عن ذلك الدعم المجبول بالمذلة، والذي يسهم في كثير من الأحيان في تجذير آفات الاتكالية والتبعية والفساد فينا.
إشكاليات كثيرة تديم استلابنا الحضاري وتعزز من تبعيتنا المهينة، نتلمس آثارها في الإدارة والتعليم والثقافة والفن والسياسة والاقتصاد، وبالتدقيق في تلك الإشكاليات، نجد خيوطها تلتقي عند إشكالية أعم وأكبر، تتمثل في ضبابية هويتنا الحضارية وتشوشها؛ ما يجعل من قضية العمل على بلورة الشخصية الوطنية الحضارية الناضجة الواثقة المعتزة بنفسها، أي الشخصية العربية الإسلامية بحق، قضية في منتهى الخطورة والاستعجال، تتطلب وقفة جادة ومخلصة، وعلى كل المستويات وأرفعها، بعيداً عن منطق الشعارات الفارغة والفزعات الكاذبة الذي ابتلينا به في مجتمعنا العربي، فكيف يمكن أن نتوقع من “الآخر” أن يحترمنا ويعاملنا بنديّة وكرامة، ما دمنا لا نحترم ذواتنا ونستعرّ من لغتنا وثقافتنا وننظر إلى أنفسنا ككائنات دونية قاصرة لا تتمتع بهوية واضحة، وتحتاج إلى وصاية خارجية وتوجيه أجنبي!؟