(لنشرب نخب أزمة راس المال)
د. عادل سمارة
إلى أحمد حسين في فلسطين البعيدة للاطلاع،
وإلى نور الدين في كوبا القريبة للتواصل
في تلك اللحظات المضمخة بالنشوة، ونور الكون المتجدد بعد ليلٍ طويل، في تلك الهنيهة حيث بدأ التاريخ نشيد اقتلاع ليس بعيداً لرأس المال، وبدا أن ما بينه وبيننا فراسخ ليس أكثر، لحظات سقطت على أسماع فقراء العالم أنباء تدهور البنية التمويلية الأميركية وما تبعتها من انشطارات متسلسلة في مختلف دول المركز، وحتى توابعها في المحيط، في هذا الهتاف التاريخي العميق والعتيق خالطني مجدداً وشغلني ذلك الحلم الطويل الجميل، “سقوط راس المال”، حاملاً إلينا مولود البشرية الجديد، إلى الأرض يعود السلام. تستعيد الأرض الطِيْبَة والنظافة والعذرية كما كانت ذات يوم عتيق حين عانقت هي أوَّل الإنسان قبل أن يفترقا ويخونها ويخدعها بأن يطوعها هي والمرأة لملكيته الخاصة. ذلك الشر مولد الشر، والحمل الخبيث بتنوعاته، هو الإنسان الذي اغتصبها وفضها.
عادني وعاودني بل أرَّقني الحلم بتلاشي الجوع، ووفرة الغذاء والكرامة للفقراء، والعيش طويلاً ليكون الهرم وليس المرض سبب رحيل البشر. عادني الأمل بأن كل شيىء للناس من لقمة الخبز حتى اللحن ليصعد الإنسان حتى يتغذى باللحن وحفيف الأغصان، ويشرب زبد الماء، ويغتسل بندى الليل، ويتوالد بالحب، ونفح الروح وقول الشعر وليس الإيلاج. شاقني هذا الحلم، وأنا أرى كيف تذوب تريليونات الدولار متحولة إلى سم زعاف في حلاقيم حاملي أكثر اسهم ليمان برذرز، وسيتي بانك، وحتى صغار الصيارفة على أرصفة رام الله العاهرة الصغيرة المحتلة بأنواع الاحتلال، وليس الاحتلال الشيلوخي إلا أحدها.
ورغبة بوعي أن يتواصل الحلم مع ما يعرضه الواقع الموضوعي، أعني وجوب فتح مغاليق التاريخ، نتج في ذهني مصطلح “متاريساً فكرية”. وقد تسائلت وسألني رفاق ورفيقات: “هل اللحظة هي لحظة متاريس دفاع، أم لحظة الاندفاع الطبقي؟ وأراني أفضل القول هل اللحظة لحظة الرغبة ام الوثبة؟ ولو كنت اعتقدها لحظة الوثبة، لما أسميت الحلم متاريساً فكرية، بل لأسميته توزيع البنادق والسيوف والعصي والمُدى والسفافيد، وحتى النعال. ولكنها، وإن لم تكن لحظة الوثبة والنهوض عليهم، فهي ليست لحظة التراجع بل لحظة بدء التقدم. تقدم كالتاريخ، بطيء نعم، ضخم لا شك، إنما قوي ، ليس مطواعاً بل حتى لئيماً. هو كالعاشق الخبير الذي لا تثيره اللحظة المشبوبة للشباب ، وإن كان يحبهم بما هم ابناؤه.
قصدت، إن كان وعيي تماماً لي، إقامة متاريس فكرية على أية أرض في الذهن تتحرر من وباء رأس المال الذي أدخل كافة الأوبئة في عقول الجماهير، ونفسه ايضاً، بأن ما هو في الحالي هو للأبد، وبأن سفينة نوح استوت على الجوديِّ، وقُضِيَ الأمر لغير صالح كل أمر سوى راس المال. فجاءت الأزمة التي كشفت عن عورة الراسمالية، ليس بالمعنى البيولوجي المبتذل للنهدين أو الفرج أو القفا، بل العيب المتركز في الأخلاق.
لم تمض سوى بضعة اسابيع حتى بدأ اشتعال الاتهامات بين الشرائح الخمس، ولا أقول النخب- فالنخب تحمل محمولاً أكثر نظافةً- لراسمالية الولايات المتحدة. خرج مُدَّعوا الرصانة والحذق عن أطوارهم، فتناكفوا مثل صغار الدِيًكةْ . صبت الرأسمالية الصناعية منتجة السلع وماكينات إنتاج الماكينات جام غضبها على راسمالية التمولن Financialization ، وصبت الشريحة السياسية الحاكمة غضبها على ذات المجمع العسكري الذي دفع بعمى الربح نحو إبادة العراق العربي ليبيع اسلحته، واحتارت النخبة الإعلامية الإيديولوجية ماذا تقول: هل تُواصل مدح الذين يجهزون لمعركة مجدو، أو تمتدح الساحر الأفروأميركي القادم إلى البيت الأبيض؟ وهو الذي لم يهن له وقوعها تلكؤها في الذبح فاعلن الحرب من كولومبيا على أميركا الجنوبية حيث أخذت كوبا تتوالد هناك نورا وناراً وماء وكلأًً. أوباما بن حسين نقل مجدو إلى هناك، فمجدو حالة حرب طائرة من قارة إلى أخرى، وإن طال أمد راس المال من الأرض إلى القمر، كي يُقسم راس المال بأنه رصد مواقع النجوم واغتصبها. من أجل مجدو، ليمت اطفال الفقراء، وعاشقات المحبين تحت عجلات دبابات رأس المال! ولن تتمكن ضفائرهن من لجم زردها. آهٍ يار رفيقي، أعادتني هذه اللحظة إلى ملجأ العامرية في بغداد. هناك رايت عيون النساء والأطفال ملتصقات على حوائط ذاك الملجأ، وما تزال عليها هُدبها. كان ذلك إثر قصف اليانكي حمر الرقاب، ومعهم الأعراب للملجأ الذي أخذوا خريطته من شركة فنلندية كانت قد صممته؟ هل ترى كم رأس المال عميلاً ووسخاً. فنلندا، الحكومة غير الحكومية فعلت هذا، ونظيرتها النرويج أعطتهم مناظيراً ليبصروا فيها ليلاً، فلماذا لا نُعميهم نهاراً. هل تخيلت معي كيف يمكن لإنسان أن يّذيب عيون الغواني بالماء المغلي حتى التبخر، ليأخذ إثر ذلك نفطاً. ولم يكتفوا ، عادوا عام 2003، ليفقأوا العيون التي ظلت ماثلة على جدران العامرية، ويرسموا عليها صور مثقفين عملاء مثل كنعان مكية، وساسة دخلاء مثل نور المالكي؟ هل تتصور أن يوضع اسم هذا “كنورٍ” مكان عيون ليلى العامرية!
لإطفاء شدة حماسة الفقراء، كان لا بد لراس المال من تسريب خليط من الأحاديث للطمئنة والدغدغة والخداع. فكان رمي الجريمة على المدراء لا على البنية، فكان الإعلان عن اعتقال برنارد مادوف، ولاحقا مساعده بما هم لصوصا في مستوى الخمسين بليون دولار وأكثر للواحد منهم. وهكذا ليبدو النظام قانونياً، عادلاً جاداً في اقتلاع “الشر”. لكنه، بهذا ابان للفقراء أن أنيابه ما تزال في مواقعها. لهذا كان لا بد من المتاريس الفكرية، ليبصر الفقراء أن هذا العملاق متآكل من داخله، وأن ذاك الطلاء الجميل يحفظ في داخله قيئاً لا يحتاج إلا لمبضعٍ صغير كي يبزله.
تحضرني المتاريس الفكرية هنا، في اللحظة، يحضرني وجوب وقف هذا الزيف والخبث، ورفع الوعي إلى مقام المرحلة وكرامة الناس، ليقوموا باقتلاع جورج بوش كفرد وحزبه كَمَدْبَرة من القتلة ولصوص ليلقوا بمهانة مصير من لاقوا مصيرهم على ايديهم، لكن بكرامة. ليتم الثأر للجوعى، للذين يحلمون بزجاجة الحليب، وحذاء لا يتدفق فيه ماء الشتاء المقدس، ولهاتيك اللواتي اغتصبن أمام أنفسهنَّ أولاً، وشقيقاتهن ونظيراتهن وامهاتهنَّ ثانياً، والناس جميعاً ثالثاً.
متاريس فكرية تفضح كل ما لا يقف في قلب هذه الكرة الأرضية ويعلن أن كفى لراس المال، كفى لتحويل الحديد إلى مدفع، والعناصر الكيماوية إلى قنابل والدم إلى شراب فاخر.
المتاريس الفكرية لحظة تماسك فكري ، لحظة حوار واطلاع، لحظة توعية وتحريض، لحظة قول الشعر في معرض حق الفقراء، وتشكيل المقطوعات الموسيقية لرقص الفقراء حفاة، ألم يرقص الإنسان الأول قبل الدنَس حافياً وعارياً؟ وحينها لم يعرف السلام الملكي والجمهوري والمشيخي.
المتاريس الفكرية حالة وعي، وتوعية لما هو آتٍ. لحظة تلقيح الأرض لتنبت حبا وخضاراً وبنفسج، بدل تجويف فرجها ليصبح “ملجئاً” لجورج بوش يوم اغتيال البرجين القتيلين.
متاريس فكرية كي تشد الهمم بعد تراخيها أمام تعاويذ نهاية التاريخ، شد الهمم للحيلولة دون تراجع أولئك المثقفين الكبار الذين وهن منهم العزم يوم تفككت الإشتراكية المحققة فرأوا في ذلك القضاء والقدر الرأسماليَيْنْ! متاريس فكرية تحمل للعالم تحليلاً، قولاً، بشائر واضحة أن الحقبة المقبلة إلى الأمام، وترُدَّ من انكسروا وارتدوا خجلى ثانية إلى الصفوف ليبنوا مجدداً أممية شعبية أخرى وأبقى.
متاريساً فكرية تقول بأن التاريخ لمن يبادر، ولا يبادر إلا العاشق الحقيقي.
كان السبق لشيوخ أميركا اللاتينية
فاجأني الرفيق نورد الدين، وأنا أتعاطى هذا الحلم وأُقيم المتاريس بمن حلموا قبلي بمراحل. حلموا بالمفردة نفسها! عجباً، ألا يدل هذا على أن منهج التحليل والسطوع إلى الحياة بقوة وعزم وتفاؤل يُعطي تقارباً في التفكير والعزيمة حد التشابه؟ إذا خفتم ولم تطلقوا على هذا اممية الناس، لا بأس اسموها إنسانية الناس. يهمنا المحتوى وليس الشكل قط.
كانت التالية رسالة الرفيق نور الدين مصطفى عواد الذي ولدته جنين وصار ابناً لكوبا، فكان اممياً جميلاً، حتى في عصر تخلي المرضعة عما أرضعت!.
(***)
الحبيب عادل
بعد التحية
مقولة الرفيق الجليل الشيخ خوسيه مارتي تعود الى عام 1891 ونصها “متاريس فكرية اهم من متاريس حجرية” وهذا النص بالاسبانية
“trincheras de ideas valen más que trincheras de piedra”.
وهذ هو الرابط الالكتروني
www.filosofia.net/materiales/num/num22/Trincheras.htmا
وبالنسبة لتطوير الرفيق الملحمي فيديل كاسترو لهذه الفكرة التي يستشهد بها في شتى الاوقات والمناسبات اخترت لك مناسبتين:
الاولى في خطاب القاه يوم 11 ديسمبر 1982 في الاحتفال العسكري بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لانزال غرانما وتاسيس القوات المسلحة الثورية الكوبية والذي اقيم في ساحة الثورة في هافانا.
في معرض مقارنة التواجد العسكري الامبريالي الامريكي في عدد من البلدان وتواجد القوات الاممية الكوبية في انغولا، يقول فيديل “انهم يتمترسون في البلدان بدافع من مصالح اقتصادية ومادية وقحة؛ اما نحن فاننا نتمترس خلف افكارنا ومبادئنا. واذا كان مارتي قد قال “متاريس فكرية اهم من متاريس حجرية”؛ فانه يمكننا القول بان الانسان يتحفز اكثر ويعطي قيمة اكبر بالف مرة للتمترس خلف مبدا على ان يتمترس خلف مصلحة مادية”
Ellos se atrincheran en los países por groseras razones de interés económico y material; nosotros nos atrincheramos detrás de nuestras ideas y de nuestros principios. Y si Martí dijo: “Más valen trincheras de ideas, que trincheras de piedra”; podríamos decir que mil veces más vale y motiva más al hombre, atrincherarse detrás de un principio que detrás de un grosero interés material.
وهذ هو الرابط الالكتروني
http://www.cuba.cu/gobierno/discursos/1982/esp/f111282e.htm
الثانية في خطاب القاه فيديل يوم 29 يوليو 2000، في منبر مفتوح اقيم في ساحة “القائد ايرنيستو تشي غيفارا” في مدينة سانتاكلارا، بمناسبة الذكرى 47 للهجوم على ثكنة المونكادا يوم 26 يوليو 1953.
يقول فيديل:” قال مارتي ان متاريس فكرية اهم من متاريس حجرية،ونحن نشاطره هذا التفكير، لكنه لم يقل ان متاريس الحجارة لم تكن ضرورية. كوبا اليوم محمية بمتراس مزدوج حجري وفكري:واحد ضد القوة الغاشمة، ويتكون من جاهزية الشعب للكفاح حتى آخر رمق، بحيث ان الاسلحة المسماة ذكية واحدث الوسائط التي تنبثق من مراكز انتاج ادوات القتل المتقدمة المتوفرة لدى المعتدين المحتملين، لن تغنيهم شيئا. ومحمية ايضا بمتراس عملاق آخر يتكون من مشاعر وافكار ستتحطم على صخرتها كل ترسانة الاكاذيب والديماغوجية والنفاق التي تحاول الامبريالية خداع العالم بها. بالافكار العادلة حقا والثقافة العامة والثقافة السياسية الصلبة، يستطيع شعبنا ايضا ان يدافع عن هويته وحماية نفسه من الثقافات الزائفة التي تنبع من المجتمعات الاستهلاكية المجردة من الانسانية، المجتمعات الانانية واللامسؤولة. وفي هذا النّزال نستطيع ايضا ان ننتصر وسننتصر”.
Martí dijo que trincheras de ideas valen más que trincheras de piedra, y compartimos con él ese pensamiento, pero nunca dijo que aquellas fuesen innecesarias. Cuba está hoy defendida por una doble trinchera de piedra y de ideas: una contra la fuerza bruta, constituida por la disposición de un pueblo a luchar hasta las últimas consecuencias, de forma que de nada valdrían las llamadas armas inteligentes ni los más sofisticados medios que emergen de los avanzados centros productores de instrumentos de muerte que poseen nuestros potenciales agresores. Pero lo está también por una gigantesca trinchera de sentimientos e ideas contra la cual se estrellará todo el arsenal de mentiras, demagogia e hipocresía con las que el imperialismo pretende engañar al mundo. Con ideas verdaderamente justas y una sólida cultura general y política, nuestro pueblo puede igualmente defender su identidad y protegerse de las seudoculturas que emanan de las sociedades de consumo deshumanizadas, egoístas e irresponsables. En esa lid también podemos vencer y venceremos.
وهذ هو الرابط الالكتروني
http://www.radiorebelde.com.cu/26-julio-rebelde/fidel-discurso-26-07-00.html
مع تمنياتي لنا ببناء متاريس فكرية وحجرية ورصاصية نحمي بها انفسنا وامتنا وقضيتنا من سجّيل حمم الرصاص المصبوب وتسونامي الثقافات والمتثقفين الزائفين الذين يعبدون اله راس المال من المحيط الى الخليج مرورا بفلسطين.
نورالدين
هافانا كوبا 22 مارس 2009.
(***)
عزيزي نور الدين
لم استشرك في نشر ما كتبته لي كما هو. ولم أشعر بالغيظ البرجوازي أن آخرين عمالقة سبقوني لهذا الشعور. بل همت في شعور مغايرٍ تماماً، جميل تماماً مثل عيون من أحببت، مثل ظهور أمي لي في الحلم في الليالي العتيمات الحزينات، شعرت انني امتداداً متواضعاً لهم. وتأكدت أن توفر الروح الثورية والوعي المعمق والمخلص ستقود إلى مواقف متشابهة لا متطابقة، لأن التطابق خالٍ من الروح الديالكتيكية. كما تعلم لا أقرأ ألإسبانية، وإلا لقلت إني ربما سرقتها وتمثلتها دون وعي مني، ألا نتمثل الموسيقى والنص الثوري فنخال أننا ابدعناه؟ لا، ليس بين الرفاق سرقة، فاللصوصية هي ديدن راس المال وأهله.
رفيقي، يقتضي الصدق الذي بذلنا دمنا وعمرنا من أجله، أن نُعلن تماماً كيف نفكر ، أن نكون تلقائيين نتدفق كالنبع بلا حوافٍ ولا تقنين، هكذا النبع يُعطي حتى يغور في جوف الأرض يلقحها بحضوره وليس بجزء منه. نفكر ونشعر دون رتوش، هكذا الحب الحقيقي، للناس، لفلسطين، للجزائر لكوبا، وللمرأة الأم.
ملاحظة: استخدمت مصطلح متاريس فكرية في إحدى مقالاتي عن الأزمة المالية الجارية في المركز الراسمالي المعولم، في النشرة الإلكترونية www.kanaanonline.org
سيديْ، حين تأخذني المتاريس الفكرية، اشعر أن عليَّ البقاء صاح حتى أقضي. هل هذا حزن أم حب أم ثورة، هي مجتمعة.
عادل سمارة، كُتبت وصباح 27/8/2009 يُطلُّ على فلسطين حزيناً ولكن جميلاً.