وحدة اليمن في محنتها الراهنة

نصر شمالي

المعلومات عن العصيان أو التمرّد أو الانتفاضة في شمال اليمن معلومات شحيحة جدّاً، بحيث أننا لا نعرف ما يكفي عن دوافع وأهداف العصاة أو المتمرّدين أو المنتفضين، الذين يخوضون حرباً حقيقية في مواجهة حرب حقيقية تشنّها الدولة بقواتها المسلّحة ضدّهم، ولذلك فإنّ قلقنا من بعيد، ونحن لا نسمع سوى أصوات آلات الحرب، يكاد يقتصر على مصير وحدة التراب اليمني، لأنّنا إذا كنّا لم نسمع نداءات انفصالية في الشمال فقد سمعناها في الجنوب صريحة واضحة، وبما أنّ الأحداث متزامنة في الشمال والجنوب فإنّ اليمن سرعان ما بدا، وإن ظاهرياً، كأنّما هو عرضة للانقسام إلى ثلاث دول!

ليس جزافاً ولا اعتباطاً ولا مبالغة القول بثقة أنّ هناك مؤامرات خارجية هدفها تجزئة اليمن وغير اليمن من البلاد العربية وغير العربية، فالوثائق الرسمية كشفت أنّ الأميركيين يعملون على تجزئة العالم إلى آلاف الدول، وما يلفت النظر في بلادنا أنّهم يسعون إلى إقامة ثلاث دول على الأقلّ في كلّ قطر مرشّح للتجزئة، كما هو الحال ميدانيّاً في العراق والسودان، وكما هو الحال إعلامياً ونفسياً في جميع الأقطار العربية بلا استثناء، بحيث صار استقرار هذه الدول يبدو كأنّما هو هشّ ومؤقت حسب إيحاءات أجهزة الحرب الإعلامية والنفسية الأميركية/الصهيونية، غير أنّ ما ينبغي قوله، بثقة أيضاً، أنّ المؤامرات الخارجية لا تستطيع أبداً تحقيق أيّ نجاح من دون توفّر مناخات مواتية داخل البلد المستهدف، فالشعوب والبلدان لا تؤخذ، قطعاً، إلاّ من داخلها، أي بعد نخرها واختراقها!

لقد كتب أحد المفكّرين المصريين (جلال أمين؟) قبل سنوات عن ظاهرة “الدولة الرّخوة”! لكنّ الدول العربية لا تعاني في المقام الأول من الرخاوة أو الترهّل، ولعلّ الأصحّ الكتابة عن معاناتها في المقام الأول من النخر والاختراق، فالرخاوة أو الترهّل يمكن أن تصاب بدائه دول عظمى ثريّة وذات سيادة، أمّا الدول العربية، المنخورة المخترقة، فإنّها تعاني فقراً في الثروة (أي في الدم!) وفقراً في السيادة (أي في الاستقلال) والفقر الثاني هو الذي يتسبّب في الأوّل!

بعد استرداد اليمن لوحدته مع الجنوب رأينا حكومته تفعل، كأنّما عن قصد، كلّ ما من شأنه دفع أهل الجنوب إلى الندم، وإلى الحنين لأوضاع ما قبل استرداد الوحدة! وإلاّ فلتقل لنا هذه الحكومة: لماذا همّشت أهل الجنوب ذلك التهميش الموحش المريب، وهم الذين كانوا على مدى التاريخ الحديث مركز الفكر المبدع والنضال المؤثّر والنشاط المتنوّع الملفت داخل اليمن وخارجه؟ ولماذا همّشت مدينة عدن وأهل عدن، فغاب ذكرها وذكرهم أو كاد، ولم تعد مركزاً بارزاً وركناً دافئاً لاحتضان أيّة فعالية نوعية داخلية أو خارجية، كانعقاد المؤتمر القومي العربي فيها مثلاً؟

إنّ مدينة عدن العريقة هي العاصمة اليمانية الثانية، وهي بموقعها الاستراتيجي المتميّز، على مضيق باب المندب الاستراتيجي المتميّز، ندّ متكامل مع صنعاء، مثلما هي الندّية وهو التكامل بين أنقرة وإسطنبول، وبين واشنطن ونيويورك، فلماذا لم تعامل كعاصمة ثانية إن لم تكن الأولى؟ ولماذا لم يعامل أهل الجنوب اليماني بأكثر ممّا يليق بهم ويستحقّونه، ولو حتى على حساب المناطق الأخرى؟ ألا يفترض بالحكمة اليمانية أنّها أخذت ضرورة ذلك بعين الاعتبار؟

ينبغي علينا، سواء تحدّثنا عن الوحدة أم تحدّثنا عن التجزئة، أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال: ما هي الوظيفة التاريخية للوحدة وما هي الوظيفة التاريخية للتجزئة؟ حيث لكلّ منهما ضرورتها ووظائفها البشرية التي تبرّرها، فهل نريد الوحدة فقط لأنّنا عرب ولأننا كنّا موحّدين ذات يوم؟

لكنّ قرابات الدمّ والتراث والثقافة، التي تشكّل عنصراً قوياً وعظيماً للتوحيد، هي عنصر معنوي كثيراً ما يضمر، بل يضمحلّ، أمام طغيان العناصر المادية المعيشية الأخرى، وأمام الوظائف العملية للوحدة أو للتجزئة، فهذه الوظائف هي التي تعطي بقاء الحدود أو زوالها تلك القيمة والأهمية الخطيرة، وكثيراً ما يحدث أنّ وحدة الدولة الواحدة التي تضمّ شعباً واحداً، بل قبيلة واحدة، تصبح عبئاً ثقيلاً لا يطاق إذا كانت وظائفها غير إنسانية وغير عادلة، ومتناقضة مع متطلبّات الحياة، ولا تأخذ بالاعتبار خصوصيات القرى والمدن والأفراد والجماعات داخل المجتمع الواحد!

حتى العشيرة يمكن أن تنتفض ضدّ وحدة القبيلة أو تهجرها إذا ما أحسّت أنّها تعاني غبناً أو ظلماً لا علاج له في المدى المنظور! والعكس بالعكس، فالمفترض أنّ خصائص المدن وحدودها الإدارية، ومزايا أطراف المجتمع وأمزجتها وعاداتها المختلفة، لا تشكّل جميعها تهديداً ولا نيلاً من وحدة الدولة عندما تكون هذه الدولة مستقلّة وعادلة، غير منخورة ولا مخترقة.

أمّا عن الوظائف التاريخية للتجزئة فإنّه لمن الواضح تماماً أنّها تتفق مع مصالح هذا النظام العالمي في هذا العصر الأوروبي الأميركي. إنّه النظام العالمي الذي أقامته وتقوده عواصم الغرب منذ خمسة قرون، بعد أن وحّدته بمركزيتها الإمبراطورية الصارمة، الثقافية والاقتصادية والسياسية، ومزّقت جغرافيته وديموغرافيته كي يبقى “موحّداً” تحت سيطرتها! وهكذا فإنّ التصدّي للتجزئة لا يمكن أن يكون في بعده الحقيقي سوى تصدّياً لوظائف هذا النظام العالمي الربوي الصهيوني، ولا يمكن أن يكون إلاّ نيلاً من “وحدته” العالمية القائمة على التجزئة!

إنّ الضّيم الداخلي، الذي يقنع شعباً ما بأفضلية التجزئة على الوحدة، يكشف لنا مقدار حمق وأنانية حكّام الدولة، إن لم نقل تواطؤهم مع الأجانب، ومثل هذه الدولة التي يديرها مثل هؤلاء الحكّام ليست دولة رخوة مترهّلة، بل منخورة ومخترقة إلى الحدّ الذي يسمح للأجانب بالتلاعب كما يشاؤون، وباستثمار معاناة شعبها لصالح مشاريعهم التي تشترط التجزئة وإن في نطاق وحدة شكلية ظاهرية!

ns_shamali@yahoo.com