مساهمة في تصويب الخطاب الفلسطيني: كيف إختفى “معسكر الاعداء”؟

(الحلقة الاولى)

مسعد عربيد

كثيرة هي المفارقات التي تستوقفنا في المشهد الفلسطيني. وقد نختلف في تقييم هذه المسألة أو تلك، إلاّ اننا في كل الاحوال لا نختلف على ان هذا المشهد، عبر عقوده الاربعة الاخيرة، إزداد تدهوراً وتعقيداً وإبتعاداً عن اهداف المشروع الوطني الفلسطيني: تحرير الوطن المحتل. ولا ينبع هذا الاستخلاص من منظور سوداوي أو عدمي، بل يستند الى مقاربة موضوعية في تحليل الواقع القائم.

سأتناول في هذه الدراسة بعض الجوانب العامة للخطاب الفلسطيني بالتحليل النقدي، وإن لم أكن بصدد الخوض التفصيلي في كافة أبعاده وحيثياته، وسأحاول شرح قصة تحريف هذا الخطاب في حياة شعبنا ومسيرة نضاله، علّها توفر مدخلاً لمعالجة العديد من القضايا الهامة والملحة في الحالة الفلسطينية. ولا تعدو هذه المحاولة العاجلة كونها مساهمة متواضعة لا تفي بغرض تصويب الخطاب الفلسطيني ومعسكر الاعداء ولا تشكل بديلاً عن القراءة النقدية والشاملة لهذا الخطاب بمجمل شعاراته وطروحاته، والتي تبقى مهمة وضرورية لاستكمال مسيرة الشعب الفلسطيني نحو تحرير وطنه المحتل.

(1)

بعض سمات الحالة الفلسطينية

يستعصي، لدى القراءة النقدية للخطاب والحالة الفلسطينيين، القفز عن بعض السمات المميزة لهما[1]:

1) غياب الفكر السياسي: لم تنتج حركة المقاومة الفلسطينية المعاصرة (“حركة المقاومة”) فكراً سياسياً قادراً على الاضطلاع بقضايا وإشكاليات ومهام الحالة الفلسطينية والعربية، بالرغم من زخم الكتابات والتحليلات السياسية والكم الهائل من الصحف والجرائد والمواقع الالكترونية التي ملأت الساحة خلال العقود الاربعة الاخيرة. كما نلحظ ان هذه الكتابات نادراً ما تختلف بحسب المرجعية الفكرية، بل هي تتناقض في أغلب الاحيان بسبب المرجعيات السياسية والارتباطات المصلحية المتباينة، سواء كان ذلك على شكل تبعية للانظمة العربية (مصر، السعودية، العراق، سوريا على سبيل المثال)، أو الاحزاب الحاكمة (حزب البعث العربي الاشتراكي بشقيه مثلاً) أو الدول العظمى (مثل الاتحاد السوفييتي سابقاً).

2) غياب المراجعة النقدية الجدية: لم تقم هذه الحركة على إختلاف فصائلها وقياداتها بمراجعة نقدية جدية وأمينة وشاملة لتجربتها المعاصرة وإخفاقاتها وسبل النهوض بالمشروع الوطني الفلسطيني، بالرغم من كثرة “المحاولات” التي إندرجت تحت عنوان “المراجعة النقدية”، ووفرة الشعارات والاطروحات التي حان الوقت، منذ أمد، لمراجعتها ونقدها وتقويمها. لم تجرِ هذه المراجعة المنشودة بالرغم من جسامة التضحيات التي قدمها شعبنا والمنعطفات الخطيرة التي مرت بها قضيتنا والمخاطر الكبيرة، المحدقة بها والمقبلة عليها، على مستقبلها، ناهيك عن عدالة القضية الفلسطينية وتألق مكانتها الاممية التي أضحت قبلة أنظار شعوب العالم وشرفائه.

3) تشي مسيرة الاخطاء والمآزق التي سقطت فيها التجربة الفلسطينية، بفقدان القدرة على “التعلم” من التجارب والإتعاظ بالاخطاء وإستثمار هذه الدروس من اجل تفادي الوقوع في المزيد منها. على النقيض من ذلك، فقد أظهرت الحركة الوطنية الفلسطينية قدرة هائلة، وعلى نحو مثير للدهشة وللتأمل، على الاصرار في المضي على الدرب نفسه أي إرتكاب الاخطاء، والمزيد منها، وتكرارها وإعادة إنتاجها، دون التوقف للحظة للتقييم وطرح الاسئلة ومراجعة التجربة بامانة.

قد يحملنا المنطق الشكلي على تحميل القيادات الفلسطينية المتنفذة (في فتح و م.ت.ف) وزر المسؤولية الاولى عن هذه الاخطاء: المسؤولة الاولى عن إتخاذ السياسات والخطوات العملية للتراجع عن الاهداف الوطنية وخرق ثوابت النضال الفلسطيني، وتحريف البرامج السياسية تطويعاً لخدمة المصالح والسياسات، وعقد الصفقات والاتفاقيات والمفاوضات مع العدو المحتل. إلا ان هذا لا يعفي الآخرين من المسؤولية التاريخية: لا يعفي اولئك الذين رفضوا الاتفاقيات (اوسلو وملحقاتها ..وغيرها). ورفضوا الولوج مع العدو الصهيوني في دهاليز المفاوضات العبثية، ولا الذين ما زالوا يتشدقون بالخطاب الثوري ومفردات المقاومة، كما انه لا يعفي اولئك الذين وصلوا الى السلطة من بوابة اوسلو رغم رفضهم لها ومن خلال إنتخابات “ديمقراطية” تمت في ظل الاحتلال وما زالوا يتمسكون بزمام سلطة وهمية قامت على ارضية اوسلو وتحت حراب الاحتلال.

يعري هذا كله مظاهر العجز والتناقض والانقسام والفوضى التي تعم الحالة الفلسطينية، إلا انه يجب الا يغيب عنا ما هو وراء هذ الحالة، على مأساويتها، من إصطفاف طبقي ومصلحي لا يفسر هذه التناقضات فحسب، بل يعمل على تعميقها. ولا بد من التنبه ـ رغم اختلاف الاطراف المتشابكة في الحالة الفلسطينية وهول التناقضات بينها ـ الى ان المصالح المادية (بالاساس الطبقية والسياسية والاقتصادية منها كذلك المصالح الفئوية والفصائلية والفردية دون إستثناء) تظل العامل الحاسم والاكثر وزناً والذي يقف وراء هذه التناقضات ووراء التمسك بالسلطة الوهمية في الضفة الغربية وقطاع غزة، كما يقف وراء الفساد المستشري في أجهزة السلطة والمنظمة ومؤسساتهما ويُعذيها.

وتفاديا لخلل التأويل أو إساءة الفهم، نقول بان محاكمة الحالة الفلسطينية بكل تعقيداتها وتعدد ابعادها، يجب ان يتم في سياق وعلى أساس، التناقض الرئيسي مع العدو المحتل. وعليه، فإن ما ينطوي عليه هذا النقد من تعميم يشمل كافة الاطراف ويحاكم كافة الفصائل كجزء من “القيادة السياسية الفلسطينية” ولا يقتصر على قيادة “فتح” لوحدها أو عرفات كفرد أو لوحده. الا انه لا يساوي بين الاطراف التي إنتهجت نهج التسوية واذعنت للاحتلال وأضحت صنيعة له، وتلك التي ما زالت ترفع راية المقاومة، بل يتطلب الموقف وفي كل دقائقه أن يفصل بين مَنْ يقاوم من جهة، ومَنْ حسم صراعه مع الاحتلال على اساس التنازل عن الوطن وحماية “أمن” العدو وإستراضاء العدو الامبريالي الاكبر، من جهة اخرى.

4) تخريب الوعي الجمعي الوطني والقومي: لا تستوي قراءة الحالة الفلسطينية، على ما فيها من تعقيدات ومأساوية، دون الالتفات الجدي الى ما حلّ بالوعي الفلسطيني والعربي من تدمير وتشويه عبر العقود الاربعة الاخيرة.

وليس صحيحاً ان عملية تخريب الوعي (الفردي والجمعي) هذه جاءت نتيجة الاحباط والوهن وتعقيدات الظروف والتطورات في الساحة الفلسطينية وإن كان ليس بمقدور المرء موضوعياً ان ينكر هذه المؤثرات الكبيرة. إلا انه لو تسنى لنا ان نُحَكِم التاريخ، تاريخ الشعوب وثوراتها، لكان من شأن هذه الظروف والتطورات على ما تسببه من معاناة وإحباط، أن تُصلب من إرادة الشعب الفلسطيني وتُجذر وعيه. وعلى الرغم من تباين الاسباب والعوامل الداخلية والخارجية التي أودت بالوعي الجمعي والشعبي، فان قيادات الفصائل الفلسطينية ومثقفيها تتحمل المسؤولية الكبرى والاولى. وإن كنا بعيدين عن كيل الاتهامات الى هذا الفصيل أو ذاك، فشعبنا أدرى بذلك، وان لم نكن بصدد قراءة توزيع المسؤولية وإقتسامها على اساس الحصص والنسب المئوية، فان قيادات حركة المقاومة، دون إستثناء ليسار أو ليمين، او لقيادة متنفذة واخرى “غير متنفذة”، ولتنظيم علماني وآخر إسلامي، تحمل وزر ومسؤولية الكارثة التي حلت بواقع ووعي شعبنا وارادته. بل حري بنا ان ندفع بهذه المسألة قدما لنسأل: ألم تكن قوى اليسار، وقوى المقاومة دوماً وعبر التاريخ، هي صاحبة المبادرة والمسؤولة عن تنشئة الوعي الثوري والنقدي لدى الجماهير؟ فكيف يتساوى إذن، أمام الشعب والتاريخ، مَنْ يحمل راية الثورة والمقاومة بِمَنْ تنازل عن الحق والوطن وإنصاع لارادة العدو؟

يتضح لنا من هذا ان الحالة الفلسطينية تشكل شذوذاً عن أعراف وتقاليد الحركات الثورية والتحريرية في تاريخ الشعوب، لان قياداتها إختارت مصالحها الطبقية والفئوية والآنية والذاتية. في هذا الاصطفاف يكمن التفسير لتخليها عن المصالح الوطنية ونحر برنامج تحرير فلسطين.

ولعل نظرة الى ما إنتاب شعارات ومقولات الخطاب الفلسطيني، بشتى مستوياته، من تآكل وتدهور خير دليل على ما نقول. فليست مسيرة التراجع هذه سوى مرآة تعكس النتائج المادية والموضوعية لاندحار البرنامج الوطني والسياسي الفلسطيني والهزائم المتتالية التي حلّت به. وقد تجلى هذا في التلاعب المتواصل بالشعارات والطروحات مما أدى الى طمس وتشوية الكثير من أبعادها وتأويلها وتوظيفها في تضليل الشعب وتخريب وعيه وإلهائه عن برنامج التحرير الوطني.

5) تبعية “الثقافي” للسياسي: إلتحم المثقف والخطاب الثقافي الفلسطيني، عبر مراحل نضال شعبنا وتبلور ثقافته، بالمهام الوطنية وبعبء تحرير الوطن سواء خلال حقبة مكافحة الاحتلال البريطاني وما رافقة من مكافحة للهجرة والاستيطان الصهيوني، وبعد قيام الكيان الصهيوني عام 1948، أو خلال نشأة وتبلور الحركة الوطنية المعاصرة. إرتبط المثقف بانتمائه وهويته بتلك المسيرة حيث ربط المسألة الثقافية بالوطنية والاجتماعية، فساهم في بلورة الشخصية الوطنية الفلسطينية وقراءة المرحلة وإنارة درب الكفاح الشعبي.

الا ان هذا الخطاب، سرعان ما أخذ “يتلائم” مع نهج التسوية (الذي فرّخ لبلاطه مثقفين وشعراء وكتاب ومادحين)، فارتبطت الثقافة الفلسطينية، منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي، “بالمؤسسة” السياسية وإنخرطت في عملية التسوية وتسويقها وإستدخالها في الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي. وليس في هذا إنتقاص للنتاجات الناقدة والتي ظلت ملتزمة بالاهداف الوطنية، بقدر ما هو وصف للمسار العام للخطاب الثقافي الفلسطيني.

وبشكل موازٍ تماشى هذا الخطاب مع المنظمات غير الحكومية ومنظمات ما يسمى ب”المجتمع المدني” (خاصة في مرحلة ما ـ بعد اوسلو) والتي تفشت لتنخر مجتمعنا وموسساتنا، فتخارَجَ المثقف وخطابه في الانتماء والهوية، وفوق هذا وذاك في التمويل والفساد (الداخلي والخارجي) فاصبح أداة إفساد وتخريب وتدمير.[2]

انعكس هذا على طبيعة الانتاج الثقافي برمته. فبعد ان تميز هذا الانتاج في المرحل المبكرة بالرصانة العلمية والموضوعية والالتزام الوطني والنضالي[3]، أخذ المثقف والثقافة “يتكيفان” مع الخطاب السياسي وإنتقلا ليصبحا بوقاً لنهج التسوية السياسية ولتبرير التخلي عن الثوابت الوطنية والقومية وخيانة برنامج تحرير الوطن المحتل. كما تجلي في الوهن الذي أصاب خطاب التحريض الجماهيري الذي ساد مرحلة “مدي يا ثورتنا مدي” و “طالعلك يا عدوي طالع” (والذي يغيب كليةً عن المشهد الفلسطيني الراهن)، وفي القفز الميكانيكي الى عدم المساس أو التعرض للانظمة العربية خاصة بعد مجازر ايلول (سبتمبر 1970) ومعارك الاحراش (يوليو 1971) وتراجع البعد القومي وإعلاء نغمة “التضامن العربي” الرسمي عوضا عن المشاركة الشعبية العربية الحقيقية في معركة التحرير.

6) التخلي عن الاجيال القادمة ومستقبل المقاومة: تفرض طبيعة الاحتلال الصهيوني ـ كونه إحتلالاً إستيطانياً إقتلاعياً وجزءً من المشروع الامبريالي ـ الصهيوني الذي يستهدف الوطن العربي برمته ـ تفرض المزيد من التعقيد على هذا الصراع وتشابك أطرافه وتعدد الاعداء الذين يملكون إمكانيات هائلة على كافة المستويات. بيد ان هذا بدوره يحتم على نضالنا ان يكون نضالاً طويل المدى يتطلب حشد كافة الامكانيات والقدرات الوطنية والقومية والاممية بقدر يفوق قدرات الشعب الفلسطيني لوحده مهما عظمت تضحياته. تلك هي حقائق الصراع على الارض كما يؤكد عليها تاريخه الطويل وهي لا تخضع للمصالح والمطامع الآنية للقيادة الفلسطينية المتنفذة ولا تصغي الى رغائبيتها، بل هي لا تنصاع إلا لقوانين التاريخ وحراك الشعوب وإرادتها.

إلا انه وبالرغم من هذا كله، وبالرغم من شعارات م. ت. ف. التي توسطها شعار “تعبئة قومية”، فان حركة المقاومة لم تولي الاجيال الفلسطينية والعربية القادمة العناية الكافية من حيث تربيتها وتنشئتها وتهيئتها لمواجهة الصراع المحتدم في بلادنا والمرشح ان يظل مستعراً لعقود قادمة، ولم تسلحها بالمعرفة والعقيدة والتثقيف، وفوق ذلك وقبله، بالوعي الثوري كي تصمد ويتسنى لها أن تناضل وتستمر في مقاومة الاحتلال والمشروع الصهيوني.

في هذا الصدد نَحَتْ المقاومة الفلسطينية نحواً مخالفاً لحركات التحرر العالمية والتي جعلت من تنشئة الشباب والعناية بقضاياهم إحدى أهم مهامها واولولياتها. فعلى الرغم من إنشاء مؤسسات ومنظمات شعبية للشباب الفلسطيني، فان هذه المؤسسات باستثناء إسمها، تركت الاجيال عرضة للضياع والاحباط والخذلان، وعملت على إفساد عقولهم وتخريب وعيهم الوطني والقومي والثوري وتجييره في خدمة المصالح الفئوية الآنية والضيقة للقيادات والفصائل الفلسطينية المتعددة والمتنافسة. وخلافاً لكل حركات التحرر في العالم، والتي لم تواجه بكل المعايير والمقاييس عدواً مثل عدونا، فاننا لم نستثمر في اجيالنا القادمة وتنمية مستقبلها وهو ما يشهد عليه واقع الشباب والاجيال الصاعدة في الوطن المحتل.[4]

7) إنسداد المشروع الوطني وغياب البديل: لم يتمخض المأزق الفلسطيني عن بديل وطني قادر على الاضطلاع بالمهام النضالية ومتابعة مسيرة المشروع الوطني. على النقيض من ذلك، إزدحم خطابنا بعد كل منعطف بالاصوات التي إرتفعت عالياً متباكية على “المرحلة العصيبة التي تجتازها ثورتنا” ومطالبة “بمراجعة المرحلة” و”تقويم التجربة” والاستفادة من “عبرها ودروسها”، والتصميم على “متابعة الثورة حتى النصر”، ولم يتقاعس أي فصيل فلسطيني عن المساهمة بهذا الدجل الذي أسموه ب”المراجعة النقدية” حيناًً، و”النقد والنقد الذاتي” أحياناً اخرى.

(2)

في السياق التاريخي

التراجع: عنوان المرحلة

لم يكن قد إنقضى على إنطلاقة الكفاح الفلسطيني المسلح سوى أعوام قليلة (وهي مفارقة لا تجوز الاستهانة بها)، حتى أخذ نهج التسوية السياسية (تسوية الصراع العربي ـ الصهيوني) والتراجع عن المشروع الوطني في تحرير فلسطين يتسلل الى صفوف حركة المقاومة الفلسطينية. وقد إقترنت بهذه العملية السياسية، عملية اخرى، لا تقل خطورة بل كانت شرطاً لتمرير نهج التسوية وإستدخال الهزيمة، وهي عملية الفرش الايديولوجي والتمهيد الثقافي والسياسي لتشوية وتدمير الوعي الجمعي الوطني الفلسطيني والعربي على حدٍ سواء.

ومن أجل تجليس طرحنا في سياقه التاريخي، ودون الاسهاب في التفاصيل، فانه من المفيد العودة بشكل خاطف الى السنوات الاولى من الكفاح الفلسطيني المعاصر، الى اواخر ستينيات وبدايات سبعينيات القرن الماضي.

هنا، لا يفوتنا أن نلحظ الهزائم المتلاحقة والاخفاقات المصحوبة بالتراجعات والتنازلات (التكتيكية والاستراتيجية) والتي تمثلت “بتعديل” تلو الآخر في برامج م.ت.ف. ـ البرامج السياسية الصادرة عن دورات المجلس الوطني الفلسطيني المتعاقبة وخاصة تلك التي تلت الدورة الثانية عشر للمجلس الوطني الفلسطيني (صيف 1974) والميثاقين الفلسطينيين (القومي لعام 1964 والوطني لعام 1968) ـ وبرامج وسياسيات وأدبيات كافة الفصائل الفلسطينية دون إستثناء.

أضحى التنازل المتهرول عن ثوابت النضال الفلسطيني والتراجع عن أهداف المشروع الوطني “سمة” المرحلة، رغم تعدد الذرائع والمسميات التي برع أصحاب نهج التسوية في نحتها. وقد أمتدت هذه المرحلة منذ بداية الصدامات المسلحة مع النظام الاردني (1968) وتصفية الوجود العسكري الفلسطيني في الاردن (معارك أحراش عجلون تموز/يوليو 1971)، مروراً بالهزيمة في لبنان ومغادرته في وداعٍ نهائي للكفاح المسلح (بالاستعارة من إرنست همنجواي) والذي جاء بعد تصفية الوجود العسكري الفلسطيني هناك إثر الاجتياح الصهيوني للبنان في صيف 1982. تلى ذلك إرتحال القيادة الفلسطينية الى تونس ومسلسل التنازلات والهزائم التي شملت إعتراف عرفات بالكيان الصهيوني ونبذه “الارهاب”/المقاومة (في القاهرة عام 1985 ولاحقاً في أواخر عام 1988)، وصولاً الى المفاوضات السرية مع الحكومة الاسرائيلية، بدايةً عبر وسطاء هولنديين أواخر عام 1989، ولاحقاً في مؤتمر مدريد، الى ان تُوجت بإعلان المبادئ واتفاقية اوسلو (أيلول/سبتمبر 1993) وإعتماد المفاوضات مع الاحتلال أساساً لتسوية سياسية للصراع والتخلي النهائي عن برنامج تحرير الوطن.

الصراع بين نهجين

أخذ الصراع بين نهجي التسوية والمقاومة يشق طريقه مبكراً ـ منذ أواخر ستينيات القرن المنصرم ـ الى صفوف الفصائل الفلسطينية وكافة مناحي الحياة السياسية للشعب الفلسطيني في شتى أماكن تواجده. وليس سراً أن هذا الصراع كان قد احتدم في المؤتمر العام الثالث لحركة “فتح” ـ الذي إلتئم في سوريا (تشرين الاول/اكتوبر 1971) عقب الخروج من الاردن (تموز/يوليو 1971) ـ وتمحورحول وسائل النضال وجدوى الكفاح المسلح كوسيلة أو كالوسيلة الرئيسية أوالوحيدة لتحرير الوطن. كان الصدام بين هذين النهجين قد تجلي آنذاك بوضوح حتى كاد نهج التسوية أن يهيمن على قرارات وسياسات ذلك المؤتمر لولا المواقف الحازمة لبعض قيادات المجلس الثوري لحركة فتح التي تصدت لخط الاستسلام ونجحت، ولو لحين، في “إرجاء” هيمنة نهج التسوية الذي مثلته آنذاك كثرة من أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح.

إلا ان ما يجدر ذكره هو ان المقدمات السياسية والتاريخية للصراع بين هذين النهجين أخذت تتبلور قبل ذلك الحين في عدد من الاطروحات والتصريحات لبعض القادة الفلسطينيين والتي جاءت بعد فترة قصيرة (هي بالاحرى قصيرة جداً في حياة الشعوب) من إنشاء م. ت. ف. (1964) وإنطلاقة الكفاح المسلح والنهوض الجماهيري الذي عاشته حركة المقاومة الفلسطينية عقب الاحتلال الصهيوني الثاني (5 حزيران/يونيو 1967) ومعركة الكرامة (21 آذار/مارس 1968).

لا أورد هذه الوقائع من باب النوستالجيا للماضي، بل لتأكيد حقيقتين، كثيراً ما يتم القفز عنهما:

الاولى، ان نهج التسوية والخيانة وما جرّه على المشروع الوطني الفلسطيني من ويلات ونتائج وخيمة، لم يكن مجرد ردة فعل للضغوط، على إختلاف مصادرها (المحلية والقومية والاقليمية والدولية)، ولم يأتِ طفرة وبدون مقدمات سياسية وطبقية وتاريخية، بل أخذ هذا النهج ينخر جسد النضال الفلسطيني منذ مراحله المبكرة، وان الخيانة، التي باتت اليوم مفضوحة، جاءت نتيجة لتراكم سنوات من التراجع والتنازل أصبحت خلالها المقاومة الفلسطينة بكافة فصائلها ومنذ ذلك الحين مسرحاً للصدام بين نهجي التسوية والمقاومة ومواقفهما من الكيان الصهيوني والصراع العربي ـ الصهيوني والهجمة الامبريالية على بلادنا.

أما الحقيقة الثانية، فهي انه ما كان ليتسنى للقيادة الفلسطينية ان تأخذ المشروع الوطني الى هذا الحضيض والطريق المسدود دون التلاعب بالمفردات وتأويل الشعارات وتزييف المقولات بغية تدمير الوعي الجماهيري وتغذية الاوهام الزائفة حول إستمرار النضال و”الثورة حتى النصر” و”تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني” …وغيرها، وما إقتضته هذه العملية، التي إمتدت سنوات طويلة من طمس للحقائق وتضليل للجماهير الفلسطينية والعربية وحرفها عن النضال وإيصالها الى حالة الاحباط والقنوط التي نشهدها اليوم.


[1] نستخدم مفردة “الخطاب” و”الخطاب الفلسطيني”، على ما تنطوي عليه من تعميم، للتدليل على الخطاب السياسي والثقافي والاعلامي والشعبي ـ اليومي الذي يشمل مجمل الشعارت والمقولات والطروحات بل والافكار التي سادت صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة منذ نهوضها في منتصف ستينيات القرن الماضي (خطاب م.ت.ف. وكافة الفصائل الفلسطينية بما فيها تلك التي لم تنضم الى هذه المنظمة مثل حركة المقاومة الاسلامية (حماس) والجهاد الاسلامي وغيرها). ولا نستثني من مفردة “الخطاب” و”الخطاب الفلسطيني” المقولات والافكار التي شاعت بين قطاعات كبيرة من الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده (الوطن المحتل، مخيمات اللاجئين، والشتات الفلسطيني)، ، بل نرى انه من المفيد ان تشملها.

[2] انظر بيان تأسيس “جبهة المثقفين: بيان الثقافة الفلسطينية”(يناير 2009) في موقع “كنعان” على الرابط التالي:

https://kanaanonline.org/?p=523

[3] نستذكرفي هذا الصدد، على سبيل المثال، جهود وإصدارات مركز الابحاث الفلسطيني ونتاجاته القيمة تحت إشراف الدكتور أنيس صايغ.

[4] بالمقارنة، إعتاد تشى غيفارا في مخاطبته للكوادر الشابة في الثورة والحزب الكوبيين أن يقول:”من الضرور إستخدام كل الفرص المتاحة لتنمية الافراد الى أقصى إمكانياتهم وتثقيفهم من أجل تقديم أكبر الخدمات لامتهم”.