(الحلقة الثالثة والاخيرة)
مسعد عربيد
(5)
شعار “معسكر الاعداء” نموذجاً
ثورة دون “أعداء”
وحركة تحرير وطني تتصالح مع المحتل
يتوجب على كل “حركة تغيير” ـ إن كان سيكتب لها النصر ـ سواء كانت حركة تحرير وطني أو ثورة إجتماعية/طبقية، يتوجب عليها تحديد البؤر الاساسية للصراع ومحاوره المركزية. اي أنه على هذه الحركة أن تحدد بدقة وفي كل مرحلة تناقضاتها واعدائها ومعاركها والتمييز بين تلك الثانوية/الآنية/التكتيكية من جهة، وتلك الرئيسية /الاستراتيجية طويلة المدي من جهة اخرى، على ان يستنير هذا بالاهداف الرئيسية للنضال الوطني ويتم في تناسق وتناغم مع مساره العام والشامل، مما يعني خضوع الثانوي لمقتضيات الرئيسي والحذر من الانشغال بالمعارك الجانبية والثانوية رغم أهميتها وراهنيتها، من أجل صب الجهود في مواجهة التناقضات الرئيسية.
فأين نحن من هذا؟
لقد إمتهنت القوى السياسية المسيطرة على القرار الفلسطيني تزوير (“وتبسيط”) معادلة معسكر الاعداء، وعليه فاننا نعيش اليوم مرحلة “دفع الثمن” للنتائج الوخيمة ومغبة الاضرار الجسيمة التي لحقت بالنضال الفلسطيني وتخريب الوعي الوطني الجمعي العربي والفلسطيني.
فبعد ان كان تحديد معسكر الاعداء وأطرافه من بديهيات النضال الفلسطيني وركيزة أساسية في برامج كافة حركات التحرر الوطني عبر التاريخ، “إختفى” هذا المعسكر من معجمنا السياسي وإختزلت اطرافه ومكوناته، عبر متوالية طويلة من التنازلات الى ان انتهى الى الصلح مع العدو المحتل والى تقزيم الصراع الى مجموعة من “المسائل الخلافية والتفاوضية” مع “الاسرائيليين”[1] وكأنهم الطرف الوحيد في “النزاع”، بينما تم شطب الاعداء الآخرين حتى بدى الامر وكأن الصهيونية استطاعت لوحدها ان تنهض بمشروعها الاستيطاني وان تحتل فلسطين وتقيم الكيان الصهيوني على أرضها، وكما لو كان الكيان الصهيوني قادراً، لوحده، أن يستمر في البقاء والتوسع لستة عقود، دون الدعم الراسمالي ـ الامبريالي والتواطئ والتآمر العربي الرسمي.
بالرغم من تعدد أسباب ودوافع تدهور البرنامج الوطني الفلسطيني، فانه يمكننا الجزم بانه ما كان لنا ان نصل الى هذا الحضيض لو تمسكت حركة المقاومة بثوابت النضال الوطني الفلسطيني وأهدافه. ويقف على رأس هذه تزوير طبيعة الصراع ومعسكر اعدائنا وطمس مكونات واطرافه الرئيسية.
فكيف اصبحنا حركة تحرر دون تحديد دقيق لمعسكر الاعداء، و”ثورة” دون “اعداء”؟
وكيف تصالحنا مع إحتلال يمعن في قضم ارضنا وإبادة وجودنا؟
سنحاول الاجابة على هذه التساؤلات من مدخل يتناول الابعاد الرئيسية التالية:
1) تغييب البعد الراسمالي في الصراع العربي ـ الصهيوني
2) طمس العمق القومي العربي للنضال الفلسطيني
3) طمس “الابعاد غير اليهودية” في المشروع الصهيوني.
اولاً: تغييب البعد الراسمالي في الصراع العربي ـ الصهيوني
لقد تراجعت الحركة الوطنية الفلسطينية، بشتى فصائلها وبرامجها وإن بدرجات متفاوتة “وبوضوح” متفاوت أيضاً، عن نهج المقاومة والتحرير و”بدلت” معسكر الاعداء فحيّدت مكوناته الرئيسية ونصبت بعضهم في مواقع الوساطة والمصالحة وعقدت الصلح مع العدو المحتل الذي أضحى “شريكاُ” في المفاوضات. إلا ان هذا كله لم يكن ليتسنى دون الانقلاب على اسس المشروع الوطني التحريري وتغيير أهداف النضال الفلسطيني ووسائله لتتناغم مع نهج وسياسات القيادة الفلسطينية المتنفذة بما يضمن تحقيق مصالحها. بعبارة اخرى، اقتضى هذا “تكييف” الاهداف والبرامج والسياسات كي تتناغم وتتأقلم مع معادلة الصراع الجديدة، وهذا بدوره أملى إختيار وسائل النضال التي تعبر عن ميزان القوى بين اطراف الصراع وتتناسب مع الاهداف “الجديدة” وتضمن تحقيقها (التخلي عن الكفاح المسلح وكافة أشكال المقاومة الشعبية المتاحة في ظل الظروف العصيبة التي إجتازها وآلياته (المفاوضات!).
إلاّ أن تغييب الراسمالية المفارقة الكبيرة في مسار حركة المقاومة الفلسطينية وإن كانت مفارقة غير مستهجنة. فمنذ بداياتها المبكرة، حاذرت هذه الحركة وخطابها في مستوياته المتعددة ـ سواء عن جهل أو دراية، عن قصد أو بدونه ـ معالجة البعد الراسمالي أو بلورة اية مفاهيم حوله وتحاشت تحديد اية مواقف منه في سياق تحديدها لمعسكر الاعداء. وقد ثابرت حركة المقاومة على تجنب الموقف من الراسمالية، بالرغم من تبجحها بصداقتها للاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية التي اسموها ذات يوم “حليفاً استراتيجياً”، مع أنها لم تأت على ذكر الراسمالية ولم تطور موقفاً منها ولم تعتبرها طرفاً في معسكر الاعداء منذ تلك الآونة.
والمقصود بالبعد الرأسمالي في هذا السياق هو دور الراسمالية والغرب الراسمالي في (1) نشأة الصهيونية وتطورها وفي وقيام الكيان الصهيوني وإستمراره على تراب فلسطين كقاعدة إمبريالية وكدولة وظيفية تخدم المصالح الغرب الراسمالي في إخضاع الوطن العربي والهيمنة على مقدراته، وفي (2) تفكيك الوطن العربي وقيام دول سايكس ـ بيكو القطرية والوظيفة المناطة به، و(3) الترابط الوظيفي والعلاقة القائمة بين أطراف هذا الثلاثي (الكيان الصهيوني والقطريات العربية والغرب الراسمالي).
يشرح لنا هذا المسار وبوضوح:
1) آثار تغييب البعد الراسمالي على خلق تفسير مشوه وفهم خاطئ ومجزوء لطبيعة وجذور الصراع القائم في وطننا ورده الى جذور وعوامل دينية وثقافية ، الامر الذي شجع غلاة الصهاينة على التطرف في المزيد من عنصريتهم والتمادي في مطالب “يهوديتهم النقية” الى ما نشهده اليوم من مطالبة العرب بالاعتراف بـ “يهودية الدولة” الصهيونية.
هكذا تم، بعبارة اخرى، إقصاء الصراع العربي ـ الصهيوني عن القوى المادية والطبقية التي تقف خلفه وخلف المشروع المعادي الاكبر: الراسمالي ـ الامبريالي ـ الصهيوني، كي يتسنى لاحقاً إختزال هذا الصراع الى نزاع فلسطيني ـ اسرائيلي وتقزيمه من تناقض تناحري وصراع وجودي الى خلافات تفاوضية.
2) وهنا أيضاً تكمن خطورة التغطية على الاسباب الجذرية للصراع وتزوير حقيقة اطرافه ومصالحها (الاعداء والحلفاء والاصدقاء) والعلاقات التي تحكمها، وما يتطلبه هذا من تضليل للجماهير، وتأكيد الحرص على إخفاء الراسمالية كطرف رئيسي في معسكر الاعداء.
3) ومن هنا نفهم النهاية المحتومة التي إنتهى اليها الكفاح المسلح الفلسطيني كوسيلة أو الوسيلة الرئيسية أو الوحيدة لمقارعة الاحتلال وتحرير الوطن، وإنتهاج نهج التسوية والمفاوضات.
4) كما تتضح بجلاء، وبذات القدر من الخطورة والراهنية ، الدلالة العملية لهذه التغطية والتضليل على النضال اليومي وتطوير الشعارت التي تنير درب الجماهير في كفاحها.
5) وتفسر معنى “العفو العام” الذي منحته القيادة الفلسطينية لاعداء رئيسيين في هذا المعسكر (الامبريالية وأنظمة القطرية العربية)، إذ لولا هذا “العفو” لتعذر عقد الصفقات قبل أوسلو وبعدها والتي كانت القيادات الفلسطينية تنشدها منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي.
تلك هي حكاية طمس البعد الراسمالي في معسكر الاعداء في السياق الفلسطيني الذي شمل، ولو لبضعة سنوات قليلة، الاقانيم الثلاثة: الكيان الصهيوني والامبريالية والرجعية العربية، قبل ان يُختزل الى مسلسل التفاوض المهين مع الاحتلال الاسرائيلي.
ثانياً: طمس العمق القومي العربي
جاء طمس البعد القومي العربي ثمرة للنهج القطري الذي إتبعته القيادة الفلسطينية، أسوة بمثيلاتها من القطريات العربية الحاكمة. وهي، وإن لم تقف على راس نظام حكم، إلا ان ذلك كان غايتها المنشودة. والملفت هنا ان الكثيرين ممن لم يروا الامور بهذا الوضوح منذ سبعينيات القرن الماضي ما زالوا يدسون رؤوسهم في الرمل الى يومنا هذا حتى بعد اتفاقيات اوسلو وتوظيف السلطة في خدمة الاحتلال الصهيوني وحماية أمن اسرائيل.
كما أن طمس هذا البعد المركزي في الصراع العربي ـ الصهيوني جاء إستجابة للمصالح الطبقية (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية) للقيادات والفئات والطبقات المتنفذة في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، تلك المصالح التي تمثلت في إقامة قطرية فلسطينية تحقق مصالح الكمبرادور الفلسطيني في موازاة الكمبرادور العربي الحاكم في قطرياته. ويتجلى الدليل على هذا، دون ان يستدعي ذلك التصريح العلني به، في ممارسات وتصرفات القيادة الفلسطينية والبنية التنظيمية والسياسية والاقتصادية التي خلقتها عبر م.ت.ف. والفصائل والتنظيمات الفلسطينية الاخرى.
إنعكس كل هذا في تصالح وتواطؤ ، وفي كثير من الأحيان تحالف، القيادة الفلسطينية المتنفذة مع الرسمي العربي ـ انظمة القطرية العربية ـ تحت شعارات ومسوغات عديدة ليس أقلها “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للانظمة العربية” و”الحفاظ على القرار الوطني الفلسطيني المستقل” و”التضامن العربي” وخلق “جبهة مساندة عربية” والوقوف بحزم ضد اية جبهة أو اشكال “مشاركة عربية” شعبية حقيقية… وغيرها الا بما يخدم اهدافها الآنية والضيقة وفي محطات معينة.
لقد إقتضى “إفلات” القيادة الفلسطينية من الحضن القومي العربي وإنطلاقها نحو ترسيخ القطرية الفلسطينية تفكيك العلاقة مع الجماهير والطبقات الشعبية العربية وفك الارتباط معها (الجماهير) والتخلي عن النضال من أجل فلسطين كنضال عربي قومي. وهذا تطلب بدوره التغطية على طبيعة الصراع واطرافه وحقيقة الاستهداف الصهيوني ـ الامبريالي للوطن العربي وموارده على مدى قرنين من الزمن.
وفي هذا السياق، فان تغييب البعد القومي العربي كان يعني (1) إبعاد الامة العربية وجماهيرها عن معادلة الصراع من ناحية، و(2) التستر على حقيقة الغايات الاساسية للمشروع الصهيوني الذي يستهدف هذه الامة من ناحية ثانية، و(3) التغطية على الطرف المركزي المستهدف من الصراع العربي ـ الصهيوني ، وهو الوطن العربي بأكمله. فهذا الوطن برمته هو المقصود والمستهدف من أجل إخضاعه والهيمنة على موقعه وسوقه وموارده وقواه العاملة ومستقبل شعوبه وتنميته، أما إحتلال فلسطين فلا يشكل سوى المعبر الاول، لنقل العتبة الاولى والقاعدة الاساسية لاختراقه. وعليه، فان تغييب البعد القومي كان يعني، بالمدلول العملي والنضالي، نفي وحدانية المصلحة والمعركة والمصير بين الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.
هنا نقف امام أقبح النماذج في تدمير الوعي الفلسطيني والعربي وأشدها كارثية على نضالنا ومستقبلنا، لان المشروع الامبريالي ـ الصهيوني لم يستهدف في يوم من الايام فلسطين وحدها، بل تشير حقائق التاريخ والجغرافيا على مدى قرنين من الزمن بما لا يدع مجالاً للشك، بان فلسطين كانت القاعدة المادية الانطلاقية لهذا المشروع الذي إستهدف دوماً، وما زال، عبر كافة مراحله ومخططاته، الوطن العربي برمته.
ثالثاً: طمس الابعاد والجذور غير اليهودية/الاسرائيلية في الصراع العربي ـ الصهيوني
في سياق تزوير معسكر الاعداء وكي يتسنى تشوية طبيعة الصراع العربي ـ الصهيوني وتقزيمه الى “نزاع” فلسطيني ـ اسرائيلي، كان لا بد من إبقاء الاضواء مسلطة على “الخصم الاسرائيلي” وإسقاط المكونات الاخرى أي غير “الاسرائيلية /اليهودية” للحركة الصهيونية وللمشروع الراسمالي ـ الامبريالي ـ الصهيوني في بلادنا، أي إسقاطها من معسكر الاعداء. وقد إقتضى هذا طمس “الابعاد غير اليهودية” في الفكرة والمشروع الصهيونيين، والذي شكل أحد أهم مخاطر التحريف الذي اعترى نضالنا عبر العقود الاربعة الاخيرة. وما نقصده بالابعاد غير اليهودية هنا هو دور ومصالح الغرب الراسمالي والذي يشمل أبعاداً دينية (مثل التأويلات المسيحية البروتستانتية للادعاءات والنبوءات التورايتة)، وسياسية وجيوبوليتيكية (الاستعمار والامبريالية والعولمة) واقتصادية (نشوء الراسمالية ومصالحها وسياساتها). وقد أدى إخفاء وإغفال جوانب هامة من طبيعة وجذور واطراف المشروع الصهيوني (فكرةً وحركةً وبرنامجاً)، الى فهم مجزوء ومختل لهذا المشروع.
نذكر فيما يلي، على سبيل المثال، بعض هذه الجوانب التي ظلت خارج السياق العام لخطابنا وأدبياتنا ولا تتناولها سوى القلة وباستيحاء:
أ ) الجذور والعوامل المسيحية الغربية (البروتستانتية) في نشأة الصهيونية التي وُلدت مسيحية غربية بروتستانتية ثم تطورت لاحقاً، بعد ثلاثة قرون، في مشروع يهودي صهيوني إستيطاني في فلسطين.[2]
ب) العوامل والجذور الطبقية والاجتماعية والدينية والسياسية والتي أقامت الترابط بين (1) الصهيونية، التي بدأت مسيحية ـ بروتستانتية ثم أصبحت يهودية لاحقاً، من حيث نشأتها ونموها وتلاقي مصالحها من ناحية، و(2) الاستعمار الاوروبي في مرحلة الكولونيالية الكلاسيكية وإقامة المستوطنات الاوروبية البيضاء (الولايات المتحدة وكندا واوستراليا ونيوزيلندة على سبيل المثال) من ناحية ثانية، وكذلك الترابط بين (1) الصهيونية، المسيحية ـ البروتستانتية أولاً ثم اليهودية، و(2) نشأة النظام الراسمالي وتطوره وصولاً الى دور الصهيونية وعلاقتها بالنظام العالمي والعولمة الراسمالية في حقبتنا.[3]
لقد ساهم إخفاء الجذور المسيحية الغربية للفكرة الصهيونية في التغطية على دور ومصالح الغرب الراسمالي وعلى الرابطة المبكرة بينها (المسيحية الغربية والغرب الراسمالي) وبين كل من:
(1) فكرة ومشروع إستيطان/توطين اليهود في فلسطين؛
و(2) السياسات الاستعمارية الاوروبية الطامعة في فلسطين والهيمنة على الوطن العربي برمته؛
و(3) نشأة وتطور النظام الراسمالي من جهة ثالثة.
كل هذا ساهم في التستر على دور الغرب الراسمالي في صراعنا مع المشروع الصهيوني وكيانه المحتل في فلسطين.
رابعاً: لم تقتصر مخاطر التستر هذه على إخفاء بعض الجوانب التاريخية أو النظرية فحسب أو على تجهيل الجيل الناشئ بها، بل تعدتها الى تشويه فهم المشروع الصهيوني وعلاقته بالراسمالية والامبريالية مما أدى، من الناحية العملية ومن المنظور النضالي، الى تبرئة وحرف الانظار عن هذه القوى الرئيسية والاساسية في الصراع والتي تشكل موضوعياً ومادياً مكونات رئيسية في معسكر الاعداء التي لولا دعمها لما إستطاع المشروع الصهيوني ان ينجز تجسيده المادي في القاعدة الصهيونية/الكيان الصهيوني ولما إستطاع هذا الكيان ان يدوم على الحياة حتى يومنا هذا.
كيف أصبح “الاسرائيلي” “الخصم” الوحيد؟
هنا نخلص الى المعادلة الراهنة في الصراع العربي ـ الصهيوني وإختزاله في نزاع فلسطيني ـ اسرائيلي:
1)فانظمة الكومبرادور العربي الحاكم[4] لم تعد طرفاً في هذا المعسكر بعد ان مررت “فتح” شعارها في “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للانظمة العربية” والذي جاء في سياق مهادنة الرجعية العربية وإجتثاث القضية الفلسطينية من عمقها القومي العربي وتفكيك العلاقة مع الجماهير العربية وإنتصاراً لما اسموه آنذاك ب”القرار الوطني الفلسطيني المستقل” وفلسطنة النضال الفلسطيني.
2) والامبريالية لم تعد هي الاخرى طرفا في معسكر الاعداء، بعد ان اصبحت عراب التسوية الممسك بمفاتيح الحل.
3) أما الراسمالية فلم تندرج أصلاً في مكونات هذا المعسكر حتى في ذروة الكفاح الفلسطيني وتصاعد حركة المقاومة.
4) حُرم الصراع من بعديه الأممي والعالمي. فبتفكك المعسكر الاشتراكي تخلت القوى التي زعمت انها ماركسية أو شيوعية او اشتراكية أو يسارية، تخلت سريعاً عن هذا المعتقد الذي هو معتقد، من حيث وفي حالة اصالته، متناقض مع الكيان الصهيوني كتناقض القومية العربية. فالكيان الصهيوني كقاعدة راسمالية وإمبريالية هو مضاد حتماً للقوى الاشتراكية، ولأنه يحتل بلدا عربياً فهو متناقض مع القومية العربية، ولأنه يحتل قطرا عربيا أكثرية شعبه مسلماً فهو مضاد للمسلمين والمسيحيين العرب، ولأنه دولة تنادي بدينية نفسها، اي يهودية فهو مضاد للأديان الأخرى. بكلمة أخرى، فإن تهافت القوى اليسارية لعب دوراً في أن يستمرىء اليمين التفريط بالوطن. ولأن هذه القوى الفلسطينية عامة تنازلت إلى هذه الحدود فقد أفقد هذا القضية البعد التضامني العالمي. وعليه، فإن حركة التضامن قد انقسمت إلى ثلاثة اقسام:
1) قسم تنحى جانباً يأساً وقرفا؛ً
2) وقسم قرر الاستمرار طبقاً لنهج التسوية والتماشي معه؛
3) وقسم واصل البحث عن قوى ثورية ليتعاون معها، وقد لا يجدها.
أدت هذه العوامل مجتمعة، وعبر عملية دامت سنوات طويلة، الى إعادة صياغة مفاهيم العدو ومعسكر الاعداء وتوجيهها باتجاه “الاسرائيلي” لوحده، في حين تمت “تبرئة ذمة” الاطراف الاخرى، والى إختزال الصراع الى “نزاع” لا يتعدى بعض “المسائل الخلافية” يتأتى حلها عبر المفاوضات السلمية. هكذا كانت، بعد إسقاط مكونات معسكر الاعداء الاخرى، ولادة “المعادلة” الافتراضية الجديدة التي يقف فيها الاسرائيلي “كالخصم” الوحيد على واحد من شقي المعادلة، فيما يقف في مواجهته في الشق الثاني الطرف الفلسطيني ولوحده أيضاً، وفي الحقيقة ليس كل الفلسطيني. ومع الاقرار بان المحتل الصهيوني يمثل واجهة الصدام المباشر واليومي، فان المكونات الاخرى، وبالدليل المادي وبدليل التجربة المريرة والدامية، لا تقل خطورة وتدميراً لمصالح ومستقبل الشعب الفلسطيني والامة العربية، حيث يلتئم في هذه المكونات شمل الشريك والمتآمر والمتواطئ والممول والمزود بالسلاح والعتاد.[5]
بوضوح أكثر، أدى تشويه معسكر الاعداء وطمس مكوناته الرئيسية والابقاء على الابعاد الاسرئيلية/الصهيونية/اليهودية، الى تحييد ثم تنحية الاطراف الرئيسية الاخرى (الغرب الراسمالي ـ الامبريالي وأنظمة الكومبرادو العربي التابعه والعميلة له)، فأصبح الصراع (الذي ما لبث ان تحول الى نزاع سرعان ما أضحى خلافاً) محصوراً في “اسرئيل”.
هنا نجد ما يفسر:
□ كيف أصبحت زعيمة الغرب الراسمالي، الامبريالية الاميركية، عبر مسار الخطاب الفلسطيني، “العرّاب النزية” وراعية عملية السلام وصاحبة خريطة الطريق.
□ وكذلك الامر مع كافة القوى والاطراف الاخرى التي “تحكم وترسم” في المصير الفلسطيني من رباعية واوروبية ومجتمع الدولي وشرعية دولية … وتطول القائمة.
□ وكيف تحولت أنظمة القطرية والكومبرادور العربي ودوائر مخابراتها (النظام المصري نموذجاً)، الى “أخوة في السلاح” وراعية للمصالحة الفلسطينية!
□ وكيف إصطفت قيادة الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية وسلطته “الوطنية” كومبرادوراً فلسطينياً بموازاة الكومبرادور العربي الحاكم، وكيف أصبحت شريكة في حصاره وتجويع أبنائه وقمع مناضليه وتصفية قضيته الوطنية برمتها.
* * *
كانت هذه مناقشة عاجلة لشعار “معسكر الاعداء”، إلاّ أنها لا تفي بالغرض ولا تعوض عن مناقشة شاملة له ولغيره من شعارات ومقولات الخطاب الفلسطيني. وهي وإن شرحت كيف “أنقرض” هذا المعسكر من حياتنا وخطابنا، فانها تُبقي الباب مفتوحاً لمزيد من الحوار الموسع حول هذه القضايا المصيرية.
خاتمة
في الشارع الفلسطيني اليوم، وفي وعي الناس العاديين، إندحر مشروع تحرير فلسطين. لا حاجة لبحوث سوسيولوجية لإثبات ذلك، يكفيك التجوال في شوارع مدن وقرى الضفة الغربية…لترى هذا الاستخلاص بوضوح بعيداً عن تجّار الكلمات النارية والكتابات السياسية والترويج للمؤسسة الحاكمة.
لقد تم تخريب الوعي الفلسطيني، الفردي والجمعي، على كافة مستوياته وبشكل مبرمج وفعّال ومنتظم. وتم إلهاؤنا بكل قضايا الدنيا سوى تلك التي تعنينا فعلاً وتمس وطننا ومصيرنا، وشغلونا بمشاغل “الدنيا والآخرة” عدا تلك التي تشكل خطوات فعلية على درب التحرير والمقاومة. دعوكم، قالوا لنا بكل لغات الارض وأحاييلها، من مقولة التحرير تلك، فهاكم من متع الدنيا ما تشاؤا. إنتشوا بها. دعوكم من السياسة، فتلك لنا … ولنا وحدنا دون سوانا. فهذا العدو ماكر وجبار، ولا يقدر عليه أحد سوانا… سوى “غلاّبة يا فتح”. نحن، وحدنا دون سوانا، حذقنا اللعبة وأتقنا فن “المفاوضه”.
في وعي الفلسطيني الباطني تراجعَ المشروع الوطني وتصدرَ الهم الشخصي والعائلي كافة الهموم وإرتقى الذاتي على الجمعي وإعتلى قائمة الاولويات فاستحوذ على الجهد والفعل والطاقة… فصدق فينا القول الشعبي “يا رب نفسي”.
في وعي الفلسطيني الباطني أصبح تحرير فلسطين حلماً نائياً بعد أن كان واقعاً كفاحياً ملموساً إحتضنه الشعب والامة على مدى قرن من الزمن وسالت في الذود عنه أنهار من الدماء.
هذه نظرة من خلال من نظارات سوداء قاتمة! قال أحدهم.
وهذا هراء يغبن شعبنا تضحياته ويستخف بقدراته. قال آخر.
لا… لا هذا ولا ذاك. بل هو تشخيص للواقع يصفه ويدونه كما هو دون دجل.
لنا أن ننكر ذلك إن شئنا، وأن نخلد، بعد ذلك، للنوم الهنيء. ولنا أيضاً أن نجز راس من يقول به وننزل به من التهم ما نشاء. إلا ان هذا لا يغير من الواقع شيئاً. بل، هو إن دلّ على شيء، فعلى ان الغارقين في مستنقع التسوية يريدون ان يغرقونا وتاريخنا وأوطاننا معهم وأن يدفنوا رؤوسنا والى الابد في التراب كي لا نقشع الهزيمة المحيقة بنا.
لقد أحرزنا من البطولات الدونكيشيتية الكثير، وملأنا الدنيا صراخاً حتى كادت فلسطين، دعك من حجمها الصغير على خارطة الكرة الارضية، تفوز باكبر مساحة في الصحف والجرائد والمجلات والكتب والابحاث، أما عن شبكة الانترنت فحدث ولا حرج. إلا ان تاريخ الشعوب يعلمنا الحقائق بعيدا عن رغباتنا: ان الوطن لن يتحرر الى أن يصبح التحرير هماً، شخصياً وفردياً وجمعياً ووطنياً، والى أن يتحول الى واقع معاش لكل مواطن فلسطيني وعربي.
فاذا كان بيننا مَنْ يحاجج في ذلك، فليقرأ العدو، أقواله وأفعاله، ولينظر الى معسكر الاعداء (الصهيوني والعربي الرسمي والدولي دون إستثناء). هؤلاء لا يحاججون في الامر، بل هم على بينة منه.
وإلى أن تأتي اللحظة التي يصبح فيها الوطن هماً نحمله مشروعاً حياتياً ويومياً ونستدخلة عقيدة وبرنامجاً ومهمة حياة … والى أن يستقر هذا المشروع وذاك البرنامج في أعماقنا لينير ممارستنا وأفعالنا … والى أن تنهض قوى سياسية ـ اجتماعية (احزاب، منظمات، جمعيات، مثقفون) لتكون رافعة المشروع الوطني وحاملة المقاومة والنضال من أجل التحرير … الى أن تحين تلك اللحظة فان مشروع تحرير الوطن سيظل معطلاً ومشلولاً وسيبقى حلماً طوباياً يراودنا، يسكننا، نحنو اليه، نتباكى عليه، إلا انه لا يجد طريقة الى فعلنا وممارستنا.
إلا ان هذا كله لن يتحقق دون الخطوة الاولى، خلق الوعي الوطني الجمعي: النقدي والثورى لدى المواطن والاجيال القادمة. وهل يتسنى ذلك دون تصويب الخطاب وتصويب البوصلة والذي يقتضي تصويب الشعارت والطروحات؟
بدون هذا الوضوح في الرؤية والبرنامج سيظل تحرير الوطن وهماً وسراباً.
هل ما زلنا في بداية الطريق؟ أم أنه علينا ان نبدأ المشوار من جديد؟ كلا! ربما! ولكننا هذه المرة نقف في بداية الطريق الصحيح. ألم يقولوا: إعرف عدوك!
______
· موقع “كنعان”:
· موقع “كنعان” من عام 2001 الى 2008:
http://www.kanaanonline.org/ebulletin.php
· الآراء الواردة في المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع أو محرري “كنعان”.
· عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى “كنعان”.
· يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان “كنعان” الالكتروني: mail@kanaanonline.org
- Please write to us or send your contributions to: mail@kanaanonline.org.
- To subscribe to our mailing list, please send a blank e-mail message to arabic-join@kanaanonline.org.
- To unsubscribe from our mailing list, please send a blank e-mail message to arabic-leave@kanaanonline.org.
[1] تجدر ملاحظة ان خطابنا (وقيادتنا) قد استدخل وعمم مفردة “اسرئيل” بدل الكيان ومن يدعمه، في حين اسقط “الصهيوني” من توصيف الصراع في كثير من الاحيان حتى أصبحت مفردة صهيوني نادرة الاستعمال. وقد أدى ذلك، عبر عملية التهيئة الفكرية والاعلامية والثقافية، الى إسقاط البعد الصهيوني في الوعي كما دفع الى الواجهة الامامية “الاسرائيلي” ووفر له، كما تشهد آليات ووسائل الاعلام، البروز والحضور الثقافي والاعلامي الدائم إضافة الى حضورة العسكري والسياسي والاقتصادي.
[2] لم تتواجد فكرة “عودة اليهود” إلى فلسطين ولا مفهوم “الأمة اليهودية” في الفكر الكاثوليكي التقليدي وقبل أن تأتي الحركة الاصلاحية البروتستانتية. أما فكرة الصهيونية وتوطين اليهود في فلسطين فقد ظهرت مع ظهور البيوريتانيين المتشددين بعد أن كانت كتابات مارتن لوثر الموالية لليهود (1523) وقرار اوليفر كرومويل بالسماح لليهود بالعودة الى انجلترا عام 1655 قد مهدت الطريق لذلك. حدث هذا كله بثلاثة قرون قبل تبلور الفكرة الصهيونية في خلق “وطن قومي لليهود” في منتصف القرن التاسع عشر وتأسيس الحركة الصهيونية الهرتسلية عام 1897.
[3] انظر عادل سمارة في دراسة “علاقة الصهيونية بالإمبريالية والنظام العالمي الجديد”، موقع “كنعان”:
[4] نستخدم مفردة الكومبرادور الحاكم في هذا السياق للدلالة على الانظمة العربية الوكيلة للاجنبي والتابعة له ودورها في ربط التنمية الاقتصادية ـ الاجتماعية لبلدانها بالمصالح الاجنبية وشركاتها الكبرى مما يؤدي الى إحتجاز التنمية الوطنية وتخريب الصناعات المحلية وخنقها من خلال تدفق الانتاج الاجنبي وباسعار منخفضة. وهي انظمة حكم تابعة تسهل دور طبقة الكمبرادور المحلي ويقترن وجودها بوجوده مما يخلق تحالف طبقي بينها وبين الطبقة الحاكمة.
[5] على سبيل المثال، الدور الاميركي والغرب الراسمالي ودور الانظمة العربية في حرب الاسابيع الثلاثة في غزة (يناير 2009) والحرب ضد حزب الله في لبنان (صيف 2006).