مؤتمر توحيد اليسار حزيران 2009: ملاحظات على ورقة تيسير عاروري

“تجارب في عملية توحيد اليسار بعد اتفاقية أوسلو”

د. عادل سمارة

قدم تيسير عاروري ورقة استعرض فيها تجارب توحيد اليسار في الضفة والقطاع، بدرجة من الاستفاضة في وصف محطات هذه المحاولة.(بالطبع بوسع القارىء العودة إلى موقع روزا لكسمبورغ لقراءة تفصيلية).

ما يهمني في هذه الصفحات المحدودة، أن الورقة قامت على نقطتين مركزيتين:

الأولى: توحيد اليسار دون أن يعطي نفسه أي محتوى فكري أو طبقي أو كفاحي، بل اعطاء المحتوى الديمقراطي وحسب.

والثانية: لم تتحدث الورقة قط عن حق العودة أو التحرير على اعتبار (وهذا استنتاجي أنا) بأن الاحتلال أمر واقع ومقبول.

والحقيقة، أن بودي معالجة هذه الأمور وليس تفاصيل محادثات اليسار كي يتحد أو لا يتحد، وتكتيكاتهم تجاه بعضهم البعض، والحرص من هنا وهناك على المنصب (كما كتب عاروري) لا سيما في شروط العمل العلني. (طبعا عمل علني في ظل الاحتلال مسألة لها دلالاتها الخطرة)

الأمر الأول: اليسار السوفييتي صاحب براءة اختراع التطبيع

قد لا نجانب الصواب إذا قلنا، أن اليسار السوفييتي في فلسطين كان حامل “مشعل” الاعتراف بالكيان الصهيوني. وهو لم يتخل عن ذلك، اقصد احفاده الحاليين. بل تكاد تسأل مسامعك وقدرتك على التحليل هل حقاً يعرف هؤلاء ما معنى التفاخر بالوصول باكراً إلى وجوب الاعتراف بالكيان الصهيوني الإشكنازي! أما تفاصيل هذا الموقف فكتب عنها كثيرون (بولس فرح، سميح سمارة، جورج كرزم، محود محارب، سليمان بشير…وغيرهم) كتب هؤلاء وثائق تاريخية تؤكد “تمسك” الحزب الشيوعي بالاعتراف بالكيان. وهو الحزب الذي اتخذ أكثر من إسم وانتهى اليوم باسم حزب الشعب.

الأمر الثاني: إن الحزب الشيوعي الكلاسيكي كان قد سبق البرجوازية الفلسطينية والعربية في التطبيع والاعتراف بالكيان الصهيوني. فبين 1948 و 1978 ثلاثة عقود كانت الحركة الشيوعية سابقة في التطبيع على الطبقة البرجوازية الكمبرادورية في مصر ومن ثم ملاحقها من القطريات. وهذا يطرح سؤالاً: ما الذي يدفع حركة شيوعية للاعتراف (متفاخرة) بقاعدة كولونيالية عنصرية في ارض غيرها، وبعد طردهم. فمن بين فرادات الكيان انه لا يريد أحدأ من أهل البلاد فيها؟

كيف يمكن لحركة شيوعية وللقيادة السوفييتية 1948 أن تعتقد بأن كياناُ أقامه المركز الراسمالي العالمي يمكن أن يكون دولة “اشتراكية”؟ أليس هذا ضائعاً بين عجز في فهم الاقتصاد السياسي والنظام العالمي. وهو عجز من قبل من يُفترض أنه النظام النقيض لراس المال! وبين اختراق هذا اليسار من اليسار الصهيوني/اليهودي تحديداً؟ ولكن، كيف يحصل هذا لليسار المحلي؟ ألا يدل على بنية تابعة؟

الأمر الثالث: سقت الأمرين أعلاه لتبيان أن ليس فقط الكمبرادور الفلسطيني هو الذي لحق بالتطبيعية الشيوعية التقليدية، بل إن هذه الشيوعية تقوم بإغواء الكثير من يسار الكفاح المسلح للسقوط في الاعتراف بالكيان.

الأمر الرابع: وهو بيت القصيد في ورقة السيد عاروري، فالورقة تعداد لمحاولات توحيد اليسار في الضفة والقطاع على أساسين:

الأول: نقد أداء منظمة التحرير دون الخروج منها، وهو أمر مضت عليه أكثر من اربعة عقود (انظر ادناه).

والثاني: الحصول على أكبرنصيب ممكن من كعكة سلطة الحكم الذاتي عن طريق المشاركة في انتخابات مجلس الحكم الذاتي المسى تشريعي (تجاوزا) لأن التشريع على الأرض بيد الاحتلال.

يؤكد الأساسان أعلاه، أن هذا اليسار، منفردا أو مجتمعا هو:

يسار انتخابي ولا برنامجي

اليسار الانتخابي: يكشف عاروري أن هذا اليسار بدأ محاولات “إصلاح” موقف م ت ف منذ أوسلو، ولكن ليس باتجاه حق العودة والتحرير ولا حتى التنمية، بل باتجاه تقاسم السلطة ضمن الاعتراف أو على أرضية الاعتراف بالكيان الصهيوني. أي ان هدف توحيد اليسار هو الحصول على مقاعد أكثر في المجلس المذكور. بما أن هذه الانتخابات تحت الاحتلال وبموجب أوسلو، فهي انتخابات قائمة على الإقرار بأن ما احتله الاحتلال 1948 هو أرض “إسرائيل أي ان الكيان حررها من الاحتلال العربي!” بغض النظر عن تدوير الكلام.

تجدر الإشارة في هذا الصدد أن عاروري كشف للعيان بأن قيادة الجبهة الشعبية كانت موافقة على الدخول في انتخابات 1995، وهذا أمر متروك ليجيب عليه أهل الجبهة!

يسار لا برنامجي: من المألوف تاريخياً أن اليسار هو حركة طبقية بالطبيعة، بمعنى أن اليسار لا يتبلور إلا إذا كان نتاج تمثيل طبقة اجتماعية هي بالطبع الأكثر فقرا، والأكثر وقوعا تحت طائلة الاستغلال، وغائلة الجوع، والأكثر وعياً. وهذا يعني تعاطي اليسار مع التمايز فالتفارق فالتناقض فالصراع الطبقي. وفي الحد الأدنى يقوم اليسار ببناء حركة عمالية بما هي قلعته ضد البرجوازية، او على الأقل حركة نقابية لتعليم الناس كيف يطالبون بالحدود الدنيا من حقوقهم.

لكن ما شهدناه في الأرض المحتلة من اليسار وخاصة بعد اوسلو عدم انشغاله ولا حتى تشاغله قط بمشاكل وحقوق الطبقات الشعبية، مع أن مناخ القضايا الطبقية صارت أكثر تناولا. فهناك الفساد، وهناك الرشى، وهناك استغلال المراكز والنفوذ…الخ بل ما حصل أن معظم رجال/ونساء الأنجزة هم من اليسار وهم في قياداته التنظيمية! ومعروف طبعا أن الأنجزة هي مصدر رزق وهي أكاديمية تطبيع!

كما يخلو مشروع توحيد اليسار من أي مضمون كفاحي، بمعنى أن ممارسة الكفاح المسلح ليس على أجندة قوى اليسار، وإن بدرجات، فمنها من هو ضد الكفاح المسلح (خلقة ربه)، ومنها من غادره آسفا، ومنها من يمارسه بمستوى محدود كالجبهة الشعبية التي ربما تعيقها قلة الإمكانات ووجود تيار يميني بعرض نهر الأمازون.

هذا إلى جانب غياب الموقف العقيدي. فاليسار هو المفترض حامل عقيدة الاشتراكية في اخف اوزانه العقيدية. أما اليسار المحلي والذي يسمي نفسه “يساراً ديمقراطياً”، فهو مُعفٍ نفسه من اي التزام فكري سواء يساري أو اشتراكي أو ماركسي او ماركسي لينيني او شيوعي. والديمقراطية هي ناظمة علاقات في المجتمع بين السلطة والناس وبين الناس ببعضهم، وهي ليست حكراً على البرجوازية. بل يعتقد الشيوعيون الحقيقيون أنهم هم الديمقراطيون الحقيقيون من حيث الديمقراطية السياسية /الاجتماعية/الاقتصادية/ الفكرية.

وعليه، حين يطوي هذا اليسار اشرعة الاشتراكية والماركسية والشيوعية وينتهي “ديمقراطي” فهو إنما يفقد ما يلزمه بأن يكون طبقياً، وحينها لا نعود نتحدث حتى عن يسار خفيف الوزن.

هناك قضايا أخرى لافتة للنظر في ورقة عاروري، منها مثلا:

“… بذل أقصى ما يمكن من جهد لضم عدد من مناضلي حركة فتح ممن لم يفقدوا مصداقيتهم على الصعيد الشعبي.”

وهل فقدان المصداقية على الصعيد الشعبي هي ماركة مسجلة لحركة فتح؟ ألا يعني هذا بالمعكوس أن اليسار لم يفقد مصداقيته الشعبية! هذا رغم ضخامة أزمته؟ ألا ينم هذا عن تزمت يساري “يتوكأ و يتدفأ” على خطاب لا تجسيد له على الأرض؟ لو قارنا نتائج انتخابات الحكم الذاتي، من الذي فقد اكثر فتح أو اليسار؟

أو مثلا:

يبدأ عاروري ورقته بالقول ان قيادة “الحركة” ويقصد م ت ف لا تصلح “لقيادة مجتمع ولا لبناء دولة”. ولذلك أطلق اليسار الذي يتحدث عنه على نفسه (حركة الإصلاح الديمقراطي في م ت ف).

وربما يحسُن بنا القول هنا أن الكاتب وتجربة جماعاته ترتكز في “نقدها” على أرضية العجز عن الارتفاع إلى متطلبات المرحلة وحقوق الشعب، وذلك:

لأن المفترض في اليسار إذا كان غير تطبيعي، وهذا هو الافتراض المنطقي له أن يكون مكانه خارج م ت ف لأنها حسب أوسلو كمقدمات وتوقيع اعترفت بالكيان الصهيوني. وعليه، فإن اية قوة يسارية وافقت على البقاء في م ت ف بعد اوسلو تكون قد تورطت في الموقف التطبيعي “منهجياً” للحزب الشيوعي (باسمائه المتعددة حسب المراحل والمواقف) وهو الشعور بفخر الاعتراف بالكيان الصهيوني منذ عام 1948، وهو الموقف الذي لم يتخلى عنه هذا الحزب والذي اصبح لاحقا اسمه حزب الشعب.

على هذه الأرضية يمكننا معرفة محدودية محاولة هذا اليسار إصلاح م ت ف. فحينما عرفت قيادة م ت ف طريق التسوية والتفاوض لم تعد بحاجة “للخبير الشيوعي السوفييتي ” في شرح مفاتن التطبيع، فقد استشعرت هي ايضاً لَذَّات ذلك. كما لا يمكن للمرء معرفة ما المقصود بالإصلاح في مشروع واضح كله مع التطبيع والاعتراف بالكيان وما يشتمل عليه ذلك من شطب حق العودة!

ربما كان على عاروري أن يبدأ من هنا، اي من كون ذلك الحزب هو صاحب براءة اختراع الاعتراف بالكيان ليضع القارىء في صورة التاريخ الحقيقي وليس في المعاني المائعة لكلمة يسار.

على أن ما يحدد سقف المحاولة التي تحدث عنها عاروري هو ما ورد نصاً لديه: “العمل لاحقا، سواء كان ذلك عملية المفاوضات أو عملية بناء المجتمع والدولة”. اي أن سقف هذا اليسار لا علاقة له بالتحرير والعودة، وإنما بناء المجتمع (اي الضفة والقطاع، والدولة فيهما). وهذا التفسير الحقيقي لأوسلو، الذي قبل به اليسار بدرجات من دخول وزارات الحكم الذاتي إلى دخول الانتخابات لمجلس الحكم الذاتي، إلى البقاء في اللجنة التنفيذية ل م ت ف رغم اعترافها بالكيان الصهيوني.

قد يكون من باب التندُّر ان نتناول اللغة التي يتحدث بها الكاتب، وهي يسارية من أخف العيارات فيقول:

” في نفس الفترة أيضا وجه 12 شخصا، من أكبر الأثرياء ورجال الأعمال الفلسطينيين رسالة شديدة وقاسية وصريحة إلى رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة الراحل ياسر عرفات، ضمنوها رؤيتهم لطبيعة الإجراءات والتغييرات الديموقرطية الضرورية لنجاح المسيرة لاحقا”

فالمألوف أن اليسار يتجاوز مسألة الثروة إلى مفهوم الطبقة، وبالتالي فالأثرياء مثلا كانوا في العصر العباسي، اي حاملي أكياس المال، او مسؤول بيت المال وأعطه يا غلام (لاحظ غلام) مائة ألف درهم! أما اليوم فخطاب اليسار في العالم وحتى خفيف العيار، فيرى هؤلاء برجوازيي كمبرادور مثلا او بيروقرط أو راسمالية مالية…الخ وليس اثرياء. هل يخاف اليسار إلى هذه الدرجة من نعت البرجوازي بحقيقته!

لكن هذه التجربة تعيد التأكيد على قناعتنا أن الحزب الشيوعي سابقاً الشعب حالياً كان مع “الديمقراطية تحت الاحتلال” لأنه يرتكز على أرضية الاعتراف بالكيان مما لا يخلق لديه وازع النقد الذاتي في هذا الشأن.

ومثلا يقول:

“لقد كان المسمار الأخير في نعش التجمع هو فشله في خوض انتخابات المجلس التشريعي (كانون ثاني 2006) بقوائم باسم التجمع، الأمر الذي أخرجه نهائيا من خارطة القوى السياسية الفلسطينية”.

لكنني أعتقد أن السبب الأساس لفشل التجمع لا يعود إلى عدم خوضه الانتخابات بقائمة واحدة، بل إلى كون اليسار دخل السوق مفلساً، فماذا كان سيشتري؟ إن تجميع عددا من المفلسين لا يزيد كثيرا في القدرة الشرائية، إلا بمقدار أفضلية العمل التعاوني على الفردي، ولكن يظل في نطاق الكم وليس التغير الكيفي.

فدخول هذه الانتخابات بدون إنجاز على الأرض مسلح أو اجتماعي طبقي كان لا بد أن يحقق لليسار نتائج بحجمه. فقد دخلت حماس بقوة الكفاح المسلح، ودخلت فتح بقوة موقعها في السلطة. أما اليسار، فكان رصيده في الكفاح المسلح هو رصيد الجبهة الشعبية وحدها.

ويقول:

التوصل الى قناعة بأن كامل الاحتياجات المالية الضرورية لسير حياة الحركة بشكل طبيعي، يمكن توفيرها بشكل أكيد”.

ولكن من ناحية واقعية، فاليسار هو بوابة التمويل الأجنبي أولا. وثانياً، حتى مؤتمر توحيد اليسار الذي قدم الرجل هذه الورقة فيه مموَّل من مؤسسة ألمانية رسمية التمويل. والأكثر حرجاً، أن ممثل هذه المنظمة (روزا لكسمبورغ) قال في حديثه يوم افتتاح المؤتمر لهؤلاء اليساريين مجتمعين: “…انتم فاسدون وتتسابقون على إرضاء السلطة”!

موقف طريف: هو يعرف انهم هكذا…ويموِّلهم

وهم يسمعون نقده…ويسمحون له بأن يمولهم؟

أليس هذا موقفاً سوريالياً!

ملاحظة: كتبت في أوائل الثمانينات بحثاً ورد فيه أن المشترك السياسي بين الفلسطينيين هو اساسي، وعليه، فالطبقة العاملة الفلسطينية، وإن خضعت للتقسيم السياسي فهي طبقة واحدة في الأراضي المحتلة والكيان والأردن…الخ.

وكتب ضد فهمي هذا تيسير عاروري بإسمه كما اذكر، وكتب كذلك ضدي المرحوم بشير البرغوثي ولكن بغسم محمد سعيد. ونشرا مقاليهما في مجلة الكاتب التي كان يصدرها اسعد الأسعد، الذي رفض نشر ردي عليهما، فنشرته في جريدة الميثاق. المرحوم بشير صار وزيرا في الحكم الذاتي، وأسعد سفيراً، وأنا هنا!!!