قراءة أخرى للتاريخ
بادية ربيع
محظور على المرأة العمل، وإن حصل فليس مستحباً ، ولا يُجاز لها ذلك إلا اضطراراً ولذا يُجاز بحسرة! وهي إذ تُمنع من كل هذا، بما أن العمل اساس الحياة، لا بد لها أن تلجأ أحياناً إلى المرونة وربما الكيد. ولكن لماذا لا يلجأ الرجال إلى الكيد؟ أو لماذا لا يُحسب عليهم كيدهم؟ ألم يقولوا الحرب خدعة؟ اليست سيطرة الرجل على المرأة نتيجة حرب ضروس؟ المعركة الأطول في التاريخ والتي لم تنته! فلماذا لا يُعيَّر الرجال بخبثهم وكيدهم؟
ولكن، اين نجد الخلاف على شغل المرأة؟ هل هو في غير التشكيلات الاجتماعية الإقتصادية المتخلفة بالظروف (العبء الاستعماري) والمتخلفة بالقرار (الإعاقة المقصودة من الحاكم المحلي)، وخاصة في القطريات العربية، وكذلك في مجتمعات المؤسسات الدينية. وبشكل عام، كلما كان المجتمع أكثر تخلفاً، اي أقل تصنيعاً، كلما كان مشغولاً بالمرأة. وهو انشغال وتشاغل يتجاوز إخضاعها للاضطهاد إلى إخضاع المجتمع بمجمله للاختراق الأجنبي، باسم حقوق المرأة والمجتمع المدنيين وتعميم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي اختراقات تطال النساء والرجال على حد سواء.
على أن هذا ليس موضوعنا، أي ليس شأننا هنا النقاش النظري حول شغل المرأة، بل هذه المرة، يتعلق الأمر بالنص في علاقته بالزمن، بالتاريخ، وبمحمول الكلام طبقاً لثقافة مجتمع ما، تشكيلة اجتماعية اقتصادية ما، في مرحلة ما، هي سابقة جدا في هذا المقام.
أصل سبب الكتابة نص وصلني بالصدفة، لكنه استفزني، وقد تكون أجود الكتابة ما تستفزُّ.
نص الرسالة:
كيدهن عظيم…
أراد الحجاج أن يتزوج من امرأة رغما عنها وعن أبيها
هذه المرأة اسمها هند فتزوجها وذات مرة بعد مرور سنة جلست هند أمام المرآة تندب حظها وهي تقول :
وما هند إلا مهرة عربية سليلة أفراس تحللها بغل
فأن أتاها مهر فلله درها وإن أتاها بغل فمن ذلك البغل
وقيل إنها قالت :
لله دري مهرةُ عربية ….. عُمِيت بليل إذ تَفخدها بغلُ
فان ولدت مهراً فلله درها…. وان ولدت بغلا فقد جاد به البغل ُ
فسمعها الحجاج فغضب…..
فذهب إلى خادمة وقال له اذهب إليها وبلغها أني طلقتها
في كلمتين فقط لو زدت ثالثة قطعت عنك لسانك وأعطها هذه العشرين ألف دينار فذهب إليها الخادم فقال
( كنتي _فبنتي )
كنتي يعني كنتي زوجته فبنتي يعني اصبحتي طليقته
ولكنها كانت أفصح من الخادم فقالت:
كنا فما فرحنا فبنا فما حزنا وقالت خذ هذه العشرين ألف دينار لك بالبشرى التي جئت بها ,,,,,,,,,,,, ,,,
وقيل إنها بعد طلاقها من الحجاج
لم يجرؤ احد علي خطبتها ..وهي لم تقبل بمن هو أقل
من الحجاج…..فأغرت بعض الشعراء بالمال ..فامتدحوها
وامتدحوا جمالها عند عبد الملك بن مروان….فأعجب بها
وطلب الزواج منها وأرسل إلى عامله على الحجاز ليخَبرها له ..أي يوصفها له,,,,, فأرسل له يقول أنها لا عيب فيها
غير أنها عظيمة الثديين,,,,,فقال عبد الملك وما عيب عظيمة الثديين,,, تدفئ الضجيع..,تشبع الرضيع
فلما خطبها وافقت وبعثت إليه برسالة تقول :
أوافق شرط أن يسوق البغل أو الجمل من مكاني هذا أليك في بغداد الحجاج نفسه فوافق الخليفة .
فبينما الحجاج يسوق الراحلة إذا بها توقع من يدها دينار فقالت للحجاج :
يا غلام لقد وقع مني درهماُ فأخذه فقال إنه دينار يا سيدتي فنظرت إليه وقالت : الحمد لله الذي أبدلني
بدل الدرهم دينارا.
ففهمها الحجاج وأسرها في نفسه …أي أنها تزوجت خيرا منه
ويقال إن عند وصولهم تأخر الحجاج في الإسطبل بينما الناس يتجهزون للأكل فإذا بالحجاج لم يكن حاضرا فأرسل إليه الخليفة ليطلب حضوره للأكل
فرد عليه نحن قوما لا نأكل فضلات بعضنا
* وقيل أنه قال ربتني أمي علي ألا آكل فضلات الرجال*
ففهم الخليفة وأمر أن تدخل زوجته بأحد القصور ولم يقربها
إلا أنه كان يزورها كل يوم بعد صلاة العصر ..
فعلمت هي بسبب عدم دخوله عليها ..فاحتالت لذلك..
وأمرت الجواري أن يخبروها بقدومه لأنها أرسلت إليه
أنها بحاجة له في أمر ما
فتعمدت قطع عقد اللؤلؤ عند دخوله…
ورفعت ثوبها لتجمع فيه اللآليء…فلما رآها
عبد الملك…أثارته روعتها وحسنها
وانقهر لعدم دخوله بها لكلمة قالها الحجاج..
فقالت وهي تنظم حبات اللؤلؤ….سبحان الله..
فقال عبد الملك مستفهما
لم تقولي سبحان الله…..فقالت :أن هذا اللؤلؤ خلقه الله لزينة الملوك..قال نعم ..قالت :: ولكن شاءت حكمته
ألا يستطيع ثقبه إلا الغجر…فقال متهلالا .نعم والله..صدقت
قبح الله من لامني فيك…ودخل بها من يومه هذا
فغلب كيدها… كيد الحجاج
بداية، لماذا قالت السيدة ما قالته في الحجاج لكي يصله ووصله، وبشكل خاص إجابتها له من خلال الخادم وهي إجابة فيها تحدً وتخلو من الكيد قط، اللهم إلا إذا رأى القارىء ان البلاغة درجة من الكيد! (كنا فما فرحنا فبنا فما حزنا وقالت خذ هذه العشرين ألف دينار لك بالبشرى التي جئت بها ,,,,,,,,,,,, ,,,)، فهل كان ذلك كيداً أم مقاومة؟ فلو قالت هذا امرأة اليوم لقيل إنها نسوية لدى بعض المثقفين، وفاجرة لدى غيرهم. وهذا يفتح على ثقافة المجتمع وخطابه كمختلِف بين حقبة تاريخية وأخرى. فالسيدة لم تلجأ اساساً للكيد والخبث بل للقول الواضح.
ولكن لماذا تأخذ الناس اليوم رواية الأمس كما قُرأت وتُبقي عليها مقُيِّدة بقراءة الماضي؟ أليس لأن الكثيرين منا يعيشون اليوم بالتزام بما قاله السلف ، بغض النظر في اي مجال؟ يقرأون الماضي قراءة تسليمية لأنهم من جهة يرفضون استخدام أدوات جديدة في التحليل، أو لأنهم فيما يخص المرأة يفضلون الأدوات القديمة لأنها ضد المرأة.
إذا كان الشعر ديوان العرب، وهو صحافتهم آنذاك، فإن هنداً كمن نشر مقالاً في صحيفة جدُّ معروفة ومقروءة. وهذا يوجب أن نتعامل مع بيتي الشعر للسيدة كتحدٍ ورفض وليس كيداً. لأن التعامل معها بمفهوم الكيد، هو تجريدها من روح المقاومة. وقد يكون دليلنا هنا أنها لم تنكر ولم تتراجع أمام الحجاج بن يوسف الثقفي الذي كان نموذجاً للقهر والقمع. كان بوسعها أن تنكر القول. فهو لم يكن منشوراً في كتاب أو موقع (إنترنيت).
أما صورة العلاقة بينها وبين مروان بن الحكم، فليست كيداً كذلك، بل هي استخدام قوتها، وليس ضعفها. فجمال المرأة هو موطن قوة لا موطن ضعف. واستخدام ذلك، وتحديداً الجسد مثابة تحدٍ لا احتيال. وربما كان الرجال الأكثر تطورا ثقافياً ومنزلة فكرية هم الأقدر على فهم الجسد، جسد المرأة والتعامل معه كقيمة فيها درجة عالية من العلاقة الروحية وليس القيمة التبادلية التي تُضفى على البضاعة بعد سحب قيمتها الإنسانية منها كما يُسحب الزبد والسمن من الحليب ويُبقى على (الميص- ماء من الحليب فيه دسم ضئيل يُعطر للجراء عادة. هذا في الماضي، أما اليوم فيُقال ان الجبنة (الميش) هي منه والله أعلم).
ما اود الإشارة إليه هنا، أن تمتعنا بقصص التاريخ، وهي أحداث، يجب أن لا يسمح لنا بإنزالها منزلة القداسة، وبالتالي نقل حكمة التاريخ كما رآها الأقدمون وليس كما يجب ان نفهمها ونضفي عليها نحن!
لعل الملاحظة الثانية اللافتة في هذا المقام هي أن يسوق الحجاج راحلة هند من الحجاز إلى بغداد، وربما إلى دمشق حيث الخلافة الأموية. فهل يُعقل أن يكون الخليفة ضيق الأفق إلى درجة إذلال أحد كبار قادته الذي طوَّع القطر الأكثر تمرداً، العراق، ليقود راحلة سيدة كان هو نفسه زوجها؟ وهل الخليفة مضطر إلى هذا الحد لإذلال الحجاج ؟ ألم يكن الحجاج من كبار القادة، وهل يمكن تغييبه عن مهامه ليقوم بمهمة (تستغرق منه اياماً طوالاً) ويمكن أن تقوم بها عامة الناس، وتكون سعيدة بذلك؟ لو كان الأمر تناقضاً بين مروان والحجاج لأقاله من منصبه! بل لعل إجابة الحجاج لمروان فيها إهانة كبيرة: ( وقيل أنه قال ربتني أمي علي ألا آكل فضلات الرجال*). فمن يرغم الحجاج على سوق راحلة طليقته من الحجاز إلى الشام، يمكنه قطع راسه على هذه الإجابة.
اعتقد ان أخذ الرواية التاريخية كما قيلت وحسب، فيه انتقاص من قدرة المستمع أو القارىء. والخليفة في ذلك الزمان قادر على الزواح من هند أو غيرها بطرق اقل كلفة ومخاطرة من هذه. يمكن للمرء أن يرى في هذا التفسير القسري لعلاقة الخليفة بالحجاج أمرين:
الأول: شهوانية لدى الخليفة في غير محلها، أو اصعب على التصديق.
والثاني: تركيز لما يُنسب إلى الشرق عادة من طغيانية واستبداد (يمكن الرجوع إلى كتاب كارل ويتفوجل، الإستبداد/الطغيان الشرقيOriental Despotism). وخطورة هذا التفسير أو تركيز هذه الصورة مقصود به او قد يُقصد به تبرير القمع الحالي على اعتبار أن اليوم هو الأمس، بإسم مجرد آخر، هو “اليوم”.
ولو كانت الحياة آنذاك بكل هذا القمع الثقيل، لما كان من السهولة بمكان على هند أن تتجرَّأ وتقول ما قالت، أو لكان بوسع الحجاج ضرب عنقها، وهذا لا أقصد به الانتقاص من جرأتها في الحالتين.
لعل ما قالته ميسون الكلبية البدوية التي تزوجها معاوية هو دليل على جرأة المرأة من جهة، ولكن على مرونة الخليفة ايضاً:
لبيتٌ تخفق الرياح فيه أحب إليَّ من فصر منيفِ
ولبس عباءة وتقر عيني أحب إليَّ من لبس الشفوفِ
وهل كان للخليفة إلا أن يغتاظ من هذا القول لو كان الاستبداد إلى الحد الذي قيل في قصة الحجاج وهند، ومعاوية سابق على مرون بسنوات قليلة، بمعنى أن لا تغير يُذكر طرأ على الدولة الأموية بين الرجلين.