ليبراليونا ومسألة التطبيع

د.ابراهيم حجازين

يثير بعض من الكتاب والصحفيين العرب قضية العلاقة بين الليبراليين العرب ومسألة التطبيع مع إسرائيل ويعلنون أنه لا توجد علاقة البتة بين التيارات الليبرالية العربية من كونها كذلك ، وبين الدعوة للعلاقات الطبيعية مع إسرائيل التي لا تزال تمعن في سياساتها السادية ضد المنطقة وشعوبها كافة . لذا فهم أي هؤلاء الكتاب والصحفيون يدعون إلى الفصل بين الحالتين على اعتبار أنه لا رابط بينهما، وهم بالتالي يرفضون تصنيف القوى والتيارات السياسية والأيديولوجية تبعا للموقف من مسألة التطبيع مع إسرائيل .

حجتهم في هذا الأمر هو في توصيف الليبرالية التاريخي . وهم يطرحون الموضوع كالتالي : “الليبرالية كمذهب وفلسفة تدعو إلى سعادة الفرد ورفعة المجتمع وتقدمه، وهذا المذهب يؤمن بقيم التسامح والاعتراف بحق الآخر في اعتناق الآراء التي يشاء دون إرغام أو قسر فكري أو تسفيه” . ويستطرد أصحاب هذا الرأي أن الليبرالية انطلاقا من مبادئها الأساسية تحترم كافة الآراء الأخرى بما فيها ارائهم السياسية وسلوكهم المبني عليها، “لذا لم يكن من محض الصدفة أن الديمقراطية الحديثة نمت وتطورت وترسخت بالتزامن والترابط مع ظهور الليبرالية الفكرية والسياسية” . هذا فعلا توصيفا تاريخيا صائبا لليبرالية كما ظهرت في خضم التبدلات والتحولات في المجتمعات الأوروبية إبان الصراع مع النظم السياسية والمؤسسات الاجتماعية والدينية الإقطاعية وحمل هذا الفكر والتوجه الجديد قوى اجتماعية جديدة صاعدة ونابضة تمثلت أساسا بالبرجوازية .

ظهرت الليبرالية في أوروبا في ظروف وشروط تاريخية محددة وكان لا بد لها أن تصيغ المجتمع سياسيا وفكريا بقيمها ونظرتها للكون والحياة والمجتمع والمستقبل عند انتصارها وهذا ما حدث فكانت الديمقراطية والحداثة من ثمرات انتصار البرجوازية على الإقطاع ومؤسساته.

عرفت بعض البلدان العربية في نهاية القرن التاسع عشر وحتى أواسط القرن العشرين هذا النوع من الفكر، لكن القوى الاجتماعية التي كانت تقف من وراء هذا الاتجاه بقيت غير مؤثرة بل نواة ضعيفة، ولم يتكرس كاتجاه حاكم أو فاعل حتى نحكم على سلوكه السياسي، لا ندري إن كان مقدرا لها النمو والتطور ، حيث جاءت ظروف منعتها من ذلك فماتت مبكرا ومع ذلك فقد وقف التنويريون العرب وقفة شجاعة وتاريخية في صراعهم مع القوى المعيقة للتقدم والحداثة وأغنوا التراث الفكري والأدبي العربي بما يجعلنا نعتز ونفخر، ورغم هذا لابد من الإشارة أن هؤلاء كانوا متأثرين خلال سنوات دراستهم في الغرب بالليبرالية وفكرها وثقافتها ولم يكن نتيجة لتطور موضوعي في المجتمعات العربية . نسوق هذا الكلام ليس للتقليل من شأن إنتاجهم ونشاطهم الذي نفخر به كما أشرنا ، لكن للتأكيد مرة أخرى أن الليبرالية هو إنجاز تاريخي لشعوب أخرى ولم تتولد شروطها في مجتمعاتنا العربية.

لم تتكرر عندنا الظروف التي أنضجت النموذج الذي ترسخ في الغرب الأوروبي نظرا للتطور التاريخي للمنطقة. حيث جاءت مرحلة الاستعمار فقضت على أية إمكانية لتطور قوى اجتماعية تأخذ على عاتقها قيادة المجتمع في طريق الديمقراطية والحداثة والليبرالية. وفي مرحلة الاستقلال سادت أنظمة الحزب الواحد أو الحاكم المطلق فأجهزت كليا على تلك الإمكانية .

بناء على ذلك نتساءل من أين وكيف ظهرت القوى التي تدعى أو تدعو نفسها بالليبرالية في البلاد العربية الآن ؟ فلم يثبت في الواقع أن الليبرالية تنمو في رحم أنظمة متسلطة بل على أيدي قوى تصارع ضد التخلف والتسلط. وتحقق الليبرالية الحقيقية نموها من خلال “شعار دعه يعمل دعه يمر” ضمن رقابة قضائية مستقلة واجواء نقية من الفساد والإفساد. بينما ظهرت القوى تلك في بلداننا داخل السلطات والأنظمة المناوئة للديمقراطية ومستفيدة من الظروف التي تتيحها غياب الرقابة القضائية والنيابية والاستفادة من هذه الظروف في ممارسة الفساد وتكديس الثروات. فهذا الخلط بين الليبرالية الأصيلة كما عرفتها أوروبا قبل قرون وبين الليبراليين الجدد كما نعرفهم في بلداننا العربية هدفه التغطية على سمات وخصائص “ليبراليتنا”.

نستنتج ان الليبرالية التي ظهرت في الغرب خلال عصر النهضة والثورات الأوروبية لا علاقة لها من قريب أو بعيد مع من اطلقوا على انفسهم ليبراليين جدد في بلادنا وايضا لا علاقة لهم بالليبراليين الجدد في الدول الرأسمالية المتقدمة فهناك هم يمثلون ظاهرة أصيلة ولدت كظاهرة رجعية وفاشية في بلدانها، اما اصحابنا من المدعوين ليبراليين عندنا فهم ابواق وادوات تنفيذ لمراكز تعمل من اجل الهيمنة الامبراطورية .

فهؤلاء كما هم اليوم ومن دون تعميم حتى لا نقع في شبهة التعميم المتسرع مرتبطون بالقطب الواحد وبمراكزه الإعلامية والأيديولوجية المتعددة، هؤلاء هم بالذات الداعين للتطبيع بكل السبل والوسائل المكشوفة وغير المكشوفة، وهم يعملون جهارا لبيع مقدرات الوطن وربطه كليا ونهائيا بالمشروع الكوني ساخرين من الانتماءات الوطنية والقومية لتخلفها مقابل ما تعد به العولمة من وهم التحضر والتقدم، هم أصلا غير المرتبطين بمجتمعاتهم وليسوا بالمعنيين بقضاياها حتى أولئك اليساريون الذين غادروا صفوفهم وتنكروا لماضيهم والتحقوا بالليبراليين الجدد كانوا من أوائل المطبعين حتى يرضى عنهم أسيادهم الجدد .

فممارسة التطبيع هنا إذن لا تدخل ضمن الحق في إبداء الرأي كقيمة من قيم الليبرالية ولا هي تعبير عن قيم التسامح والاعتراف بحق الآخر في اعتناق الآراء التي يشاء ، ولا تقع ضمن المطالبة باحترام أراء الأخرين ومواقفهم، فممارسة التطبيع مع العدو الاسرائيلي تعبير عن شيء اخر يدركه أي مواطن لو يسأل عن توصيفه لمن يسلم مقدرات وطنه لأعدائه.