عشيّة الاجتماع الأممي الحاشد في دمشق

نصر شمالي

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2027 )

في الفترة ما بين 28 – 30 أيلول/سبتمبر الجاري (2009) سوف تحتضن دمشق اجتماعاً أممياً حاشداً يحضره أكثر من خمسين حزباً شيوعياً يمثّلون معظم البلدان في جميع القارات، وإنّه لحدث عالمي هام ينبغي الاحتفاء به لأسباب هامة عديدة، لكنّنا سوف نقتصر في هذا الحيّز، وفي عشيّة هذا الاجتماع، على ذكر اثنين من هذه الأسباب.

إنّ السبب الأول، الذي يضفي أهمية استثنائية على اجتماع دمشق الأممي، هو أنّه يأتي في سياق استرداد شعوب العالم لزمام المبادرة الذي أفلت منها منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومعسكره الأوروبي، وما ترتّب على ذلك من تفرّد واستبداد الريغانية/التاتشرية الليبرالية المتوحشة، واستباحتها العالم من أقصاه إلى أقصاه، وتدخّلها الفظّ المدمّر في أخصّ خصوصيات الأمم جميعها، لتبلغ جرائمها الذروة في عهد بوش الابن الذي أطلق العنان لقواته العسكرية، الرسمية وغير الرسمية، تنشر الخراب وتهلك ملايين البشر، بخاصة في منطقة البلقان وفي المنطقة العربية وحولها.

إنّ النتائج الكارثية التي ترتّبت على الانهيارات والتحولات الدولية، في مطلع تسعينيات القرن الماضي، لم تقتصر على شعوب الاتحاد السوفييتي وحدها، ولا على الشيوعيين وحدهم، بل شملت جميع الشعوب المظلومة وجميع حركات التحرّر المناضلة، فكانت سنوات عجاف بدا فيها العالم وكأنّه استسلم تماماً، وبدت حركات التحرّر وكأنّها فقدت ضرورتها التاريخية، وكأنّما هي تضمحلّ وتنحدر على طريق التلاشي والزوال، ولقد كان صعباً جدّاً على الأقليات الصامدة، من مختلف الاتجاهات المناضلة وفي جميع بلدان العالم، إقناع غيرها بإمكانية استرداد زمام المبادرة، وإنّني لأذكر المؤتمر القومي العربي الذي ضمّ جميع الأطياف السياسية، اليسارية والوطنية والإسلامية بلا استثناء، والذي تأّسس في بداية تلك الانهيارات والتحولات السلبية، وأخذ على عاتقه مواجهتها، وما لاقاه تأسيسه من استغراب وإشفاق واستهجان واستخفاف، حيث شاعت وسادت حينئذ الفكرة القائلة بنهاية التاريخ وبأزلية سيادة الرأسمالية الليبرالية!

اليوم يبدو العالم وقد التقط أنفاسه، واستعاد رباطة جأشه وتوازنه الطبيعي، بعد أقلّ من عشرين عاماً على انفلات ضواري الرأسمالية الليبرالية، الذين تطلّعوا إلى بسط سيادتهم التامة على العالم أجمع لمائة عام قادمة، فكان احتلالهم للعراق خطوتهم الأولى على طريق تحقيق هذه السيادة لولا أنّ الشعب العراقي البطل جعلها خطوتهم الأخيرة وبداية انكفائهم المستمرّ، وليس من ريب أنّ صمود جبهات المقاومة العربية والإسلامية، ونجاحها في لجم الهجمة الاستعمارية الصهيونية وإيقاف اندفاعها، كان له الفضل الكبير في نهوض حركات التحرّر عموماً من عثرتها، وفي هذا السياق تأتي نهضة الأحزاب الشيوعية في جميع البلدان، ويأتي اجتماعها في دمشق كخطوة متقدّمة على هذه الطريق، فالقلّة الشيوعية الصامدة التي بدأت اجتماعاتها قبل سنوات بحوالي عشرة أحزاب تحوّلت اليوم إلى كثرة تحشد أكثر من خمسين حزباً!

أمّا السبب الثاني، الذي يضفي أهمّية استثنائية على اجتماع دمشق الأممي، فهو وضع القضية الفلسطينية على رأس جدول أعمال هذا الاجتماع، كما صرّح السيد حنين نمر الأمين الأول للحزب الشيوعي السوري، حيث نتوقع أن نستمع اليوم إلى خطاب شيوعي يتجاوز في تأييده لحقوق الفلسطينيين ذلك التأييد السوفييتي القديم القوي إنّما المتحفظ، الذي يأخذ بعين الاعتبار الشديد “حقوق” الإسرائيليين في فلسطين، ويبرّر إقامة دولتهم والاعتراف بها بناء على تحريفات للماركسية تبنّتها حكومة ستالين، وهي التحريفات التي تزعم أنّ إقامة “دولة إسرائيلية” سيحقّق نهوض المنطقة العربية وسيكون لصالح التقدّم الأممي عموماً! علماً أنّه لم يكن لحقوق الإسرائيليين المزعومة أيّ أساس على الإطلاق حين قيام دولتهم بمبادرة من المستعمرين الإنكليز البريطانيين والأميركيين! وجدير بالذكر هنا أنّ مثل هذه التحريفات، في جميع الشؤون والميادين، أسّست لانهيار الاتحاد السوفييتي، ولا بدّ أنّ الشيوعيين الحقيقيين يعون ذلك جيّداً اليوم!

كي أوضّح أكثر ما قصدته بإشارتي إلى الأسباب التي جعلت حكومة ستالين تعترف بإسرائيل، وتبرّر إقامتها، أنقل عن لينين ما ذكره بصدد موقف ماركس من القضية الأيرلندية. قال لينين: “في بادئ الأمر اعتقد ماركس أنّ الحركة العمالية في قلب الأمة الظالمة (الإنكليزية) وليس الحركة القومية في قلب الأمة المظلومة (الأيرلندية) هي التي ستحرّر أيرلندة.. لكنّ الظروف تطوّرت بطريقة وقعت معها الطبقة العمالية الإنكليزية لمدّة طويلة من الزمن تحت تأثير الليبراليين، وسارت في ذيلهم وفقدت دورها القيادي، أمّا الحركة التحرّرية القومية الأيرلندية فقد اشتدّ ساعدها واتخذت أشكالاً ثورية، فكان أن أعاد ماركس النظر برأيه وأصلحه.. يقول ماركس: لقد اعتقدت طويلاً أنّ بالإمكان هدم النظام الأيرلندي (وتجديده) بفضل نهوض الطبقة العاملة الإنكليزية.. غير أنّ دراسة المسألة بمزيد من التعمّق أقنعتني بالعكس.. إنّ الطبقة العاملة الإنكليزية لن تتمكّن من فعل أيّ شيء إذا لم تتخلّص من أيرلندة.. إنّ جذور الرجعية الإنكليزية في إنكلترا تكمن في استعباد أيرلندة”! (المختارات).

بناءً على ذلك، أليس بإمكاننا القول أنّ جذور الرجعية الإنكليزية والأميركية والأوروبية الغربية عموماً، منذ الحرب العالمية الأولى وحتى اليوم، تكمن بالدرجة الأولى في استعمار واستعباد الشعوب العربية والإسلامية، وفي نهب ثرواتها وبخاصة النفط، وفي اغتصاب أراضيها وبخاصة فلسطين؟ وإذا كان ماركس، في القرن التاسع عشر، قد فقد ثقته بجدارة الطبقة العاملة الإنكليزية كقوة تقدمية كفيلة بتحرير أيرلندة، فكيف تجاهل ستالين ذلك في القرن العشرين، ووضع ثقته في اليهود الصهاينة، بزعم أنّهم قوة تقدمية كفيلة باستنهاض المنطقة العربية وتحرّرها؟!

ns_shamali@yahoo.com