بورصة مكّة قبل الإسلام!

نصر شمالي

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2039 )

بصدد العصر العربي الإسلامي العالمي: “لم يكن من المعقول بداهة أنّ مجموعة من القبائل البدوية تتحوّل فجأة إلى أعظم إمبراطورية في عصرها، فتقوّض الإمبراطورية الفارسية، وتوشك أن تقضي على الإمبراطورية الرومانية قضاءً نهائياً. ولا يقتصر الأمر على القوة العسكرية، بل يتخطّى ذلك إلى القيادة الفكرية والعلمية للعالم كلّه (على مدى حوالي ألف عام!) حيث تنهض حضارة جديدة تنتشر إشعاعاتها في كلّ مكان وفي جميع القارات. إنّ حدثاً خطيراً كهذا لا يمكن أن يقع من دون مقدّمات، ومن دون كفاءة واستعداد”! هذا ما يقوله المفكر المصري المعروف أحمد عباس صالح في كتابه (اليمين واليسار في الإسلام).

لقد كانت مكّة قبل الإسلام مركزاً تجارياً دولياً رئيسياً، فهي حلقة الاتصال بين اليمن والحبشة من جهة وبين فارس وبيزنطة من جهة ثانية، وبين هذه المناطق جميعها وبين الهند والصين من جهة ثالثة، فبضائع ومنتجات تلك الدول كانت تنتقل بينها بوساطة قوافل عربية (أسطول تجاري برّي) يبلغ عددها ألفي بعير محمّلة بالبضائع النفيسة، ومحروسة بقوة عربية كبيرة، يقودها أدلاّء عرب، ويصحبها خبراء في التجارة، وتراجمة، ومنظّمون، جلّهم من العرب، أما قيمة ما تحمله تلك القوافل في واحدة من رحلاتها فكانت تبلغ مائة ألف دينار، وفي بعض التقديرات فإنّ ما كان يشتريه الروم من سلع بلاد العرب وفارس والصين بلغ ما قيمته مائة مليون درهم، كما يذكر المفكّر السوري المعروف سعيد الأفغاني في كتابه (أسواق العرب).

كان للأحباش والروم والفرس في مكّة قناصل يقومون على الشؤون التجارية لبلادهم، وينظمون أعمالها في تلك العاصمة التجارية الدولية التي شبّهت (في ما بعد) بالبندقية في عصرها الذهبي! (بالطبع كان الأصحّ منطقياً أن تشبّه البندقية بمكّة وليس العكس!) وقد تطوّرت التجارة الدولية في مكة إلى درجة عالية من التقدّم، بحيث عقدت قريش معاهدات تجارية مع حكومات الروم والفرس والأحباش، وهي تلك التي عرفت بالإيلاف!

كانت مكّة مركزاً تجارياً دولياً حرّاً تباع فيه السلع المختلفة، كما هو الحال في أيّة منطقة حرّة في العصر الحالي، فتعقد فيها جميع المعاملات التجارية الدولية باعتبارها مركزاً تجارياً دولياً، أي أنها كانت أشبه بالبورصة، حيث تحدّد فيها الأسعار دولياً، وتتمّ فيها المضاربات الدولية، ويجري تبادل السلع إسميّاً بين التجار والمضاربين من مختلف الأقوام، بينما البضائع لا تزال غالباً في مخازنها أو أنّها في الطريق!

على صعيد آخر، عرفت مكّة الأعمال المصرفية على أوسع نطاق، فكان توظيف الأموال النقدية عملية سائدة، عن طريق القروض بالفائدة وبضمانات مختلفة، وكانت هناك فوائد بسيطة وفوائد مركّبة! ويحدّثنا القرآن الكريم عن (قناطير مقنطرة من الذهب) وعن (الذين يكنزون الذهب والفضة) أين؟ في مكّة طبعاً، حيث الأرستقراطية القرشية الفاحشة الثراء!

كذلك، وبما أنّ العصر كان عصر العبودية، فقد كانت هناك تجارة العبيد أيضاً، الذين كانوا يجلبون إلى مكّة ليباعوا فيها ثمّ ينقلون إلى أسواق أخرى، فكان ورودهم على مكة كورود البضاعة (الترانزيت) حسب شرح سعيد الأفغاني، لأنّ المجتمع المكّي لم يكن بحاجة إلى العبيد في ميادين الإنتاج، كما كان الحال في بلاد الروم مثلاً، حيث شكّل العبيد طبقة اجتماعية وأكثرية ساحقة تقوم بأعباء الإنتاج الروماني الزراعي وغير الزراعي، ففي الجزيرة العربية، بخاصة في الحجاز، كانت نادرة حاجة الإنتاج إلى العبيد، ولذلك فإنّ أغلب الموجودين من العبيد كانوا يعملون إمّا في الخدمة، أو في الرّعي، أو في الزراعات القليلة، أو في خدمة القوافل المسافرة، وفي الحراسة والدفاع عن تلك القوافل حال تعرّضها للخطر!

لقد كان الطابع (الجمهوري/الديمقراطي/الأرستقراطي) للإدارة في مكّة واضحاً منذ عهد قصيّ بن كلاب ونهوض “دار الندوة” التي أسّسها، حتى أنّ المفكّر المؤرّخ لامانس شبّه نظام الحكم في مكّة بجمهوريتي البندقية وقرطاجة! (مرّة أخرى لا ندري لماذا لا يكون التشبيه معكوساً!) وجدير بالذكر أنّ قصيّ من مواليد دمشق حيث يقيم أهله بصفتهم من أبنائها، فعرب سورية وعرب الحجاز وغيرهما كانوا قبل الإسلام أمة واحدة مشتّتة تسعى إلى التحرّر والوحدة، وقد أرسل قصيّ إلى مكة لأول مرّة وهو في العشرينات من عمره، في سياق مهمّة سياسية عربية عامة كما تشير أخباره!

أخيراً، فإنّنا نعرض هذا “الغيض من فيض” ونحن نتابع الحملة السخيفة التي شنّها ويشنّها المحافظون الجدد الصهاينة، وتلامذتهم المحليون الليبراليون، ضدّ الأمة العربية في ماضيها وحاضرها، بهدف تمزيقها، لكنّهم بالطبع “كناطح صخرة”! ونختم بشهادة فريدريك أنجلس (في كتابه: ديالكتيك) حيث قال: “إنّ المفكرين العرب (في العصر الإسلامي) هم السلف البعيد للأنسكلوبيديين الفرنسيين في القرن الثامن عشر.. إنّ لدى الشعوب الرومانية فكراً متحرّراً صافياً مأخوذاً عن العرب، ومطعّماً بالفلسفة اليونانية التي اكتشفت مؤخّراً، ثمّ راح الفكر يتأصّل رويداً رويداً ويمهّد لظهور مادية القرن الثامن عشر”!

ns_shamali@yahoo.com