إعداد :حسين بالي
كاتب وباحث تونسيّ
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2042 )
يحق للصين أن تثني على صواب اختيارها مقاومة التحرير الكامل لنظامها المالي ولا سيما نظرتها بعين السخف حيال ما يسمى بالرهون العكسية (المشتقات المالية) التي ينظر إليها باعتبارها السبب الرئيس وراء اندلاع الأزمة المالية والإقتصادية الراهنة. والرهون العكسية التي وصفت بأنها تماثل وضع مرآة أمام أخرى مما يتيح عكس صورة الجسم إلى ما لا نهاية إنما هي ابتكار مالي يقوم على توليد الرهون ومن ثم تسنيدها وتوزيعها. “وكانت الفكرة الكامنة خلف هذا الإبتكار تقوم على تخفيف المخاطر النظامية بإبعاد خطر امتلاك الرهون عن البنوك الأمريكية ودرئه في سوق الرساميل وإبعاده عن الولايات المتحدة ودرئه في الإقتصاد العالمي”. ولعل هذا ما يفسر التوسع الكبير في الرهون عالية المخاطر؛ ذلك أنه ، ما دام في الإمكان دفع المخاطر إلى جهة ما في مكان ما، فلا بأس عندئذ من الإقراض دون ضوابط ، لا سيما وأن الأغلبية الساحقة من الأمريكيين الذين يعانون من تدهور كبير في دخولهم (تشير مارتين بولار إلى أن مجمل الدخول المتوسطة ، لم ترتفع إلا بمقدار 0,1% سنويا بين عامي 2000 و 2007 )، كانوا مجبرين مع الإرتفاع الرهيب في نمط استهلاكهم على الإقتراض لسداد تكاليف الإسكان والتعليم والرعاية الصحية (خاصة في ظل الإرتفاع الرهيب في أقساط التأمين الصحي). وبما أنه لم ينج بلد اختار التحرير الكامل لنظامه المالي من أزمة الإئتمان(لسنا معنيين الآن بتأثيراتها على الإقتصاد الواقعي)، فإنه يحق للصين -بلا شك- أن تفاخر بصواب اختيارها. كذلك يحق لها أن تزهو بنجاحها حتى الآن في مواجهة الأزمة العالمية بسهولة نسبيا. إنها تتحدى -كما يقال- الإفتراض القديم بأنه “من شأن كساد أمريكي أن يسبب ركودا صينيا” ؛ فعلى الرغم من تراجع صادراتها إلى أمريكا بنسبة تفوق الـ 25% ، فإن الصين لا تزال مع ذلك تنمو بقوة؛ حيث سجل الربع الثاني من العام الحالي نسبة نمو-فاقت كل التوقعات- بـ 7,9% فيما سجل الربع الأول نموا بـ 6,1% فقط. ويعود الفضل في ذلك إلى “النمو في الداخل”، حيث ازدادت المبيعات بالتجزئة بأكثر من 15%. بالطبع ، لعب الإحتياطي الضخم الذي تملكه والذي يبلغ تريليوني دولار الدور الحاسم في ذلك؛ فقد أتاح هذا الحجم اعتماد الخطة التحفيزية الأكثر سخاء من دون اللجوء إلى الإقتراض ، وهي الخطة التي تصل قيمتها إلى 4% من الناتج المحلي الإجمالي (حوالي 590 مليار دولار)، أي ضعف الخطة الأمريكية التي تشكل نسبة 2% ممولة بالإقتراض. غير أن ما تعنيه خطة الصين التحفيزية مبدئيا هو وعي الأخيرة بفخ النمو المستند إلى الصادرات الذي علقت فيه. وهل من سبب آخر -يقول الخبير الإقتصادي جورج ويهرفريتز- “لتكشف عن خطتها أياما فقط بعد الإعلان عن تسجيل الإقتصاد الصيني نسبة نمو 9% في الربع الثالث من العام 2008 ؟” ومع أنها لقيت استحسانا دوليا مدفوعا بالأمل في خلق قوة استهلاكية حقيقية تؤدي إلى إنقاذ العالم من الركود إلا أن الخبراء والمتابعين للشأن الصيني ، شككوا منذ البداية في وجود هكذا إرادة. كتب الخبير في الشؤون الإقتصادية الصينية”ستيفن غرين” في نوفمبر من العام الماضي بعيد الإعلان عن الخطة التي كشف عنها في العاشر من نوفمبر :”نود أن نصدق ذلك أيضا ولكن الأمور ليست على هذا النحو ويقول”إن الإعتقاد بأن الإنفاق الصيني سوف ينقذ العالم من الركود هو مجرد وهم” مضيفا ” إنه على الرغم من أن الإنفاق على الصحة والتعليم وارد ضمن الأولويات الثمانية للخطة، إلا أنه لن يكون مدعوما جيدا”. أحد مصادر القلق ، تمثل في حقيقة مبلغ الـ 590 مليار دولار؛ إذ أشارت تقديرات الخبراء الإقتصاديين إلى أن نسبة المال الجديد في هذا المبلغ لا تتعدى الربع، أما الباقي فعبارة عن إنفاق أعلن عنه سابقا وخفوضات ضريبية مستقبلية وأوامر غير ممولة تعطى للحكومات الإقليمية…
أما اليوم ، فلم يعد هناك شك بشأن انعدام هكذا إرادة؛ فأينما تلتفت، لا ترى أمامك سوى الصادرات والبنى التحتية. لقد ارتفعت الإستثمارات الحكومية إلى نحو 30% منذ بداية العام مع تخصيص نسبة 75% من الأموال للبنى التحتية، وتضاعف الإنفاق على السكك الحديد والطرقات أكثر من مرتين في الأشهر الـ12 الأخيرة فقط. وقدر تعلق الأمر بقطاع الصادرات الذي حظي في إطار الخطة بتخفيضات ضريبية على القيمة المضافة فيه، فإنه لا يزال الخيار الأكثر استراتيجية. يقول “سوكايفانغ” نائب مدير عام مكتب غوانغدونغ للشؤون الخارجية (غوانغدونغ هو إقليم يشكل مركزا للمصانع في الجنوب؛ يمثل ثمن الثروة الصينية وربع صادراتها):”ما زلنا نعتمد كثيرا على الصادرات ولا سيما الصادرات إلى أمريكا”، مشيرا إلى أن 40% من صادرات الإقليم -الذي عانى كثيرا في الأشهر الأخيرة بسبب الإنكماش العالمي- تذهب إلى الولايات المتحدة. ومع ذلك ، فليس هناك شك في أن الصين تتعافى اقتصاديا، غير أن الدولة ممثلة في الحزب الشيوعي “الأكثر سيولة في العالم” -كما يقال- هي من تشتري هذا التعافي؛ فأكثر من النصف من مبيعات التجزئة ، إنما هي مشتريات حكومية والجزء الأكبر من الإقراض المصرفي الجديد يذهب إلى الأعمال التي تديرها الشركات الحكومية بدلا من المستهلكين. إذا، ليس هناك تحول في النموذج وذلك على الرغم من تراجع الصادرات وتداعياته التي تتجلى في المصانع العاطلة عن العمل؛ حيث تشير التقديرات إلى أن 10% من مصانع مدينة دونغوان -مثلا- أغلقت أبوابها، وحيث لا تزال مراكز التوظيف تمتلئ بالعمال المهاجرين الذين سرحوا من عملهم والذين يصل عددهم إلى نحو 20 مليونا فيما تشير تقديرات بنك “يو،بي،أس” إلى أن أعداد العاطلين عن العمل قد تزيد 15 مليونا هذه السنة (أشارت الصين أواخر آب الماضي إلى أن 12 مليونا صينيا لن يعثروا على عمل العام الحالي)…
النموذج المطلوب لتتحول الصين إلى مجتمع استهلاكي متقدم هو النموذج الذي يحل فيه الإستهلاك الذي تحفزه شبكة حماية اجتماعية حقيقية مكان محرك النمو الذي شغلته الصادرات طوال العقود الثلاثة الماضية والذي لم يستفد من ثماره الشعب الصيني شيئا يذكر. ولكن لماذا تحجم الصين عن التحول إلى هكذا نموذج ؟ التفسير الشائع هو أن الصين إنما تفضل استثمارا فوائضها في الغرب ولا سيما في الولايات المتحدة لتحريك الإقتصاد الأمريكي والحفاظ على الصادرات الصينية إليه كي تتجنب التضخم الذي ستواجهه في حال إنفاق هذه الفوائض في الداخل مما سيقلل من تنافسية منتجاتها. وهذا صحيح إلى حد ما. غير أن للأمر وجها آخر يتصل بالحقائق التالية:
1. يتقاسم الخبراء والمتابعون للشأن الصيني قناعة مفادها أن الصين في واقع الأمر، لا تتعدى كونها مصنع العالم المتقدم الذي ينتج لحسابه. يكفي أن تعرف أن متاجر “وول مارت” (Wal-Mart) الأمريكية الشهيرة مثلا، تستورد نسبة 80% من منتجاتها من الصين. أهمية هذا الرقم تتجلى حينما نعلم أن إجمالي الإنفاق الإستهلاكي في الولايات المتحدة بلغ نحو 12 تريليون دولار في العام 2007، فيما سجل في الصين ذات المليار و300 نسمة أقل من 1,7% تريليون دولار في ذات العام…
2. يكتفي هذا المصنع بجمع المنتجات المخصصة للتصدير بدلا من تصميمها ووسمها بعلامات تجارية صينية ذلك أن مهام تصور ووضع التصاميم وتحديد معايير الإنتاج ومواصفاته ونوعيته وجودته ومدته هي من اختصاص العالم المتقدم، فيما تقتصر مهمة الصين على التنفيذ بأرخص التكاليف ، مما يعني أن الأجور المرتفعة والجزء الأكبر من الأرباح إنما يذهب إلى هذا العالم الذي تقوده الولايات المتحدة أكبر مستثمر أجنبي فيها…
3. نتيجة لذلك ، لم تنعكس معدلات النمو المرتفعة على المستوى المعاشي للشعب الصيني الذي انقسم إلى طبقتين تقريبا : أقلية ثرية وأغلبية عاملة بدخل محدود جدا (لا تكاد توجد طبقة وسطى).
يلفت الباحث الإقتصادي غسان إبراهيم إلى الحقيقة التالية:”إنه على الرغم من أن الإقتصاد الصيني هو الثالث عالميا من حيث الدخل القومي الإجمالي، إلا أنه إذ نوزع هذا الدخل على الشعب الصيني، نجد أن متوسط الدخل السنوي بالنسبة للمواطن الصيني هو بحدود 5300 دولار أمريكي فقط، أي تحتل مرتبة أقل من الكثير من الدول الفقيرة حيث أخذت المركز 133 بينما مصر مثلا تحتل المرتبة 130. وإذا أخذنا في الإعتبار أن حوالي من 30% إلى 40% من الدخل القومي الصيني ناتج عن مستثمرين وشركات أجنبية ويعود لحسابها الخاص، سنجد أن متوسط الدخل السنوي الفعلي بالنسبة للصيني سينخفض إلى أقل من 4000 دولار أمريكي (تشير تقديرات أخرى إلى أنه لا يزال في حدود 2000 دولار أمريكي)، وبالتالي ستصنف الصين في مراتب بعد 150 بين دول العالم وستكون أكثر فقرا من كوبا مثلا التي تصنف في المركز 149…
4. محرك النمو الذي تشغله الصادرات، جعل من الصين أخيرا أكثر دول العالم تلويثا للبيئة؛ حيث أصبحت أغلب المدن الصينية مصنفة من بين أسوأ المدن للعيش عالميا نتيجة ارتفاع مستويات التلوث. ويلفت إبراهيم إلى أن ذلك، لم يكن نتيجة بناء وتنمية، بل كان نتيجة ما تقدمه الصين وتنتجه بالنيابة عن العالم المتقدم (نقلت الولايات المتحدة جزءا كبيرا من خطوط إنتاج شركاتها إلى الصين) الذي وجد فيها “كبش فداء” لتحميلها أغلب الأعباء بتصنيفها أكبر الملوثين للبيئة في العالم…
5. لم تعر الصين طوال العقود الثلاثة الماضية اهتماما يذكر للإستثمار في الإنسان. ورغم الحديث المتزايد منذ العام 2006 عن “تعزيز شبكات الأمان الإجتماعي التي جرى تدميرها في الواقع (يشير مؤشر الإستهلاك الخاص إلى انخفاض من أكثر من 60% من إجمالي الناتج المحلي عام 1968 إلى 36% فقط عام 2008)، إلا أن القطاعات المستهدفة في هذا المجال مثل التعليم ، الرعاية الصحية، المعاشات التقاعدية، إلخ… لا تزال مع ذلك قطاعات مهملة بطريقة واضحة ؛ فالأطفال الفقراء لا زالوا غير قادرين على ارتياد المدرسة من دون تسديد الرسوم، والإنفاق على الرعاية الصحية لا يزال أقل من 1% من إجمالي الناتج المحلي (نتيجة لذلك، تحتل الصين المرتبة 156 من بين 196 دولة ترصدها منظمة الصحة العالمية)، كما أن معظم العمال المهاجرين غير مؤمنين على الإطلاق ضد حوادث الشغل. أضف إلى ذلك الهوة التي ما انفكت تزداد اتساعا بين المناطق ؛ الشرق المزدهر والغرب المتخلف، رغم الحملات التي تحمل أسماء مثل “هيا إلى الغرب” وتهدف إلى تحفيز الإستثمار في المناطق الخلفية من البلاد والتي هي لا تتعدى كونها مجرد دعاية. وبين المدن والريف؛ حيث ترصد دراسة أجراها برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة وصدرت أواخر عام 2008 عدة مؤشرات بهذا الصدد، لعل من أهمها المؤشرات الثلاثة التالية:
– على الرغم من عدد السنوات الإضافية الذي يتوقع أن يعيشه الشخص الصيني العادي والمقدر بـ 7 سنوات ونصف مقارنة بعام 1975 ، إلا أنه مع ذلك، من المتوقع أن يعيش سكان المدن مدة تزيد 6,5 سنة على حياة سكان الريف،
– رغم الإنخفاض الملحوظ في معدل وفيات الأطفال بنسبة 40 بالمائة منذ عام 1980، فإن وفيات الأطفال الريفيين دون سن الخامسة لا يزال أعلى مرتين ونصف من معدلها في المدن،
– رغم الإنخفاض الكبير للفقر لدى سكان الريف الصيني، إلا أن الفارق في المداخيل بين سكان المدن والريف سجل مع ذلك ارتفاعا بنسبة 30 بالمائة منذ عام 1978.
قبل أشهر قليلة ، أقرت بكين خطة وطنية للتأمين الصحي بكلفة 127 مليار دولار ، سيتم تنفيذها على امتداد ثلاث سنوات، أي تخصيص أقل من 50 دولار للمضمون الواحد في الصين. ولما كان المبلغ الذي سيديره في الأثناء صندوق الضمان الإجتماعي الصيني لا يتعدى الـ82 مليار دولار ، أي أقل من 100 دولار للعامل الواحد، فإنه يمكن القول بأن الصين القادرة بلا شك على مضاعفة هذه المبالغ في الحال فيما لو طبقت سياسات تعيد بموجبها المكاسب الطائلة التي تحققها التجمعات المملوكة من الدولة والتي تطغى على عالم الشركات إلى الصناديق الحكومية لتمويل الإنفاق الإجتماعي، يمكن القول بأنها لا تزال بعيدة جدا عن منح الأمان للعائلات الصينية التي ستستمر مع ذلك في ادخار نحو ربع دخلها القابل للصرف تحسبا لأي طارئ (تسجل الصين أعلى معدلات الإدخار في العالم). وهكذا لن يكون هناك تحول في النموذج ، ستظل الصين لأمد غير منظور مجتمعا استهلاكيا متخلفا تابعا غير مستقل أو بعبارات أكثر تهذيبا ستظل صينامريكا كيانا قائما ما ظل النموذج قائما على الصادرات. وهل تستطيع أن تتخلى في ظل هكذا نموذج عن أكبر مستثمر فيها وأكبر مستوعب لاحتياطاتها ؟ عندما أصدرت مؤخرا شركة “مورغان ستانلي” أسهما جديدة لتسديد دينها للحكومة الأمريكية، اشترى صندوق سيادي استثماري صيني (تشاينا انفسمنت كورب) ما قيمته 1,2 مليار دولار من الأسهم … آه تستطيع ؟ لا، لا، قطعا لا…