روسيــا: العظمة بين إيحاءات الشّكل ومتطلّبات المضمون

إعداد: حسين بالي

كاتب وباحث تونسيّ

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2043 )

ما من بلد مهمّ تكبّد الأسوأ جرّاء تداعيات الأزمة الماليّة والاقتصاديّة الرّاهنة بقدر روسيا . ففي الوقت الذّي نما فيه الاقتصادان الفرنسيّ والألماني بنسبة 0.3 بالمائة خلال الرّبـع الثّاني من العام الجاري ، مسجّلين بذلك نهاية للإنكماش دام نحو 15 شهرا ، وفي الوقت الذّي تقلّص فيه الانكماش في الولايات المتّحدة خلال نفس الفترة الى 1 بالمائة فقط من النّاتج المحلّي الإجمالي ، بعد أن بلغ في الرّبع الأوّل نسبة 6.4 بالمائة. في هذا الوقت يتكبّد الاقتصاد الرّوسي أسوأ انكماش له على الإطلاق منذ أوائل حقبة التّسعينات من القرن الماضي . فقـد أشارت بيانات الرّبع الثّاني من العام الجاري الى انكمـاش أكبر بكثير ممّا كـان متوقّعا ، بلغ نحو 11 بالمائة من إجمالي النّاتج المحلـّي على مدى عام .وبحسب تقديرات مؤقّتة للوكالة الروسيّة للإحصاءات ، فإنّ هذه النّسبة ارتفعت بنحو 7.5 بالمائة مقارنة بالرّبع الأوّل .وكانت تقديرات السّلطات الرّوسيّة قد توقّعت في أبريل /نيسان الماضي تراجعا في إجمالي النّاتج الدّاخلـي يتراوح بين 8.7و10 بالمائة . وهو التّراجع الذي لم تكن السّوق أيضا تتوقّع أن تفوق نسبته 10.2 بالمائة . في تعليقه على هذه الأرقام ، قال المحلـّل الاقتصـادي “كريس ويفر” ، الخبير في بنك الاستثمارات أورالسيب بمسكو : “إنّ هذه الأرقام تتناقض تماما مع الأرقام المرتفعة في بقيّة البلدان النّاشئة في منظمة”BRIC” :(البرازيل وروسيا والهندوالصين)”. موضحا أنّ الصّين تتوقّع نموا سنويّا بنحو 10% (قبل أن تنخفض التوقّعـات الى من 7 الى 8 بالمائة) والهند 8% والبرازيل 2% .وأضاف :”إنّ هذا التّراجع الشّديد إنّما يعود في الأساس الى كون المصارف الرّوسيّة ما زالت تحجم عن إقراض المؤسّسات بالمستوى الذّي تلحّ عليـه الحكومة لتحريك اقتصاد البلاد “، وذلك على الرّغم من أنّ الأزمة الحادّة التّي أصابت النّظام البنكي -نتيجة تداعيات الأزمة الماليّة العالميّة – قد تمّ التغلّــب عليها بسرعة باستخدام مصادرالاحتياطات الضّخمة التّي تراكمت خلال الفترة الماضية بفضل الأسعار المرتفعة للنّفط والخامات الأخرى .بيد أنّ دراسة صدرت عن وكالة “موديز” ، تفيد أنّ القطاع المصرفي الرّوسي ، إنّما يعاني بشكل خاصّ من القروض ذات المخاطر ، وأضافت أنّ مستوى القروض المشكوك فيها في المصارف الروسيّة ، بلغ مطلع حزيران /يونيو الماضي 11 بالمائة من حقائبها الاجماليّة ، لكن هذه النّسبة قد ترتفع لتبلغ 20 بالمائة بحلول نهاية العام .

أياما كان الأمر ، فالقضيّة الأهمّ بالنّسبة للإقتصاد الرّوسي تظلّ بنيويّة ، هيكليّة . إذ لطالما آفتقد التنوّع . يقول ويفر : “لم يحصل تقريبا على أيّ تنوّع خلال الثّماني أو العشر سنوات الأخيرة ” . وما لم تصلح روسيا اقتصادها القائم حاليّا بشدّة على بيع المحروقات – يقول الرئيس الرّوسي – فلن تخرج من المأزق الحالي ، ولن يكون لآقتصاد البلاد مستقبل ، مضيفا : ” ما إن آندلعت الأزمة حتّى آنهرنا ، انهرنا بشكل أقوى من العديد من الدّول الأخرى”.

ومع أنّ ويفر وحفنة من الخبراء الآخرين ، يتوقّعون تعافيا في النّصف الثّاني من هذا العام لاسيما بسبب انخفاض نسبة الفائدة وآنخفاض سعر الرّوبل الى جانب عودة أسعار المواد الأوليّة للارتفاع ، إلاّ أنّه من غير المتوقّع أن يستعيد الاقتصاد الرّوسي مستويات ما قبل الأزمة قبل مضي أربع أو خمس سنوات على الأقلّ …

ولكن هل كانت روسيا ما قبل الأزمة تغري بالرّهان عليها ؟ قطعا لا . ومع ذلك ، يحتاج الأمر الى تفصيل ، ذلك لأنّ فلاديمير بوتين ، تمكّن خلال فترة رئاسته (2000-2008) من خلق آنطباع لدى الكثيرين في العالم الثّالث ولا سيما في الوطن العربي بأنّ روسيا ، إنّما هي بصدد العمل على آستعادة دورها المفقود كقطب دولي . يقول الباحث أيمن طلال يوسف في دراسته المذكورة : “….. إنّ هذا السّلوك السّياسي من جانب روسيا قد داعب أحلام الكثيرين وخاصّة في العالم الثّالث ، حيث أظهر بوتين وكأنّه يتصدّى لمهمّة كبيرة ، وهي إعادة التّوازن الى الواقع الدّولي “.

أوتوقراطيّة فاسدة

بفضل امتلاكه لشخصيّة كارزماتيّة مؤثّرة تجمع بين الاستبداد والبراغماتيّة “النّفعيّة” ، تمكّن بوتين من آستعادة دور الدّولة المنهار والتّقليل من مساحة سيطرة القطاع الخاص -المتحالف في أغلبه مع المافيا في عهد يلتسين- على الكثير من الموارد ، الأمر الذّي مكّن روسيا من أن تشهد تحسّنا آقتصاديّا متناميا ، ارتفع به معدّل النموّ الاقتصادي الى حدود 8 بالمائة . وبنسبة نموّ ثابتة وصلت الى 7 بالمائة في الفتــرة الممتدّة من 2000 الى 2007 ، باتت روسيا في مصاف الدّول متسارعة النموّ (على غرار الصّين والهند البرازيل ) بأقوى عاشر اقتصاد في العالم . غير أنّ سمات عديدة شابت هذا النّمط من النموّ في روسيا ، نذكر من بينها ما يلي :

1. اعتماده بشكل شبه كامل تقريبا على قطاع المحروقات (البترول والغاز) الذّي يشكّل ما نسبته 63 بالمائة من صادرات روسيا و49 بالمائة من الموازنة الفدراليّة السنويّة ،

2. قيامه على تكديس كميات هائلة من أموال الفساد والمحسوبيات والواسطات لصالح السّياسيّين المتنفّذين ، تدفع من الطّبقة البورجوازّة الغنيّة كي تحمي مصالحها وأعمالها . وفي هذا السّياق يورد طلال يوسف ما مفاده أنّه في العام 2005 فقط ، دفعت طبقة رجال الأعمال ما يقارب من 316 مليار دولار على شكل رشى ومحسوبيّات للسياسيّين الرّوس ،

3. يضاف الى ذلك زيادة تأثير الطّبقة الأوليغارشية المالكة لرأس المال ، حيـث تشير تقديرات اقتصاديّة الى أنّ 22 شخصـا من طبقة رجال الأعمال الرّوس تمتلك ما يقارب من 40 بالمائة من الاقتصاد الرّوسي وأنّ كثيرا من هؤلاء ، بارونات المـال والأعمال من المقرّبين لبوتين وبعضهم يحسب على المؤسّسـة العسكريّة الأمنيّة أو السياسيّة . ومن أصـل 144 مليون نسمة يعيشون في روسيا ، يوجد حوالي 8000 مليونيرا فقط . وهذا إنّما يعكس تكديس الثّروة في أيدي قلّـة من النّاس ، الأمر الذّي أعطى شكلا معيّنا لنمط النموّ في روسيا ، حيث التطوّر المادّي الاستهلاكي في العاصمة موسكو وفي المدن الكبرى . أمّـا البلدات والأرياف النّائية ، فتكاد تكون مهمّشة وتعيش على الكفاف ،

4. تهميش المؤسّسات السياسيّة والدّستوريّة القائمة بما فيها الدوما والمجلس الفدرالي والمجالس المحليّة التّابعة للأقاليم والمقاطعات وذلك بممارسة سياسة الحدّ من الصّلاحيّات والمسؤوليّات ، بحيث تكاد تكون مؤسّسة الكرملين في روسيا اليـوم هي المؤسّسة الفاعلة الوحيدة ،

5. الحدّ من الحرّيات الفرديّة والعامّة ، مع ما يعنيه ذلك من تضييق على وسائل الإعلام وتزايد الاعتقالات الدّاخليّة، ما دفع بطل العالم السّابق في الشّطرنج “غاري كاسباروف” -الذّي تعرّض هو نفسه للاعتقال في أكثـر من مرّة – الى إطلاق التّصريحات العلنيّة ضدّ أسلوب بوتين التّدميري في التّعامل مع الوضع الدّاخلي الرّوسي ومع المعارضين الرّوس ،

6. الاعتماد على الكادر الأمني والعسكري والاستخباري للإدارتين المدنيّة والاقتصاديّة ، فمـع آنهيار الاتّحـاد السّوفييتي ، تفكّكت مؤسّسات الدّولة السّوفاتيّة بما فيها الحزب الشّيوعي الحاكم . ولم يبق من هذه المؤسّسات سـوى جهاز المخابرات السوفييتي (KGB)، حيث كان كادره القيادي مصدرا للكثير من التّعيينات التّي قام بها بوتين في الوظائف العموميّة العليا والجهاز البيروقراطي . وفي خلال فترة بسيطة من حكم بوتين ، سمح لأكثر من 1500 ضابط كبير من قادة الجيش بدخول الانتخابات لمحافظي الأقاليم والمقاطعات ليكونوا جزءا من الكادر الحكومي والمجالس الفدراليّة وديوان المحاسبة والوزارات المختلفة (هذا بالطّبع جزء من استراتيجيّة بوتين لتسييس الجيش كوسيلة لاحتوائه). وبحسب تقديرات اخرى من قبل بعض المختصّين بالشّأن الرّوسي ، فإنّ حالة دخول العسكر والأمنيين الى السّياسة ، تحوّلت الى ظاهرة في روسيا ، إذ وصلت أعداد ضباط الـ (KGB) الذّين حصلوا على تعيينات في مؤسّسات الدّولة الى ما يربو على 6000 عنصر حتّى عام 2003 ،

7. تشجيع الاستثمارات الغربيّة في السّوق الرّوسي . وفي هذا الصّدد ، صدرت في السّنة الأولى لحكم بوتين تشريعات هامّة تضمّنت :

* مدوّنة التّشريعات الضريبيّة الجديدة .

* تعديل قوانين منح تراخيص التّنقيب عن الغاز والبترول والمصادر الطبيعيّة .

* تخفيف قوانين الحدّ من تجارة الذّهب والمعادن الثّمينة .

* إدخال قوانين بالملكيّة الفكريّة ، وحماية الاستثمار الخارجي، وتملّك الجانب داخل روسيا .

روسيا دولة ممانعة عاديّة

بعيد احداث الـ 11 من سبتمبر 2001 ، طالب بوتين حلف النّاتو بالموافقة على انضمام روسيا إليه بهدف تشكيل آئتلاف دولي لمحاربة ما يسمّى بالإرهاب الدّولي . غير أنّ طلبه جوبه بالرّفض بذريعة غياب السّيطرة المدينة على القوات المسلّحة الروسيّة ووزارة الدّفاع . تعكس هذه المطالبة بشكل واضح فكرا جديدا لسياسة روسيا الخارجيّة ، التّي خلعت عنها عباءة الأيديولوجيا . وبعض النّظر عن المبالغات اللفظيّة الموجّهة للاستهلاك الدّاخلي ، فإنّ روسيا اليوم عمليّة وواقعيّة في سعيها الى حماية مصالحها الوطنيّة . وهو ما تفطّن إليه الغرب مبكّرا . في برنامج بوش الانتخابي لعام 2000 ، دافع فريق بوش عن استراتيجيّة تعامـل جديدة مع روسيا تعتمد التّطبيع الكامل للعلاقات معها بصرف النّظر عن مصير التحوّلات الداخليّة الجارية فيها ولا سيما ما تعلّق منها بقضيّة التحوّل الدّيمقراطي . وفي الاجتماع الأوّل بين بوتين وبوش في سلوفينيا، غازل الأخيربوتين قائلا : لقد ظهر لي أنّ بوتين رجل مختلف تماما ، حيث أنّه مقتنع أنّ مستقبل روسيا هو مع الغرب وليس الشّرق ، واليوم أكثر من عامل يجمعنا على “محاربة الإرهاب والأصوليّة الإسلاميّة” . في الواقع تدرك روسيا أنّها ليست ندّا لأمريكا على قدم المساواة في الشّؤون الدّوليّــة، فهي مازالت تعترف -على الأقلّ في الوقت الحالي – بأولويّة الولايات المتّحدة وأحقّيتها في قيادة العالم والنّظام الدّولي ، ولا تنوي أن تتحدّاها في ذلك، طالما آبتعدت عن التفرّد والاستبداد وسياسة فرض الأمر الواقع . وآستطراد ، يمكن أن نفهم السّمة الدفاعيّة التّي ميّزت السّياسة الخارجيّة والدفاعيّة لروسيا ، طيلة عهد بوتين والتّي لا تزال تميّزها في عهد ميدفديف الذّي هو امتداد للأوّل .

تعاني روسيا اليوم – الى جانب ضعف الهيكليّة الاقتصاديّة – من خللين آستراتيجيين بشكل مأساوي يصدران عن العاملين التّاليين :

1) العامل الجيوبولتيكي

ويتمثّل في آفتقادها القدرة اللاّزمة على التّأثير في محيطها الجيوبولتيكي بما ينسجم مع مكانتها ودورها التّاريخيين وبما يخدم توجّهاتها ومصالحها الاستراتيجيّة الثّابتة . وهي القدرة التّي لطالما كانت مؤمنة في السّابق من قبل الاتّحاد السّوفييتي وأداته الأمنيّة : حلف وارسو . وآستطرادا يمكن أن نفهم السّهولة النسبيّة التّي ميّزت تمدّد حلف النّاتو غير المسبوق في أوروبّا الوسطى والشرقيّة والذّي يطرق اليوم أبواب روسيا ذاتها ،كذلك يمكن أن نفهم أيضا نبرة الحسرة التّي ميّزت خطاب بوتين أواخر عام 2008 ، حين تحدّث عن انهيار الاتّحاد السوفياتي بآعتباره كارثة كبرى ، ” أدّت الى تراجع روسيا عن دورها وآلتزاماتها تجاه الدّول السوفياتيّة السّابقة على نحـو أتاح الفرصة للغرب والولايات المتّحدة للتدخّل في الشّؤون الداخليّة لها “وحين أوضح ، أنّ هكذا تدخّل في مناطق نفوذ روسيا إنّما يهدّد مصالح روسيا وأمنها القومي لا محالة . يذكـر أنّ هذا البوتين (صحبة رفيقه ميدفديف) كانا في الصّفوف الأماميّة للتّظاهرات التّي عمّت شوارع موسكو صائفة عام 1991 تنديدا بمحاولة الانقلاب الشّهيرة على غورباتشوف ، وكانا أيضا من أشدّ المتحمّسين لفكرة تفكيك الاتّحاد !! ….

يكفي أن نعقد مقارنة بسيطة بين سلوكي روسيا السّوفييتيّة وروسيا اليوم على خلفيّة موضوعي الدّرع الصاروخيّة وجورجيا لنفهم البعد الكارثي لهذا الخلل الجيوبولتيكي . ففي الوقت الذّي لم تتردّد فيه روسيا السّوفييتيّة في آستخدام القوّة العسكريــّة الضّاربة لقمع التّظاهرات الشعبيّة والثّورات العسكريّة المسلّحة ضدّ الأنظمة الشيوعيّة الموالية لها في كلّ من المجر عام 1956 تشيكوسلوفاكيا عام 1968 ، نجد روسيا اليوم تستخدم الدّيبلوماسيـّة مع شيء من التّهديد المحسوب بما في ذلك التّهديد بنشر صواريخ اسكندر في جيب كالينينغراد الرّوسي في البلطيق للتصدّي للدّرع الصّاروخيّة وقواعد الرّادار التّي تعتزم الولايات المتّحدة وضعها في بولونيا (بولندا) والجمهوريّة التشيكيّة ، والتّي من شأنها فيما لو تمّ المضي قدما في نشرها أن تجعل الصّواريخ البالستيّة النّوويّة الرّوسيّة بعيدة المدى ، بلا قيمة تقريبا . وبمقدار ما يتعلّق الأمر بصواريخ اسكندر التّي يمكن لها -نظريّا – أن تطلق رؤوسا حربيّة يمكن التحكّم فيها زنتها 450 كيلوغراما وتصل الى عمق أوروبّا الوسطـى – وهذه ليست سـوى تصميم محدث لرؤوس تعود الى ثمانينات القرن الماضي -فإنّها أثبتت في الحرب الجورجيّة في صائفة 2008 – التّي لم تجرؤ روسيا على حسمها آستراتيجّا – أنّها غير دقيقة . ولن تكون فعّالة على الاطلاق ضدّ الصّواريخ التّي سوف تستعمل في نظام الدّفاع الصّاروخي وفقا لتأكيدات بعض المحلّلين العسكريّين المستقلّين .

هذا الانهيار في الدّور الإقليمي لروسيا – ناهيك عن دورها الدّولي – أتاح للولايات المتّحدة – تحت غطاء حربها “الدّوليّة” ضدّ الارهاب – أن تشتغل على أحد أهدافها الاستراتيجيّة في آسيا الوسطى والقوقاز : السّيطرة على بترول المنطقة التّي تتوفّر عل ثاني أكبر آحتياطي بترولي في العالم بعد الخليج العربي . لقد ساهمـت روسيا في المرحلة الأولى لهذه الحرب في دعم المجهود الأمريكي لإسقاط حركة طالبان الأفغانيّة خوفـا من التمدّد الأصولي في آسيا الوسطى ، وتخوّفا من آمتداد المواجهات الأصوليّة الى أقاليم روسيا الإسلاميّة : الشّيشان داغستان وتترستان (كذلك فعلت الصّين) غير أنّها ما لبثت أن آكتشفت ، وخاصّة في فترة ما بعد 2004 – كما يؤكّد طلال يوسف نقلا عن روبن أزازيان – أنّ الولايات المتّحدة ، إنّما تعمل بالتّوازي على تمهيد الأرضيات المناسبة أمام شركاتها البتروليّة العملاقة كي تستثمر في بترول المنطقة فضلا عن سعيها الحثيث الى تدشين خطّ (BTC) (أحد منغّصات العلاقة مع جورجيا) لنقل البترول والغاز الطّبيعي عبر باكو – تبليسي – سيحان التّركي على البحر المتوسّط من أجل الالتفاف على خطوط البترول الأخرى العابرة من روسيا عبر أوكرانيا وروسيا البيضاء الى أوروبّا الغربيّة ، في مواجهة ذلك ، آستخدم بوتين تكتيكه المعتاد : “دق اسفيـن بين الأوروبّيين والأمريكيّين”(وهو واحد من بين تكتيكين في الواقع آستخدمهما بوتين . الثّاني هـو شنغهاي الذي سيجري تفصيله لاحقا) ، وذلك من خلال تذكير الأوروبّيين بأنّ هناك حالة من الاعتماديّة الأوروبيّة على الغاز الرّوسي ، حيث وصلت نسبة ما تستهلكه أوروبّا الغربيّة من الغاز الرّوسي عام 2006 الى أكثر من 44 بالمائة من مجمل آحتياجاتها ، فيما بلغت المبيعات الرّوسيّة من الغاز الى الدّول الأوروبيّة الغربيّة ما يقرب من 67 بالمائة من مجمل المبيعات الرّوسيّة من هذه المادّة الحيويّة ، فضلا عن تشدّد روسيا بعدم الاحتكام الى تهديدات أوكرانيا وروسيا البيضاء اللّتين حاولتا رفع رسوم مرور الغاز الرّوسي الى المستهلكين في العواصم الغربيّة . غير أنّه قد لا يكون تكتيكا ناجعا ، حيث بات الغرب مع ذلك اقلّ آعتماد على الغاز الرّوسي من أيّ وقت مضى . فبحسب تحليل أجراه “بيار نوبل” الخبير بالمجلس الأوروبّي للعلاقات الخارجيّة ، انخفضت الحصّة الرّوسيّة في واردات الاتّحاد الأوروبّي من الغاز بمعدّل النّصف تقريبا منذ عام 1980 ، لتصل الى ما ييقرب من 45 بالمائة ، إذ تعمد أوروبا اليوم الى تنويع إمداداتها من الغاز بما في ذلك تلك المتأتّية من إفريقيا (الجزائر ونيجيريا) …..

2) العامل العسكري

في خطابه المومأ إليه عن حالة الأمّة ، هدّد ميدفديف بنشر صواريخ اسكندر ردّا على الدّرع الصّاروخيّة . غير أنّ بعـض المطّلعين على الشّأن الرّوسي يقلّلون من شأن هذه التّهديدات . يقل المحلّل المطّلع على شؤون الكريميلين “ستانيسلاف لكوفسكي ” ، إنّه لا علاقة لهذه التّفاصيل بكنه الموضوع ، فخطّة ميدفديف إنّما تتمثّل – في استخدام تكتيك بوتين المشار إليه – : ” دق إسفين بين الأوروبّيين والأمريكيّين ” ، عبر آستغلال المخاوف الأوروبيّة من أنّ جـلّ ما سيفعله الدّفاع الصّاروخي هو آستفزاز روسيا .ويقول ، إنّه بهذا المعنى ، كان التّهديـد خدعـة تفاوضيّة سوفييتيّة تقليديّة : “تتسبّب بمشكلة ثمّ تعرض التخلّص منها مقابل شيء تحتاج إليه ” . كذلك ، يخلص رئيس الوزراء البولندي “دونالد تاسك” الى القول : “اعتدنـا الهدير الرّوسي من حين لآخر . ينبغي على أوروبا ألاّ تعير آهتماما كبيرا لهذا الكلام ” (نيوزويك : 2 ديسمبر 2008) . هذا الهدير ، نسمع مثيله فيما يتعلّق بقوّة الجيش الرّوسي” الضّاربة” ممّا أشاع في الأجواء الجيوسياسيّة – خلال السّنوات القليلــة الماضية – نفحة من الحرب الباردة ، فسرت على نطاق واسع بطموحات موسكو لإعادة مكانة روسيــا كقوّة عظمى . في الواقع لعبت عائدات البترول والغاز الهائلة المتدفّقة على الخزينة الروسيّة ، التّي سمحت بتجديد التّرسانة العسكريّة ، وتحديث مختلف قطاعات الجيش الرّوسي ، دورا كبيرا في الرّفع من درجة الثّقة عند القيادة الرّوسيّة ، الى الحدّ الذّي جعل بعض المراقبين يشبّهونها بالثّقة التّي أبداها الزّعماء السّوفييت في منتصف السّبعينات من القرن الماضي ، عندما آستطاعت روسيا السوفياتيّة تحقيق التّوازن النّووي مع الولايات المتّحدة الذّي تزامن مع الهزيمة الأمريكيّة في فيتنام . بالطّبع ، لا توجد مقارنة بين ما يجري الآن و ما جـرى خلال الحرب الباردة التّي كان تقدير التّهديد السّوفييتي فيها مبالغا فيه أو هذا في الأقلّ ما آستنتجه الغرب متأخّرا . ومع ذلك علقت آمال عظام على هذه الأجواء ولا سيما عندنا نحن العرب . إذا ، لنتابع المسألة عن كثب : في شهر شباط /فبراير من العام 2007 ، أعلن عن برنامج ضخم بكلفة 189 بليون دولار ، لإعادة بناء قوّة روسيا العسكريّة بما في ذلك التجهّز بصواريخ بالستيّة جديدة عابرة للقارّات وغوّاصات وحاملات طائرات ونظام رادار للتّحذير المبكّر وطائرة مقاتلة من الجيل الخامس . كذلك أعلن عن رفع الميزانيّة الدفاعيّة لعام 2007 الى 31.3 بليون دولار مقارنة بـ 8.2 بليون دولار عام 2001 . غير أنّ هذه الأرقام تظلّ مع ذلك أقلّ من ثلث ما أنفقه الكرملين على مدى عام خلال الحقبة السّوفييتيّة . المشكلة – كما يشير الى ذلك تقرير نشرته نيوزويك في مارس / آذار من العام 2007 – لا تكمن في العتاد ، الذي يمكن شراؤه بالمال ، فقد استعادت روسيا تفوّقها في بعض الأسلحة متطوّرة التّقنية بفضل صارخ لوميت المضادّ للدبّابات ، والطّائرة المقاتلة سوخوي 30MKI وجيل جديد من الصواريخ قصيرة إلى متوسطة المدى،إضافة طبعا إلى ترسانتها القديمة من الصواريخ البالستيّة النوويّة العابرة للقارّات التّي تبقى مع ذلك الجزء الوحيد الذّي ينطوي على قوّة استراتيجيّة حقيقيّة . ولكن موطن ضعف روسيا الكبير جدّا – لا بل القاتل – إنّما يكمن في نوعيّة جنودها ( الموارد البشريّة ) ، من أوّل المجنّدين الشبّان الفقراء الذّين تساء معاملتهم ويطلبون قسريّا للخدمة العسكريّة الالزاميّة الى آخر الضبّاط شديدي الفساد .

في تقرير قدّمه في شبّاط/فبراير 2007 أذهل قائد سلاح الجوّ الرّوسي الجنرال “فلاديمير ميخايلوف” الكرملين بخطابه الصّريح الذّي خلص فيه الى أنّ أكثر من 30 بالمائة من الشبّان الـ 11 ألفا الذّين تمّ تجنيدهم في سلاح الجوّ عام 2006 “مضطربون عقليّا” كما أنّ 10 المائـة يعانون من إدمان المخدّرات والكحول ، في حين أنّ 15 بالمائة يعانون أمراضا جسديّة أو سوء تغذية . إنّ 25 بالمائة من جنود “ميخايلوف” لم يعرفوا آباءهم قطّ . يقول أحد الخبراء مقرّا بالمشاكل التّي ذكرها “ميخايلوف” : إنّ الكثير من المجنّدين لا يجيدون القراءة أو الكتابــة . والكثيرون منهم لا يجيدون قيادة سيّارة . فكيف عساهم يقودون دبّابة متطوّرة ؟ ! ويضيف قائلا : ” لا يجوز أن ندع جنودا جهلة يستعملون دبّابة تي 90 تكلّف مليون دولار بعد ستّة أشهر من التّدريب فحسب ” … تظهر إحصاءات أخرى ، أنّه بالرّغم من ضخامة الجيش الرّوسي (أكثر بقليل من مليون جندي) ، فإنّ ما يقرب من 89 بالمائة من الشبّان الرّوس يتهرّبون من الخدمة العسكريّة ، غالبا من خلال دفع رشاوى للضبّاط المسؤولين عن التّجنيد أو الأطبّاء الذّين يصادقون على أهليّتهم للخدمة ، وبالتّالي ، فإنّ الشبّان الأكثر فقرا والأقلّ تعلّما هم الذّين يتمّ تجنيدهم في النّهاية . يقول النّائب السّابق لقائد القوّات البريّة الرّوسيّة الجنرال ” إدوارد فوروبيوف” الذّي يدعو منذ زمن بعيد الى تحويل الجيش الى مؤسّسة آحترافيّة بالكامل : ” من خلال تجنيد حثالة المجتمع ، نخلق وهما بأنّ الجيش في أفضل حال ” .لكن الخطط الرّامية الى إلغاء التّجنيد الالزامي أعيقت سرّا من قبل كبار المسؤولين العسكريّين . والسّبب في تمسّك الجيش بمجنديّة الالزاميّين إنّما يعود الى كون هؤلاء مصدر مربح للعمالة المجاينة والرّشاوى كتب قائد كتيبة مشاة مؤلّلة قبل آنتحاره في شهر يناير 2007 :”” الجيش بمنزلة مستنقع نتن . إنّه فاسد على كلّ مستوياته … كلّ ما يفعله الضبّاط هو جمع المال من الجنود وأهلهم ، لا يفكّرون إلاّ في كيفيّة سرقة المزيد من المال “” . في شهر فبراير من العام نفسه ،نشرت لجنة أمّهات الجنود في “سان بطرسبرغ” ، وهي منظّمة غير حكوميّة تدافع عن حقوق المجنّدين الالزاميّين (تناصبها الحكومة العداء) ، قصّة الجندي “دمتري أكس” (18 سنة) ، الذّي تمّ تجنيده عام 2005 للخدمة في وحدة اتّصالات نخبويّة تابعة للمقرّ العام لقيادة الجيش الرّوسي والذّي انتهى به المطاف الى ممارسة البغاء . يقول “دمتري” في شهادة مصوّرة : ” كان عليّ أن أجني 1000 روبل (حوالي 35 دولارا) كلّ ليلة . وإلاّ يتمّ ضربي ” . في النّهاية هرب ” دمتري” من وحدته ولعله لا زال يواجه الآن تهما جنائيّة . تقول إحدى النّاشطات في لجنة أمّهات الجنود ، التّي تراقب الجيش منذ عام 1989 : ” لدى الجيش الرّوسي صواريخ نوويّة قادرة على تدمير الحياة البشريّة على الأرض ، لكنّه مؤسّسة في آخر مراحل الانحطاط ” ….

من الواضح إذا ، أنّنا بإزاء دولة عاديّة- على الأقلّ – في الوقت الرّاهن . وقد لا يستقيم الحديث عن روسيا في “مسار التحوّل الى دولة عظمى” قبل مضيّ عدّة سنوات أخرى ، يتحتّم خلالها إجراء إصلاحات حقيقيّة في المجالات كلّها تقريبا بما في ذلك تطبيق سيادة القانون ، إصلاح القضاء ، مكافحة الفساد ، كبح البيروقراطيّة النّهمة وإصلاح جذريّ للإقتصاد … إنّ من شأن هذه الاصلاحات فيما لو تمّ المضيّ فيها قدما أن تمنح روسيا في نهاية المطاف أسس العظمة الحقيقيّة.