مازن كم الماز
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2044 )
أيها الغر إن خصصت بعقل فاتبعه، فكل عقل نبي
فشاور العقل و اترك غيره هدرا فالعقل خير مشير ضمه النادي
كان المعري عقلانيا لا شك في ذلك، لكنه كان عقلانيا وجوديا إن صح الكلام، كان العقل عنده مقدم بلا شك على النقل أو النص المقدس فيما يتعلق بفهم الوجود الإنساني، لكن ليس للدرجة التي تغري المعري بالتفاؤل، فالعقل ليس أكثر من الوسيلة الوحيدة القادرة على اكتشاف حقيقة الواقع العبثية ولا جدوى الوجود الإنساني، إنه يقي من الوقوع في فخ الأديان التي إنما اخترعت لتجلب الدنيا للرؤساء، لكنه عاجز في ذاته عن تجاوز حقيقة الوجود الإنساني العبثية، فالحياة، المصير الإنساني، عبارة عن طريق مسدود، و في أحسن الأحوال خاضعة للامعقول الحظ العشوائي أو القدر الأعمى و دائما للألم و المرارة وفي النهاية لعبثية الموت و العدم، ومن الجنون السماح لها بانتزاعنا من موقف المتفرج، من موقف غير العابئ، والمستهتر بكل عظيم فيها، حيث العظمة هنا ليست إلا وهما، يتطابق الخير والشر مرة أخرى لكن ليس وفق المنطق الإيماني الذي يعتبر كل قدر الله خير، بل من حيث ينتهي كل خير إلى أن ينقلب شرا، العقل هنا هو الوسيلة فقط لتجاوز فخ العزاء الذي تقدمه الأديان والوسيلة لاكتشاف حقيقة عبثية الوجود الإنساني، إنه ليس النبي المنتظر مكان النبي الغيبي، في عالم لا يحتاج، بل و لا يمكن أن يوجد فيه، أنبياء، فالعبث والألم ليسا بحاجة لأنبياء، على العكس تماما سنجد الفارابي مثلا يعمل على عقلنة صورة النبي في الشكل الآخر للعقلانية التي ترى العقل الأداة الموثوقة لتحليل الواقع باتجاه خلق صور “عقلانية” أو “مثل” أفلاطونية تمسخ الواقع في صورة قوى أسطورية، هذا البديل “العقلاني” أو “العقلي” بالأصح عن النسخة النصية الإيمانية النقلية ( نسبة للنقل ) من الأديان، هذا المسخ الأفلاطوني للواقع سيستبعد منه الشر واللا معقول والعبث وسيعيد إنتاجه بصورة تخترع الخير داخله ( أو بالأحرى تقلب الشر إلى خير )، وسيعيد الفارابي من هذا الطريق إنتاج كلا من السلطتين الدنيوية في صورة الحاكم الفيلسوف و الكونية في صورة قوى أسطورية ( النبي ) كان المعري، ومعه ابن الراوندي وأبو بكر الرازي، قد أنكروها وسخروا منها . نعرف أن المعري قد رفض كلتا السلطتين، وربطهما معا، كنير مزدوج، مضاعف،
ولا تحسب مقال الرسل حقا ولكن قول زور سطروه
وكان الناس في يمن رغيد فجاءوا بالمحال فكدروه
إنما هذه المذاهب أسباب لجذب الدنيا إلى الرؤساء
ولا تطيعن قوما ما ديانتهم إلا احتيال على أخذ الإتاوات
في استنكار واضح لأحقية هؤلاء الرؤساء وفي كشف عن جوهر هذه الرياسة : استغلال الناس المؤمنين واستغفالهم واستعبادهم، بينما سيذهب الفارابي في نظريته للتوفيق بين الفلسفة و الدين إلى أن النبوة ليست ظاهرة خارقة بل ظاهرة طبيعية كسائر الظواهر “الطبيعية” (طبيعية وفق المفهوم الأفلاطوني) : فالنبي إنسان وصلت قوته المتخيلة إلى درجة الكمال بحيث يتصل بالعقل الفعال (وهو كرة القمر في ترتيب العقول الناتجة عن الفيض الإلهي وفق نظرية الفيض عند الفارابي)، أما عند ابن سينا فالنبي أكثر من ذلك، إنه واجب إنساني، لكي يعيش الإنسان في عدل ويتجاوز الصراع الطبيعي الضروري فيما بين أبناء جنسه إذا ما ترك وحيدا لغرائزه، إن طاعة النبي هنا واجبة لتحقيق العدل (انظر كم ابتعدنا عن النقد الذي وجهه المعري – الراوندي – و أبو بكر الرازي للنبوة، وكيف أصبح النبي مركز تحقق العدالة بدلا من أن يكون مصدر خداع الناس واستغلالهم، وبينما نجد الشرائع عند المعري هي سبب الاختلاف والصراعات “اللاعقلانية” بين البشر يصبح عند الفلاسفة مصدر إقامة العدل) . هنا يجري عكس الوجود العبثي وكل تناقضاته وبناءه من جديد لصالح الواقع مهما يكن
لو أني كلب لاعترتني حمية لجروي أن يلقى كما يلقى الإنس
إن الشرائع ألقت بيننا إحنا وأودعتنا أفانين العداوات
بينما تعود الشريعة مع ابن سينا إلى موضوعة النص المنقول عن مجازاة الله للمسيء وللمحسن لكن عن طريق آخر “عقلاني” أو “عقلي” بعد أن تعمل على تبرير كل ما انتقده المعري .
إن الموقف النقدي من الوجود، وانتقاد ما فيه من ظلم واستغلال “لاعقلانيين” كان حاسما أيضا في نظرة أبي بكر الرازي للوجود . يرى الرازي، مثل المعري، أن “الشر في الوجود أكثر من الخير، وأنك إذا قايست بين راحة الإنسان و لذاته في مدة راحته، مع ما يصيبه من الآلام و الأوجاع الصعبة والعاهات والزمانات والأنكاد والأحزان و النكبات – فتجد أن وجوده – يعني الإنسان – نقمة و شر عظيم طلب به” (د . عبد الرحمن بدوي، تاريخ الإلحاد في الإسلام، ص 259، سينا للنشر، الطبعة الثانية 1993 ) . خلافا لهذا الموقف النقدي من الواقع اليومي وحتى من حقيقة الوجود الإنساني برمته فإن الخطاب الديني، رغم استخدامه لصور مرعبة عن العذاب ومرارة الوجود البشري وعبثيته (بعضها واقعي جدا مستمد من واقع القهر والعجز الإنسانيين وبعضها الآخر أسطوري خيالي) في مواجهة تلك القوى السحرية أو الأسطورية التي يمنحها الأولوية و الغلبة على عالم الإنسان، يحتاج إلى موقف إيجابي من الوجود ككل، يتجاوز مرارة الواقع والوجود والألم والفقر والموت إلى تشكيل موقف إيجابي يعد بنعيم دائم يقوم على التزام مطلق أعمى بوصفة طقسية قيمية أخلاقية و عقيدية و في النهاية اجتماعية و فكرية كمدخل لهذا التجاوز . هذا ما كرسه، بشكل أو بآخر الفلاسفة المسلمون، الذين أعادوا إنتاج هذا الموقف بشكل أكثر “عقلانية”، أي بالاستناد إلى صورة خيالية للواقع تمسخه إلى قوى أسطورية أو عالم من “المثل” الأفلاطونية والأفلاطونية الجديدة المجردة، النتيجة السياسية و الاجتماعية لهذا التصور الكوني والوجودي هو في تبني المفهوم الأفلاطوني عن المجتمع، الفارابي في مدينته الفاضلة يعتبر، كأستاذه أفلاطون، أن الانقسام الطبقي و الاجتماعي ضرورة، عندما يطابق بين المجتمع – المدينة الفاضلة وبين الجسم البشري نفسه، فالمدينة الفاضلة تقوم على تعاون أعضائها تماما كما تعتمد سلامة البدن على تعاون أعضائه مع حقيقة تفاوت هذه الأعضاء من حيث الأهمية و الرياسة، عند الفارابي الرئيس هو القلب، “ثم هكذا تتراتب أجزاء المدينة إلى أن تنتهي إلى آخر يفعلون أفعالها على حسب أغراضهم فيكون هؤلاء هم الذين يخدمون و يكونون في أدنى المراتب” ( آراء المدينة الفاضلة، تحقيق ألبير نصري، ص 100 – 101 )، الفارابي هنا لا يطابق فقط بين المدينة الفاضلة و الجسد البشري بل و بينها وبين النظام الكوني أيضا، فنسبة السبب الأول إلى سائر الموجودات هي كنسبة ملك المدينة الفاضلة إلى سائر أجزائها، هكذا تسود التراتبية الهرمية كل شيء، لكن هذه التراتبية عند الفارابي تحمل دلالة مختلفة عن التراتبية الاجتماعية الأفلاطونية (الأكثر واقعية) وهي تقوم أساسا على تفضيل النخبة “العالمة” أو “حاملة الحكمة”، فخلافا للتقسيم الطبقي الأفلاطوني للمدينة الفاضلة بين طبقة الحكام والحراس والصناع قسم الفارابي طبقات المدينة بحسب درجة أهلها في المعرفة (أي درجة إلمامهم بالأساطير والمثل الأفلاطونية التي تصبح بديلة الواقع والنص المقدس في نفس الوقت) بين حكماء ( يعرفون الحقائق “ببراهين” أنفسهم أي الحدس والأدلة البرهانية ) ثم من يعرفون هذه الأشياء بالأدلة العقلية التي يقدمها لهم الفلاسفة و الباقون التي يعرفونها بالمثالات التي تحاكيها (أو التشبيهات)، هكذا ينتهي مسخ الحياة الاجتماعية نهائيا إلى عالم أفلاطوني مثالي محض ……. يبقى نقد المعري ( ومعه ابن الراوندي و أبو بكر الرازي ) معاصرا جدا، بل وحتى متقدما على الكثير من أطروحات النخبة الحالية التي تستنسخ إلى حد كبير خرافات الفارابي الاجتماعية والفكرية، علينا أن نذكر فقط هذا البيت للمعري
وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل…….