نورالدين عواد ـ كوبا
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2049 )
لا زالت عقيدة مونرو الامريكية التي تعود الى بداية القرن التاسع عشر تحكم النظرة والعلاقة الامريكية بامريكا اللاتينية، بصفتها فضاء حيويا استراتيجيا لمستقبل الامبراطورية الراهنة. على امتداد قرنين من الزمان، ما فتئت الادارات المتعاقبة تتدخل في شؤون وشجون دول وشعوب القارة تارة بالقوة الخشنة وتارة بالقوة الناعمة توخيا لنفس الغاية: احكام السيطرة الكاملة على مقدرات وخيرات القارة الطبيعية والبشرية والاقتصادية، ومنع اي نفوذ لاية قوة كبرى اخرى في المنطقة، بمعنى الحفاظ على هذه المنطقة الجيوسياسية والجيواستراتيجية كاحتكار حصري لراس المال الامريكي وشركاته العملاقة وتجلياتها في مختلف المجالات.
تماما كما هو الامر اتجاه الوطن العربي الكبير، بحيث غدت امريكا اللاتينية والشرق الاوسط كاملا بمثابة خطين رئيسيين للاستراتيجية الكونية الامبريالية الامريكية الرامية الى فرض سطوتها العسكرية والاقتصادية وحتى الثقافية على العالم، من خلال ما يسمى العولمة الليبرالية الجديدة، كتعبير عن تمدد غير محدود للاقتصاد الامريكي وتغليفه باسطورة نهاية التاريخ والايديولوجيا، وتقديمها الى البشرية كما لو كانت جنة امبراطورية في خدمة البشرية.
وتدرك الامبريالية الامريكية ان الضمانة الوحيدة للحفاظ على هكذا وضع، لا يتم الا بالقوة العسكرية المتفوقة استراتيجيا وتكنولوجيا على اية قوة كبرى، ولهذا تتمتع امريكا بـ 872 قاعدة عسكرية معروفة في كافة ارجاء الكرة الارضية برا وبحرا وقريبا في الفضاء ايضا. وطالما ان الاقتصاد الامريكي والراسمالي عموما يمر بازمة بنيوية شاملة، واصبح العالم يعيش حالة استقطاب شديدة، الحقت بالمشروع الامبراطوري الامريكي هزائم عسكرية وسياسية واخلاقية، فان الادارة الحالية ذات الوجه الافريقي، قررت الثار لاخفاقات الادارة السابقة ذات الوجه الانجلوسكسوني، ومحاولة استعادة المبادرة في امريكا اللاتينية.
اثناء حكم ادارة بوش بقيادة المحافظين الجدد، تبلورت وتجلت الامبريالية الصهيونية في تركيز حروبها في الشرق الاوسط وآسيا الوسطى، مما اتاح لشعوب امريكا اللاتينية، بالاضافة الى عوامل ذاتية وموضوعية، الافلات من جبروت الالة العسكرية والامنية الامريكية وحلفائها من النخب الاوليغارشية. فانتصرت الثورة البوليفرية في فنزويلا، والثورة الديموقراطية السلمية في بوليفيا وثورة المواطنة في الاكوادور ووصلت احزاب وقوى يسارية عموما وبدرجات متفاوتة (يسارية من حيث برامجها وسلوكها المغاير للاوليغارشية المتخارجة والتابعة للامبريالية ولمصالحها الطبقية) الى مقاليد السلطة السياسية في البرازيل، الاوروغواي، الارجنتين، تشيلي، نيكاراغوا، السلفادور، الهندوراس وغيرها. ومن هذا المنطلق فان المقاومة العراقية ضد الغزو والاحتلال الامبريالي الجماعي شكلت سدا منيعا امام تمدد آلة الحرب الامبراطورية، ووفرت مجالا رحبا لانتصارات امريكا اللاتينية، وساندتها في ذلك المقاومة في افغانستان ولبنان وفلسطين.
لقد شكل انتصار الثورة البوليفرية في فنزويلا الانكسار الاستراتيجي الثاني لاستراتيجية وعقيدة مونرو (الانكسارالاول الثورة الكوبية). الخطوات التكاملية والوحدوية القارية التي تجلت من خلال البديل البوليفري لامريكا اللاتينية “آلبا” في مواجهة الاستراتيجية الامريكية، وما تلاه من اتحاد بلدان امريكا الجنوبية ومجلس الدفاع الاقليمي المنبثق عنه، خلق وضعا استراتيجيا يتحدى الهيمنة الامبريالية في المنطقة. وجاء قرار الحكومة الاكوادورية بقيادة رافائيل كورّييا، بإجلاء قاعدة مانتا العسكرية الامريكية من اراضي بلاده، بمثابة الصاعق الذي فجر غطرسة وجبروت الامبريالية الامريكية.
فجاء الهجوم الامبريالي الاول، مدعوما من الاوليغارشية المحلية، من خلال الانقلاب العسكري في الهندوراس، وهي اضعف حلقات “آلبا”، بمثابة رد دكتاتوري على ترهل قوة المشروع الامريكي في المنطقة، وتحديا للاطر التكاملية والوحدوية فيها، ومحاولة لتوريطها في صراع عسكري يتيح لامريكا الزج بقواتها، وربما تبرير سحب بعض الفرق الامريكية من العراق وافغانستان، والاستعاضة عنها هناك بقوات حلف شمال الاطلسي، توريطا لاوروبا العجوز في عبء حروب الامبراطورية.
في الهندوراس لا توجد ثورة اشتراكية ولا ماركسية ولا اسلامية ولا نووية، بل نظام ليبرالي راسمالي متخلف، وقاعدة عسكرية امريكية. حاول رئيسها الشرعي المنتخب قانونيا وشعبيا، مانويل زيلايا (رجل شركاتي ثري لكنه قومي)، ترسيخ الانتقال من ارث الدكتاتوريات العسكرية الى دولة القانون والارادة الشعبية، من خلال اجراء استفتاء شعبي حول تعديل دستوري جزئي. لقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك ان الادارة الامريكية ووكالة الاستخبارات المركزية والقاعدة العسكرية في الهندوراس ضالعون في الانقلاب بالتنسيق مع الاوليغارشية التقليدية في الهندوراس.
اما الهجوم الثاني، وهو يكتنف ابعادا عسكرية خطيرة على كافة دول امريكا الجنوبية والوسطى والكاريبي، فقد تمثل في الاتفاق الامريكي ـ الكولومبي على اقامة سبعة قواعد عسكرية امريكية متطورة في الاراضي الكولومبية من ساحلها على الهادي الى ساحلها على الكاريبي. المبرر الذي تتشبث به امريكا هو مكافحة المخدرات والارهاب. العالم اجمع يعرف ان امريكا اكبر سوق مستهلك للمخدرات في العالم (95% من الاوراق النقدية المتداولة في واشنطن مرت بايدي افراد يتعاملون بالمخدرات حسب استقصاء مخبري ميداني في بداية الشهر الجاري) ووكالة مكافحة المخدرات الامريكية ووكالة المخابرات المركزية تورطتا ولا زالتا في تهريب المخدرات، منذ الحرب القذرة التي شنتها امريكا ضد الثورة الساندينية في نيكاراغوا، وتفاصيل ايران ـ غيت معروفة، وحاليا في كولومبيا وافغانستان وغيرها. أمّا الارهاب فالمقصود هو القوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك) التي تمارس الكفاح المسلح ضد الاوليغارشية الكولومبية منذ اكثر من اربعين عاما.
وتمهيدا لهذا التصعيد العسكري في القارة، عززت الادارة الامريكية “مخطط كولومبيا” من خلال خصخصة الحرب عبر الشركات الامنية وشركات المجمع الصناعي العسكري وتزويد عناصرها بحصانة تفوق الحصانة الدبلوماسية المتعارف عليها بين الدول: حصانة مطلقة امام القانون سواء الامريكي او الكولومبي او الدولي على اية جرائم يقومون بها.
منذ مدة طويلة تحولت كولومبيا الى قاعدة عسكرية امريكية صهيونية ونظرا لطبيعة النظام السياسي الحاكم (اوليغارشية تقليدية مشبعة بالنزعة الفاشية) ورغبته في الاستمرار في السلطة، والالتفاف على الدستور لكي يسمح بترشيح الرئيس الحالي لعهد ثالث، وضلوع الامبريالية الامريكية في الصراع الداخلي، وعزمها على التصدي لرياح التغيير الثورية والمناهضة لامريكا وعولمتها، جاء القرار المشترك باقامة القواعد السبعة الجديدة، في ظل الاسطول الرابع وحاملات الطائرات النووية المتمركزة في المنطقة.
اقامة القواعد العسكرية الامريكية السبعة سيؤدى حتما الى انطلاق عملية سباق تسلح يعود بالمليارات على شركات الاسلحة ومعظمها امريكية واوروبية، مما يضعف الامكانية الاقتصادية للدول الناشئة الراغبة في تنمية بلدانها، ويحد من برامج التعليم والصحة التي تعتمد عليها بديهيا اية عملية ثورية او تغييرية في اي بلد من بلدان العالم الثالث المحيطية.
يوجد قرار امريكي بعسكرة العلاقات مع المنطقة، تحضيرا لاشعال حرب اقليمية. الهدف الاساسي هو فنزويلا بكل ما تعنيه من بؤرة استقطاب ثوري تحرري وما تختزنه ارضها من احتياطات نفطية هائلة تفوق احتياطات العراق. واعتقد ان الامبريالية الامريكية وبعد فشلها في الاطاحة بالرئيس أوغو شافيس والعملية الثورية الصاعدة، من خلال محاولات انقلابية عسكرية ونفطية ومالية ومصرفية وتجارية واعلامية، لن تتورع عن المغامرة بافتعال حرب بلقنة تكون راس حربتها كولومبيا مدعومة بآلة الحرب الامريكية، الا اذا ادركت مسبقا بان الثمن سيكون باهظا بحيث لا تحتمله امريكا وربائبها.
ان حجم المصالح النفطية والمالية والطبيعية في فنزويلا، يجعلها هدفا دائما للمؤامرات والمخطططات الامريكية، في علاقة صراع مفتوح والى اجل غير مسمى. كون فنزويلا الحلقة المركزية في سلسلة الدول المستهدفة لا يعفي هذه الاخيرة من التعرض للضربات والمضايقات، فالسلوك الخارجي الامريكي يتسم تاريخيا بالانتهازية المحققة، ولا تتورع الامبراطورية عن غزو او احتلال اية بقعة في المنطقة اذا ما سنحت لها الفرصة. بنما، غرانادا، هايتي، الدومينكان ليست الا شواهد ملموسة.
على الرغم من حجم التحرك العسكري الامريكي واطماعه في القارة، فان الظروف الذاتية تحديدا القائمة في القارة تكبح جماح الاندفاعة المتغطرسة. الثورة الكوبية صامدة ومخضرمة في مواجهة الامبريالية، الثورة البوليفرية تترسخ باضطراد، اكثرية الدول الاقليمية ـ باستثناء كولومبيا (اسرائيل القارة) وكوستاريكا (بغلة طروادة) والبيرو (عاهرة امريكا) ـ تناويء المخطط الامريكي، بالاضافة الى عوامل موضوعية اهمها شبكة التحالفات الدولية (بالتحديد مع الصين وروسيا وروسيا البيضاء) تشكل كابحا لسياسة الغزو والنهب الامبريالي.
هناك عامل لا غنى عنه من اجل الثورة والصمود والتصدي ويتمثل في حالة الوعي السياسي والاجتماعي المتنامي في اوساط الجماهير الشعبية على امتداد القارة، وتحول هذا الوعي الى حركة باتجاه الانعتاق والتحرر من الخوف. الجماهير الشعبية العريضة في الهندوراس تحتل شوارع البلاد دون سلاح منذ 28 يونيو الماضي وتواجه قوات الفاشيست المدججة بالسلاح الحربي وتعمم شعار “انهم خائفون لاننا لا نخاف”. امريكا اللاتينية تعيش حالة مخاض وولادة سعيدة، وتكافح من اجل الخروج نهائيا على الهيمنة الامبريالية الصهيونية والاوليغارشية، وانجاز استقلالها النهائي. والعقبى عند امتنا العربية “عندما تكره الحياة وتحب الموت”.