السعودية: صراع أزلي على هوية الكيان

د. مضاوي الرشيد

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2051 )

فقط في بلد كالسعودية يحتدم النقاش حول هوية الكيان ومسيرته. فيتساءل البعض هل نحتفل باليوم الوطني أو لا نحتفل. وان احتفلنا ما هي دلالات أصوات الرفض والشجب من جهة وأصوات الابتهاج والفرحة من جهة أخرى. إن افتتحنا جامعة جديدة نجد أن الحدث يقترن بجدل حول فكرتها وتطبيقها على الأرض.

وان طرحنا موضوع المرأة وحقوقها تهيج الأنفس وتكفهر الوجوه وتشحن الأقلام وتتعالى إلى الأصوات بين مؤيد ورافض. وان تصدرنا المحافل الدولية داعين لمبادرات جديدة كحوار الأديان ندخل في غوغائية جدل بيزنطي بين مطبل للفكرة وآخر مدين لها. أن أي مشروع جديد مهما كان يحتاج إلى طيف كبير من المروجين والمسوقين الذين يبيعونه لرعية مهمشة وان تصدرنا سياسة خارجية معينة وتتعالى إلى الأصوات منها من يمجد ويشكر الرؤية والقائمين عليها وآخر يشكك ويندد. قد يعتقد البعض أننا أمة حية تعشق الحوار والسجالات الفكرية ولنا من المؤسسات المستقلة العشرات بل المئات التي توفر لنا مساحات حرة والفعاليات الضاغطة التي تمكننا من تحديد هوية الكيان وماهيته. ولكن نجد أن الواقع هو عكس ذلك.

مشكلة السعودية تنبثق من كونها ما زالت تتخبط عندما تحاول الإجابة على أسئلة بسيطة منها من نحن وماذا نريد. ورغم بساطة الأسئلة إلا أن الجواب لا يزال مستعصيا وبعيد المنال. ومن هنا نستطيع تفسير كيف أن في دولة حديثة لا يزال موضوع اليوم الوطني محطة فاصلة يؤيدها البعض ويرفضها البعض الآخر وموضوع قيادة المرأة للسيارة أو عملها كبائعة في دكاكين المراكز التجارية من المواضيع التي تقسم المجتمع ناهيك عن مواضيع أكثر حساسية وسخونة.

هل نطبع مع إسرائيل أو لا نطبع هل نصافح مسؤوليها أو لا نصافح. هل نفتح أجواءنا لطائرات القصف التي تطال دول الجوار أو لا نفتح. هل نستعين بالقوى الخارجية أم نعينها. هل نحن المحتاجون لها أم هي المحتاجة لنا إلى ما هنالك من أسئلة حساسة ومثيرة لا تجد جوابا ناهيك عن الأسئلة التي تدور حول نفطنا. هل نستخرجه من أعماق الأرض بنهم يعجل بانقراضه أم نقننه حسب ما تقتضيه المصلحة. وعن مصلحة من نتحدث هنا. مصلحتنا الوطنية أم العالمية وسوقها هل نوزع فائضه في الداخل أم في الخارج. هل نتبرع لفقراء العالم أم نحصره في حدود الكيان.

ينبثق هذا الجدل الأزلي من معضلة هوية الدولة والمجتمع وحتى هذه اللحظة لم تحسم في السعودية مسألة هويتنا وهوية الكيان الذي يحتوينا لعدة أسباب:

أولها وأهمها كون الدولة السعودية دولة مبهمة فلا هي دولة إسلامية استطاعت أن تطور مفهوم الدولة الحديثة من منظور إسلامي وتؤصل لمؤسسات تستمد مبادئها من التراث المعروف ولا هي دولة ديمقراطية حديثة كالدول الأخرى. فهل هي دولة أسرة أو مشيخة أو محمية؟ أو هل هي شركة عصرية تدير شؤون مجموعة بشرية وتتصرف بمواردها حسب ما تمليه احتياجات الأعضاء المشاركين ومصلحتهم الآنية؟ من الصعب تحديد هوية الدولة رغم الجهود التي بذلت وتبذل حاليا من اجل تحديدها والتأصيل لها.

اعتقد البعض خاصة عند بداية مرحلة تأسيس الدولة أنها دولة توحيد ترفع راية الجهاد لتطهير الأرض والعباد من شركيات مزعومة. لكن هؤلاء قد صدموا بعد إتمام المشروع ومساهمتهم فيه فوجدوا أنفسهم أداة ووسيلة لفكرة كان أصحابها قد تخيلوها بشكل مختلف تماما. فظل هذا التيار يتململ ويصدر الاعتراضات عند كل مرحلة دون أن يعيد المسيرة إلى طريقها الذي رسمه هو. لقد أدى هذا التيار مهمته ومن ثم تم تحييده تماما رغم مشاركته الفعالة في صياغة ماهية المشروع عند بدايته. فوجد نفسه اليوم وقد تقلصت أجنحته واختزل في هيئة دينية يعين أفرادها واحدا واحدا وحسب عملية انتقائية مسبقة. وان تجرأ احدهم على كلمة اعتراض أو انتقاد آنية فسيجد أمامه جيشا من المدافعين الذين يذكرونه بموقعه الجديد وهامشيته الحالية.

لقد أصبح المساهم في التنظير للكيان السعودي سابقا رمزا للتخلف والتحجر. فهو يوصف يوميا وكأنه من مخلفات القرون الوسطى التي لا تصح للقرن الجديد. فهوية الدولة التي ساهم في تأسيسها قد اندثرت وتلاشت وجهوده الجبارة في تدجين مجتمع الجزيرة العربية طيلة العقود السابقة لم تفرز إلا مواطنا تربى على السمع والطاعة وآخر لا يعرف من هو خاصة بعد وصول آليات العولمة والانفتاح إلى عقر داره. ونعرف أن بعد سقوط الهويات القديمة وتلاشيها تستحدث المجتمعات هويات جديدة تتبناها حتى تستطيع الإجابة على سؤال جوهري وهو من نحن ولكن نجد أن هذه النقلة لم تحصل في السعودية.

فتساءل البعض هل نحن عرب أم مسلمون أم قبائل أم مناطق. لقد كفرونا أن تبنينا العرب والعروبة واعتبروا ذلك مؤامرة صهيونية وحركة تغريبية. وقالوا لنا أننا مسلمون. فاستمتعنا بهذه الهوية وسافرنا بها إلى بقاع العالم نبني جسورا مع إخوان لنا في أقصى البلاد. وبنينا مؤسسات إسلامية براقة وتصدرنا تمويلها والأشراف عليها لنكسب الأجر والبريق الإعلامي.

ولكنهم مؤخراً نجدهم يدعوننا إلى ما يسمى بالهوية الوطنية فنرفع البيارق ونتغنى بوطنيتنا في مرافق مختلفة كمباريات كرة القدم والأيام الوطنية. لقد تأرجحنا في هويتنا بين الضيق والمحدود والعالمي الفسيح حتى وصلنا اليوم إلى مفهوم مبهم اسمه الوطن والوطنية وكلاهما يختزلان في معادلة بسيطة وهي الولاء للنظام. وهو ولاء مطلق لا يقبل الجدل أو السجال. وتجري حالياً محاولات تعريف الوطن والتذكير بملامحه الجديدة التي تتطلب تجنيد أقلام كثيرة علّها تغرس هذه الملامح في العقل الجمعي.

الوطن الجديد يختلف تماماً عن السابق فهو مسلم ولكنه عصري يقبل بما كان محظوراً وممنوعاً. وفي هذا الوطن الجديد مسرح وسينما وجامعة حديثة مختلطة حيث تحتسي الفتيات قهوة الكابوتشينو الصباحية مع زملائهن في الدراسة.

وفي هذا الوطن الجديد نختزل مشروع الكيان بشخصيات قيادية ورؤيتها. فهي دائماً على حق ورائدة في مشروع الإصلاح والتقدم نطالبها دوماً بأن تضرب بيد من حديد أصحاب المشاريع السابقة التي تنتمي إلى العصور الحجرية والمروجين للهويات الفاشلة القديمة. فنحتفل بالوطن الجديد رغم أنوفهم. ولكن في هذا الوطن الجديد لا يتحدث احد عن تمثيل سياسي أو حقوق مهضومة أو مسيرة متعثرة في بناء المؤسسات السياسية أو مساءلة أو محاسبة أو توزيع ثروة أو هدرها. فهذه تظل محظورات حتى في الوطن الجديد. كل ما يمكن أن يدور الحوار حوله اليوم يتعلق بأمور محدودة تستحضر دوماً إعلامياً كعملية لاقتلاع هوية سابقة واستبدالها بالهوية الجديدة. لقد فات منظري الوطن الجديد أن الهويات لا تجتث أو تنقرض بل هي تتطور تبعاً لمراحل تدريجية تساهم في تطورها تغيرات تاريخية مصيرية وليس محاضرات عقيمة وسجالات إعلامية على صفحات الجرائد وشاشات التلفاز ومتاهات الشبكة العنكبوتية.

تبقى هويات الكيانات عملية تدريجية وبناؤها ليس كبناء مجمع سكني أو مطار حديث أو حتى مبنى لمجلس الشورى. مما سهل من خلط الاسمنت بالماء خاصة أن توفر المال. ولكن بناء الأوطان هو عملية صعبة وما أصعب منها إلا الاتفاق على هوية الكيان عندها فقط تنحسر الحوارات والسجالات الهامشية وتستبدل بانجازات حقيقية، عندها لا يختفي الحوار إلا انه يستبدل بالنقد البناء ولا يتحزب المجتمع وينقسم إلى معسكرين كخطين متوازيين لا يلتقيان. مع الأسف لا تزال السعودية بعيدة كل البعد عن هذا المستقبل، وسنظل نشهد الاستقطاب والتناحر عند كل منعطف حتى نصل إلى مرحلة ما بعد الدولة ذات الهوية المبهمة.

:::::

كاتبة وأكاديمية من الجزيرة العربية