اختراق الهيمنة الأطلسية وضرورة تغيير العالم

نصر شمالي

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2070 )

لا تستطيع أيّة أمّة من الأمم المظلومة وضع تصوّر منطقي لإمكانية تحقيق وجودها المستقلّ، اللائق، القابل للحياة، قبل أن تعي جيّداً تركيبة هذا العالم، وقبل أن تحدّد بأكبر قدر من الدقة موقعها منه وفيه، في الماضي والحاضر والمستقبل، فإذا نجحت في وضع مثل هذا التصوّر كخطوة أولى فإنها لا تستطيع تحقيق الوجود أو الحضور المنشود كخطوة ثانية، ولو في حدوده الدنيا، قبل أن تمتلك البنية الذاتية الصلبة المستقلة في حدّها الأدنى، نعني البنية الثقافية/ السياسية، والاجتماعية/ الاقتصادية.

إنّ الأمة العربية اليوم، بناءً على ما أشرنا إليه، تعطي انطباعاً يظهرها كأنّما هي أبعد الأمم عن تحقيق مجرّد الخطوة الأولى، أي مجرّد وعي تركيبة العالم، وتحديد موقعها منه وفيه، الأمر الذي يدفع بالكثيرين من أبنائها إلى ظلمات اليأس والقنوط، غير أنّ هذا الانطباع لا يعكس الحقيقة، حيث وعي الأمة العربية محجوب بالسياسات والخطابات والممارسات المهينة المشينة للنظام الرسمي العربي، فهذا النظام ليس لأمته ولا معها، بل لأعدائها وضدّها، لأنّه أصلاً ليس من صنعها، ولأنّه أصلاً لم ينهض ليعبّر عن إرادتها ولا ليتبنّى مصالحها، بل العكس تماماً، وقد أدركت الأمة مؤخّراً تفاصيل مأساتها الرهيبة ووعت تركيبة هذا العالم التي أنتجتها، الأمر الذي سوف يجعلها تستردّ بسرعة قياسية مكانتها الأممية اللائقة والضرورية.

إنّ هذا العالم، خلافاً للأوهام الشائعة، ليس بلداناً وأقاليم سائبة، فالتة، منقطعة الصلات، بل عالم موحّد مسيطر عليه بشبكة من الأجهزة المتنوعة، المعقدة، أقامها نظام دولي صارم. صحيح أنّه مجزّأ جغرافياً واجتماعياً، لكنّه موحّد بقيادة دولية ديكتاتورية جزّأته ومزّقته وحوّلته إلى شظايا كي تتمكّن من جعله يدور في فلكها موّحداً بقيادتها، فكان لها ما أرادت على مدى القرون الخمسة الماضية، وبخاصة في المرحلة الإنكليزية/ الأميركية التي بدأت في القرن السابع عشر!

في سهرها على حماية مصالحها واستمرارية سيادتها، تعتمد المركزية الأطلسية على شبكة هائلة من الأجهزة الدولية البشرية والتقنية، المتعدّدة الألوان والمتنوعّة الوظائف، وتنخرط في هذه الشبكة الأجهزة البشرية والتقنية لضحايا المركزية الأطلسية انخراطاً يفوق في فعاليته فعاليات أجهزتها الخاصة، فالسيطرة على مقدّرات الأمم المظلومة لا يمكن أن يتحقق من دون تواطؤ الأجهزة البشرية والتقنية لهذه الأمم، وهو ما نراه اليوم واضحاً تمام الوضوح في العراق! وهكذا تتابع المركزية الأطلسية بنجاح نسبي، وبالمستوى ذاته من الاهتمام، أبسط شؤون العالم وأعظمها، وتتعامل معها كلّها مجتمعة ومنفردة على مدار الساعة، سواء أكان الشأن هو إعاقة تشكيل الحكومة اللبنانية على بساطته، أم محاصرة وعزل وخنق المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، أم محاولات تقسيم السودان واسترداد إيران، أم الاستماتة لكسب الحرب الهائلة في أفغانستان وباكستان، أم مواجهة الصعود العظيم الاقتصادي والسياسي لكلّ من الصين والهند وغيرهما في مجموعة الدول العشرين الجديدة.

على ذكر مجموعة الدول العشرين الجديدة وصعودها النوعي التاريخي الذي اخترق لأول مرة هيمنة المركزية الأطلسية بعد قرون من سيادتها العالمية شبه التامة، وبشّر بإمكانية تغيير العلاقات الدولية الظالمة، نقول أنّ هذا التطوّر العظيم يفتقر إلى حضور الأمة العربية كعضو في المجموعة كي تتحوّل البشرى بإمكانية تغيير العالم إلى بداية تغيير واقعي، فحضور الأمة العربية بمئات ملايينها الغائبة، أو المغيّبة، ضروري لتغيير موازين القوى الدولية لصالح الأمم جميعها، وليس ثمة أدنى مبالغة في هذا القول!

لقد تأسّس حلف شمال الأطلسي في العام 1949 بعد الحرب العالمية الثانية وبالصورة التي تتفق مع نتائجها. وتعود البدايات الجنينية لهذا الحلف الغربي، الإقليمي العنصري، إلى العام 1241، أي إلى زمن الحروب الفرنجية (الصليبية) والبدايات الأولى لتبلور المجتمعات والدول في وسط وشمال وغرب وشرق القارة الأوروبية. ففي ذلك التاريخ نهض تحالف أو اتحاد المدن/الدول الأوروبية التجارية، آخذاً على عاتقه تدمير الحضارة العربية الإسلامية والسيطرة على العالم، وهو ما نجح في تحقيقه ابتداءً من نهايات القرن الخامس عشر وبدايات السادس عشر، ليقع العالم أجمع، شيئاً فشيئاً، في قبضة تلك الدول الناشئة، حديثة العهد بالعلوم والعمران والتقدّم، ثمّ كانت المركزية الغربية العنصرية الاحتكارية، المستمرة حتى يومنا هذا.

على مدى القرون الماضية، في المراحل المتوالية وحتى المرحلة الحالية، كان جوهر العقيدة الاستراتيجية الأممية للحلف الغربي، والحلف الأطلسي آخر أشكاله، هو استعباد الأمم وليس تحريرها، ونهبها وليس تطويرها (تماماً بعكس ما فعله الفاتحون العرب) وهاهو الحلف الأطلسي اليوم يمارس عملياته الاستعبادية ويخوض حروبه الظالمة في أربعة مسارح دولية رئيسية: في أفغانستان (وباكستان) لقطع الطريق على نهوض الصين والهند وروسيا وإيران، وبالتالي لإبقاء آسيا عموماً تحت سيطرته. وفي كوسوفو حيث تتواجد قواته وأجهزته المتنوعة لإحكام السيطرة على منطقة البلقان بمجملها وعلى أوروبا عموماً. وفي العراق حيث تجري محاولات ترويض شعب هذا البلد العظيم بعد تدميره، للاستئثار بنفطه ولقطع الطريق على نهوض أمته العربية. وقرب السواحل الصومالية حيث يمارس القرصنة الحقيقية ضدّ قرصنة وهمية، وفي سياق الحرب المفتوحة ضدّ أفريقيا بمجملها!

إنّ حوالي مئتي ألف جندي، معظمهم من الأميركيين، ينشرون الفساد والدمار والموت في العراق وأفغانستان تحت رايات حلف شمال الأطلسي. وتجري هذه العمليات في سياق محاولة ضمان تدفّق الموارد الطبيعية إلى المراكز الأطلسية وبشروطها المجحفة، وبخاصة النفط والغاز، وفي سياق استمرار السياسة الثابتة التي تقضي بمنع الأمم الأخرى من تحقيق التطور والتقدم في بلدانها، وهو ما تنصّ عليه عقيدة الحلف السياسية والعسكرية. غير أنّ هذا الحلف يواجه اليوم، لأول مرّة في تاريخه، احتمال هزيمته التي قد تطيح به، سواء في أفغانستان أم في الدول الإسلامية والعربية الأخرى، فانتصاراته لم تعد مضمونة مسبقاً ولا مؤكدة سلفاً كما كان الحال في الماضي، قبل احتلال العراق.

ns_shamali@yahoo.com