جمال محمد تقي
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2070 )
في اخر خطاب له قبل مغادرته العراق وتسليم مفاتيحه لغرفة عمليات مشتركة تقوم اركانها الاربعة على قوائم لا تتغير بتغير الاسماء والالقاب ـ السفير الامريكي المتربع على قلب المنطقة الخضراء، قائد القوات الامريكية في العراق، ممثل عن قوات النخبة العراقية وهي قوات معدة ومجهزة للاعمال القتالية والاستخبارية الخاصة يشرف عليها الامريكان جملة وتفصيلا، ممثل معتمد من الادارة العراقية المدنية ـ تكلم بريمر بخطاب مطول ولاول مرة ـ حسب مقاييس الخطابات الامريكية التي لا تطيق المقدمات الطويلة ـ ومتلفز بثه على ابناء بلده الثاني بعبارات مؤثرة، ذكرتهم بمآثر سانتا كروس الامريكي الذي جاء ليوزع الهدايا على المنتظرين، وكيف انه وفي طريقه لتسليمهم هداياهم قد خلصهم والى الابد من الوحش الذي كان كابسا على انفاسهم، ولم ينسى بريمر ملاحظة السفير البريطاني له بان يضمن خطابه بعض الكلمات العربية لان وقع ذلك سيكون اكثر تاثيرا عند العراقيين فهم يهيمون بلغتهم، وفعلا فقد وقع خطابه بابيات اثيرة من الشعر العربي في وداع بغداد وصوبيها، وبالعربية ليؤكد للمشاهدين والمستمعين مدى مصداقية مشاعره الفياضة نحو العراق والعراقيين، وحسنا فعل عندما لم يبكي وهو يقول للعراقيين : باي، لانه لو فعل لكان لكلماته مفعول قراء مواكب عزاء الحسين، وحينها سيكون اللطم والبكاء هو سيد الموقف، الذي لا يريده بريمر الا مفعما بالتفاؤل والانطلاق والثقة بالمستقبل الذي اصبح مضمونا، وان تغير السفراء والحكام!
في كتابه عامي في العراق، الذي جاء بعد ان تأكد للجميع ان عملية تحرير العراق وقبلها عملية محاصرة العراق هي اكبر عملية نصب واحتيال في التاريخ، في كل تاريخ العلاقات الدولية!
كتب مذكراته وبعض يوميات السنة التي قضاها حاكما مدنيا عاما للعراق كل العراق، وكان الكتاب عبارة عن خطاب اخر، وهذه المرة من وراء الحدود، ومن مجمله وظروفه يستشعر القاريء النجيب ان هناك روح تبريرية ناعمة تسود ساحته خدمة لساحة من استخدمه ـ ادارة بوش ـ اي انه ينفض يده وايدي من معه من اغلب الجرائم الشنيعة التي ارتكبت بحق دولة العراق وشعبها، ملقيا بالمسؤولية على اغلب الجماعات العراقية التي كانت تحمل ماركة المعارضة المصرح بها امريكيا والمسجلة عند البنتاغون لاغراض الخدمة والتقاعد، فهي كانت تعمل برواتب وميزانيات ممولة من الحكومة الامريكية، الكتاب يصب في تحميل رموز المعارضة وتحديدا اعضاء مجلس الحكم كل تفاصيل المصائب الكبرى التي حصلت!
كان بريمر كغيره من الغربيين لا يكثر من التقبيل اثناء الاستقبال والتوديع، واغلب اعضاء مجلس الحكم كانوا من العارفين بهذه الحقيقة، ولكنهم مع ذلك كانوا يتقصدون تقبيله وبقوة وبعضهم من فمه ـ كما كان يفعل السيد بحر العلوم مثلا ـ وكانهم يريدون التاكيد له على عراقيتهم التي لم ينسوها رغم تجنس اغلبهم بالجنسيات الغربية!
بريمر كان يضحك في سره من حالة وحركات النفاق السياسي والاجتماعي والكذب والغش الذي يخر من نجوم مجلس الحكم الذي شكله هو بنفسه ـ فاذا كان رب المجلس في الدف ناقر فشيمة اهل المجلس الرقص ـ طبعا الرب هنا هو بريمر نفسه، رغم انه ناقر على طريقته،، لقد ذكر وفي اكثر من موقع من مذكراته تلك على ان بعضهم كان يقرض البعض الاخر عندما يكون احدهم بخلوة معه، او عندما ينفرد به بعضهم، فالحكيم لا يطيق علاوي، والجلبي لا يطيق الصميدعي، وهلم جرى. ويقول ايضا انهم كانوا ملكيين اكثر من الملك في كل شؤون الاجتثاث والحل والتسريح والتفكيك والدفع باتجاه الاسراع بشرعنة ما يحصل وباي وسيلة كانت، وفعلا كان هناك شبه اجماع بينهم على ذلك وكانهم يريدون تحطيم كل شيء قائم ليقيموا بانفسهم وميليشياتهم مقامات جديدة، وهنا كانت دعوة السيستاني هي الاكثر قبولا في تكريس شرعية ما اتخذناه من سياسات وقرارات واجراءات، وذلك من خلال جر الناس للانتخابات والاستفتاءات لتكون هي الشماعة التي نعلق عليها موضوعة الشرعية فيما جرى ويجري!
* * *
ترى هل تغير الوضع بعد مرور اكثر من نصف عقد على تجربة بريمر في العراق ؟
لا اعتقد ان هناك عاقلا يمكن ان يجيب بالايجاب!
فما زال اعضاء مجلس الحكم هم انفسهم في واجهة الحكم في العراق مع بعض التغيرات غير المؤثرة هنا وهناك، من مجلس الرئاسة الى الوزراء الى البرلمان الى ـ المفوضيات والمحاكم الجنائية ولجان التخصص ـ الى جانب كون ميليشياتهم هي ذاتها تتقاسم الجيش والشرطة والوظائف، ومازال اهم سر من اسرار تاخرها في اقرار وانجاز القوانين هو الوقت الذي تتطلبه عمليات المحاصصة في ريع كل خطوة يمكن ان يخطوها البرلمان او مجلس الوزراء او مجلس الرئاسة!
حتى مسودات القوانين المفصلية المقرة والتي لم تقر بعد كقانون النفط والغاز بل وحتى الدستور الدائم المستفتى عليه ـ نسخة مفصلة لقانون ادارة الدولة ـ وكلها كانت قد اعدت سلفا في اثناء تاسيس كيان الدولة الجديدة وحكم مؤسسها الفعلي بريمر!
المنطقة الخضراء واساسات السفارة الامريكية الجديدة، والتاكيد على مبدأ الكوتا التوافقية، كلها ـ منجزات ـ بريمرية!
مختصر مفيد ان من قال عملية سياسية بريمرية لم يخطأ قطعا، بمعنى ان بريمر هو الغائب الحاضر في الهواء الذي تتنفسه تلك العملية المشوهة!
عليه فان سياسيي العراق ما زالوا وبهمة عالية يسبحون ويغوصون بما فاض عليهم به من شخات نافورية ترطب كل مفاصلهم وتلافيفهم الممنونة اصلا لبول ـ بريمر!