الحروب السعودية: من الخفجي إلى جبل دخان

د. مضاوي الرشيد

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2071 )

في عام 1990 احتل الجيش العراقي منطقة الخفجي فاستنجدت السعودية بأكثر من 500 ألف جندي أمريكي. وطعمتهم ببعض العناصر الغربية والعربية. وفي عام 2009 دخلت القوات الحوثية جبل دخان بسرعة خاطفة فردت السعودية بقصف للشريط الحدودي مع اليمن. وبما أن الحرب لا تزال في أيامها الأولى فمن الصعب التكهن بتطورها ونهايتها. دخلت السعودية في سجال طويل مع مجتمعها.

وانقسم الرأي حول الإستراتيجية السعودية في مرحلة غزو صدام عام 1991 بعد أن قطع النظام السعودي الطريق على دعوات صدرت من الداخل مطالبة بإعطائها الفرصة في الدفاع عن الأرض السعودية المحتلة خاصة التي تقدم بها بن لادن والجهاديون العائدون من أفغانستان. ولم يكن بإمكانها أن تستنجد بهؤلاء خاصة وان ذلك سيكسبهم شرعية على أرض السعودية. فآثرت الاعتماد على جيش من المرتزقة سواء العالمية أو الإقليمية والذي أدى إلى تداعيات لا تزال السعودية تعاني منها ومن حالة الانقسام الذي رسخته في أطياف المجتمع وفعالياته. أن أي دولة تستنجد بقوى خارجية في حال تعرضها لعدوان خارجي لا بد أن تسخر شيئا من سيادتها وتنهك ميزانيتها وتدخل في علاقات خارجية تفرضها مرحلة الاستعانة بقوى خارجية. ولنا في تاريخ بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية عندما استعانت بالقوة الأمريكية لقهر المد النازي وصواريخه التي طالت مدنها عبرة. حيث أنها لم تستطع التملص من تبعيات تلك المرحلة حتى اليوم. ولكن السعودية لا تعتبر ولا تتعلم دروسا من تجارب الدول وتاريخها وهي حتى هذه اللحظة تفضل أن تبقى محمية من قوة خارجية على أن تبني قوة محلية تحمي حدودها لأسباب كثيرة لا مجال لتعدادها هنا. أما اليوم فنحن بصدد وضع جديد حيث أنها استعرضت عضلاتها وطائراتها المستوردة في الشريط الحدودي اليمني مما يجعلنا نطرح عدة أسئلة عن مغزى الإستراتيجية السعودية الجديدة هذه. تدخل اليوم السعودية مرحلة الحرب بالوكالة. فالولايات المتحدة مشغولة بورطتها الأفغانية وربما آثرت الإدارة الأمريكية أن تنأى بنفسها عن التدخل المباشر في الحرب الحوثية اليمنية طالما ظلت هذه الحرب تطبخ على نار خفيفة فوجدت في السعودية خير أداة تنفذ المهمة. أما من جهة السعودية فهذه الحرب الدائرة في أقصى الجنوب الغربي فرصة ذهبية لضرب عدة عصافير بحجر واحد.

أولا:الدخول في صراع محلي له أبعاد إقليمية تتعلق بعلاقة السعودية مع إيران المتهمة بالوقوف خلف التمرد الحوثي رغم انه من المؤكد وجود أطراف عربية قد تكون هي أيضًا منخرطة في هذا الصراع ومن مصلحتها فتح جبهة على الحدود السعودية.

لا تستطيع السعودية وحدها توجيه ضربة مباشرة إلى إيران منافستها الوحيدة في المنطقة وتكتفي بدبلوماسية الضغط على واشنطن وتأمل أن تتصدر هذه وحليفتها إسرائيل مشروع تحجيم إيران في العالم العربي. وبعد فشل هذه الدبلوماسية السعودية نجدها مضطرة لان تتخذ قرارات بضرب المنطقة الحدودية مع اليمن مباشرة تحت ذريعة الدفاع عن أرضها.

ثانيا: أكثر من أي وقت مضى تحتاج السعودية إلى لفت انتباه شعبها إلى عدو خارجي تصوره على انه يهددها في مرحلة تعاني السعودية من حالة غموض حول مصير قيادتها ومعارك هذه القيادة الداخلية وتأثيرها على الحكم. فملكها تجاوز عمره الثمانين وولي عهدها غائب منذ أكثر من سنة وأمراء الوزارات المهمة ينتظرون توريث أبنائهم الذين يتصدرون إدارة هذه الوزارات تحت مظلة آبائهم وكلهم دخلوا مرحلة الشيخوخة المتأخرة. والصراع محتدم بين الجيل الثاني، آخره ما ذكرته أنباء خارجية عن محاولات انقلابية تم على خلفيتها تغيير بعض الشخصيات التي يعتقد أنها تورطت في هذه العملية. وبين الحين والآخر يستقيل أمير من منصبه ويعين ابنه مكانه وآخرها استقالة المسؤول عن شؤون البلديات وتعيين ابنه مكانه. ورغم آليات استحدثت لمأسسة موضوع القيادة على أعلى مستوى إلا أننا نجد هذه المؤسسات مجمدة وغير قادرة على احتواء التطاحن الحالي. فجاءت الحرب على الحوثيين لتسدل ستارا عازلا تختبئ خلفه هذه الصراعات الداخلية وتجيش الجميع لتجميد خلافاتهم في سبيل الدفاع عن أرض الوطن.

وثالثا: ومنذ التصارع الحوثي ـ اليمني نجد السعودية وإعلامها يستجدي مشاعر المواطنة والوطنية لتجييش المجتمع خلف مشروع التدخل السعودي في اليمن. وهذه فرصة ذهبية يستغلها النظام السعودي لصرف النظر عن مشاكله الداخلية العالقة ومنها معضلة التوريث على مستوى القيادة العليا ومشاكل أخرى تتعلق بفشل السياسة الخارجية السعودية في المنطقة العربية واستمرارية خطر القاعدة رغم مشاريع المناصحة والمواجهة المباشرة ومصادرة الأسلحة وتفكيك الخلايا الحية والنائمة. في هذا الإطار يصعب على المواطن السعودي التشكيك في الإستراتيجية السعودية الجديدة المنبثقة من التدخل المباشر في اليمن. وتتعالى الأصوات التي تخون وتشكك في الوطنية والالتفاف على مشروع ولي الأمر الجديد وكيف ذلك بعد احتلال منطقة سعودية من قبل الحوثيين؟

لا بد لنا أن نجزم أن الصراع الحوثي ـ اليمني هو شأن داخلي يتعلق بالدولة اليمنية وصراعاتها الداخلية وليس شأنا سعوديا وان آثرت السعودية أن تدخل بطائراتها على الخط. وعلى السعودية أن تفكر أكثر من مرة في قضية الانزلاق في المستنقع اليمني بهذا الشكل العلني. ورغم أنها كانت دوما طرفا ليس بالمحايد في القضايا اليمنية السابقة ومنها الوحدة في اليمن حين وقفت بثقلها خلف احد الأطراف على حساب طرف آخر ومشروع استقطاب الزعامات اليمنية القبلية والتلاعب بالنسيج الديني والإقليمي والقبلي اليمني إلا أن ليس في مصلحتها تأجيج حرب يمنية جديدة. يجب أن لا تنسى السعودية أن لليمن امتدادا بشريا في السعودية ذاتها حيث الهجرة البشرية والترابط بين مجتمع اليمن الشمالي والجنوب السعودي قديم ويطال العمق السعودي ذاته. لن تستفيد السعودية من استعراض العضلات على مناطق نائية معدومة في اليمن وقد تكون ثارات اليمن القادمة خناجر جديدة تنذر بعواقب وخيمة. على أرض السعودية ذاتها. لقد اثبت المجتمع اليمني رغم فقره انه مجتمع أقوى من الدولة التي تحكمه رغم مركزيتها والأموال الطائلة التي تدعمها من الخارج. وربما تجربة القيادة السعودية مع مجتمعها الغني نسبيا والضعيف مؤسساتيا قد جعلها تتبع أسلوب الغطرسة في اليمن وتستقوي بثروتها والتي تعتقد أن بها تستطيع شراء الضمائر وتحويل مسيرة الشعوب وقياداتها. لن تستطيع السعودية تجفيف المستنقع اليمني بضربة خاطفة لان صراعات اليمن قديمة وعميقة ويصعب على السعودية السيطرة عليها رغم المحاولات السابقة المدعومة بالثروة والتي افتقدت إلى حسن الإدارة. وقد حاولت السعودية منذ عام 1934 احتواء اليمن ولكن الحرب اليمنية الحالية دليل قاطع على قصر النظر وسوء التصرف. بل أن الكثير من النقاط الساخنة اليمنية كانت تنفجر بدعم سعودي مباشر وغير مباشر.

على السعودية أن تحل مشاكلها الداخلية العالقة بمنأى ومعزل عن حرب ضد فريق خارجي. فالوطنية التي يغزل نسيجها حاليا في السعودية على خلفية احتلال جبل دخان أو غيره هي وطنية زائفة آنية لن تحل المعضلة السعودية الداخلية وستجد السعودية نفسها في مواجهة داخلية بعد أن يخمد دخان جبل دخان تماما كما حصل بعد صد العدوان العراقي على الخفجي منذ أكثر من 19 عاما. لن يحل الخطر الخارجي حقيقيا كان أم وهميا المشاكل العالقة في الداخل السعودي على مستوى القيادة أو المجتمع وستطل هذه المشاكل برأسها مهما حاولت السعودية صرف النظر عنها آنيا. فالوطنية والالتفاف حول القيادة مشروع طويل لا يبنى على منظومة الخطر الخارجي الآني أو صراع مع قوة إقليمية تنافس السعودية في أكثر من منطقة في العالم العربي. وبعد أن سقطت منظومة الصراع العربي الفارسي على ضفاف الخليج لن تنتشل صعدة وأزقتها مشروع الوطنية السعودية من مأزقها. بل ستكشف هذه الحرب سلسلة من المناورات العقيمة والسياسة الإقليمية الفاشلة وستطال أبعادها العمق السعودي ذاته وليت قومي يستفيقون من سباتهم العميق.