في مناهضة التطبيع: الاقتصاد السياسي للتطبيع

د. عادل سمارة

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2075 )

مدخـــل

من كبير المفارقات في التاريخ أن يعتاد المرء/الناس على التصالح مع تحديات تذهب باتجاه تصفية وجودهم المادي والثقافي بالطبع. وتتفاقم المفارقة ، أو تتدنى، إلى أرذل المواقع حين يقوم الواقعون فيها بتسويقها إلى بني جلدتهم مُلبسين إياها إهاب النصر والإبداع.

ما أقصده الاعتياد على الاحتلال، والتصالح مع وجوده، التعود على اغتصاب قطر من الوطن الكبير، فلسطين، ونقل التعود على ذلك إلى العراق والصومال، ووصول أصحاب هذه النهج إلى حالة التقليل من صمود لبنان، بل وتحسرهم على هزيمة الاحتلال هناك.

إذا كان لنا تعريف التطبيع في هذا السياق، فهو: اعتبار اغتصاب الوطن أمراً عادياً، والتعاطي مع المحتل كابن بلد، ودعوة العرب لزيارة “أرذل الكرامة في أرذل الحِقب”.

من هنا، فالتطبيع هو التجلي الآخر للاحتلال العسكري، تمويهه بلغة جديدة، مصطلح جديد، خطاب جديد، وكلها لا يعترض عليها العدو بل يتمتع بها وربما يشارك في صياغتها.

ومن هنا ايضاً نقدنا لأنفسنا نحن الذين نرفض التطبيع، لأننا استفقنا فإذا به قد صار “المبنى الأساسي للحياة اليومية في الأرض المحتلة”.

(مظفر: …وجدوا كل سقوط العالم فيها…قالوا مرثيةً). كلا ، لن نقول مرثية.

فالاشتباك مع المطبعين هو حالة من الامتداد والاشتداد المتواصلين تبادلياً. وليس أمامنا سوى نقد تقصيرنا، وإن كان أحياناً يصح فيه قول حافظ إبراهيم:

لا تلم كفي إذا السيف نبا صحَّ مني العزم والدهر أبىْ

قوائم التطبيع الثلاث

ليس التطبيع الذي نقصد هو مع الكيان الصهيوني وحده، بل هو:

1- التطبيع مع الكيان

2- التطبيع مع مركز/مراكز النظام العالمي الخالق/الداعم للصهيونية والمحتل للوطن إمبريالياً.

3- التطبيع مع الكمبرادور الرسمي العربي (سنعالجها لاحقا)

ألا يوحي هذا بضخامة الهجمة؟ قد يصرخ، بل سيصرخ المطبعون بأن: “انظروا هذه خشبيتهم، هذا عقل نظرية المؤامرة…الخ، إنهم يريدون مقاطعة الدنيا”.

ولكن مهلاً .

تقوم فرضيتنا هذه على أساسين:

الأول: أننا جزء من الوطن العربي وبالتالي فالمواطن العربي مُطالَب بأن لا يطبع مع مغتصب الوطن ومع من لا يقاوموا هذا الاغتصاب فلسطينيين وعرباً وغير عرب. بمعنى أن اي عربي مُدان إذا ما مارس معصية التطبيع.

والثاني: وجود وقائع تدعم ما نذهب إليه في مقاطعة أو عدم التطبيع مع أنظمة التبعية والكمبرادور العربية. وهو ذهاب مؤكد ومرصود ولا شطط فيه.

انظروا إلى المثال التالي:

“نعم، لم تشترك بعد جيوش أنظمة عربية في مساعدة الاحتلال في قمع المقاومة في فلسطين. ولكن، ألم تسمعوا أن عدة دول عربية تدارست بتوجيه من الولايات المتحدة إدخال جيوش عربية لاحتلال غزة؟ ألم تروا بأم أعينكم جيوشاً عربية غزت العراق 1991؟ إلى جانب جيوش الغرب الراسمالي؟ أليس هذا تطبيعاً بالمدفع والطائرة. هل يمكن التصالح الشعبي مع أنظمة كهذه؟

ولكن عودة إلى فلسطين، هل ينكر أحد أن المطبعين العرب رسيما وشعبياً يدعمون المطبعين المحليين في الأرض المحتلة، الهادفين إلى جعل الاحتلال أمراً عادياً، فيتسلل إعلاميون ومهنيون ومثقفون عرب من بين اصابع الأمة محمولين على أكف الراحة من الاحتلال؟”

الاقتصاد السياسي للتطبيع

بعد الإشارة أعلاه إلى ممارسة التطبيع بالسلاح، في العراق، والتمني على الاحتلال أن يهزم المقاومة اللبنانية 2006، ومقاومة غزة 2008، أود التحول إلى جوهر التطبيع الرئيسي وهو المال والتمويل. فلا أخال قط، أن يقوم اي امرىء بالتطبيع مع العدو دون أن يقبض بما هو أعلى من قيمته التي يعتقدها، حتى هو نفسه. فمن يُشترى بالمال ليس إلا رقيقاً.

يتحلَّى المطبعون الفلسطينيون باللغة، أما العرب فيتزينون بأقراط التغني بجمال فلسطين، والحنين إلى الأرض. ولكن، هل حقاً هذه دوافعهم للتطبيع؟ أم أن هناك دوفع ومكونات أخرى للتطبيع. وما الذي يأتي بأولئك من الوطن العربي إلى الأرض المحتلة؟ ما هي الناقلة؟

بشكل رئيسي هو المال، حب حيازته وحب إنفاقه وحب مراكمته! هكذا يعلِّمون في السنة الأولى لطلبة الاقتصاد: “قم بالمراكمة يا موسى…أنت والأنبياءAccumulate Moses, you and the Profits

كيف يمكن لأحدٍ في الأرض المحتلة أن يقيم بناية مسرحٍ، أو حتى يدفع أجرتها الباهظة وهو اساساً لا يملك ثمن موسى حلاقة ليحلق ذقنه، أو ملقط شعر صغير لتزجيج حاجبها؟ ناهيك عن أن امتلاك المال لا يشترط في مجتمع شرقي يؤمن بالفردية المطلقة، فردية ما قبل الرأسمالية، لا يشترط أن يدفع حائزه للتبرع “السخي” هكذا.

من أين، تأتي هذه الأموال التي تُغدي التطبيع إذن؟

هل هناك غير المانحين الأجانب؟ لذا، نجد وقد أُقيم هنا مسرح، وهناك مركز ثقافي، وهنا مقر “فرانكفوني” وهنا نادي في كل قرية…الخ.

لماذا يدفعون؟ وحين نسأل من اين تتمولون: يجيب البسطاء بأن المصدر هي “الدول المانحة”، أما الضالعون فيمرروا السؤال بلا جواب!

قد يقول مواطن طيِّب: وما المشكلة، إن المانحين يقيمون أو يخلقون شواغر عمل! لا بأس، ولكن حينما يكون بلد في حقبة البناء Nation building، يكون أو يتوجب التركيز على خلق شواغر عمل إنتاجية لأنها تدوم وتعتمد لاحقا على نفسها. لماذا يتم تشغيل الناس في خدمات لا تعيش إلا على الدعم المباشر من مصدر الدعم؟

ما الذي يدفع الغرب الراسمالي لضخ هذه الأموال في قنوات مخروقة (بالعامية الفلسطينية مُبَهْوَرة) لا تحتفظ حتى برطوبة الماء!

من الذي يدفع لنقابة المهندسين من الإخوة في الأردن كي تأتي للتطبيع في رام الله؟ ولماذا يدفع لهم؟ من الذي تكفَّل بالدفع “لاستحضار” عبد اللطيف اللعبي وإلهام المدفعي وهند صبري… وغيرهم ليأتوا إلى هنا؟ هل مجيئهم كله شوق إلى فلسطين!

من المعني بإهلاك هذه الأموال على تحركات لا تخدم المجتمع الخاضع للاحتلال قط، وإنما توفر دخلا عاليا لمن يعملون في “قواعد” التطبيع إلى حد أنهم اصبحوا شريحة اجتماعية: “شريحة متلقي العائدات غير المنظورة”. وحين وصل ويصل هؤلاء إلى هذه المداخيل، قل لي بالله عليك: هل سيسمحوا لنا بنقد التطبيع؟

قد يزعم أحد أن الدفع من السلطة الفلسطينية. ربما، ولكن من اين تتمول السلطة؟ ثم لماذا لا تنفق هذه الأموال على مشاريع تنموية؟ أم أن هذه الأموال مخصصة للتطبيع. فالعقد شريعة المتعاقدين!.

نتحدث هنا عن مصالح طبقية، لا تأخذ بحسبانها وطناً ولا قضية.

إذن، وبلا توسع أكثر، نتحدث هنا عن قطاع من الاقتصاد السياسي هو الاقتصاد السياسي للتطبيع.

التطبيع ثقافة استهلاك

الاستهلاك، الاستهلاكية، الاستهلاك المفتوح، شره الاستهلاك، هي عادات وثقافة تستدعي التطبيع بالضرورة لأن التطبيع مثابة بائع متجول لثقافة الاستهلاك فهي ناقلته إلى الذهن والجسد والبطن والمظهر. لأنه يوفر للاستهلاكيين ما يرفع من شأنهم في أعينهم وأعين نظرائهم.

والاستهلاكية، بما هي مستوى من الوعي المتخلف، والأقل إنسانية، كانفلات شهواني غريزي، ليست بعيدة عن الاقتصاد السياسي، بل هي في صلبه. وتقع غالباً في عامل التقليد “نظرية رينجر نيركسة”، وهي نظرية تمتد من الفرد إلى الجماعة.

والتقليد غريزة مفتوحة لا تشبع، ولذا فهي تستدعي مالاً أكثر، بما أن التطبيع، كما اشرت، بائع متجول لقسائم الاستهلاك. لذا، كلما زاد الدخل، دون اقتران بوعي بالاستهلاك، أو بالاستهلاك الواعي، كلما اقتيد الإنسان بعامل التقليد، وهذا مرض بالطبع، يصيب بدرجة أكبر أولئك الذين يحصلون على مداخيل أعلى ولا سيما العائدات غير المنظورة أو الكسب الحرام، ومن هذا الكسب ما يأتي من أعمال غير إنتاجية.

كما يلعب كل من مستوى المعيشة وكلفة المعيشة دوراً في الاستهلاكية، ولكل منهما موقفا أو نظرة إلى التطبيع.

كيف؟

نتحدث هنا عن مسألة هامة ومركبة في الحياة، إنها المسألة الطبقية. ففي حين تهتم طبقات بمستوى معيشة عالٍ ومتعالٍ دوماً، فإن طبقات أخرى تُجهد نفسها لتوفير كُلَف المعيشة. هنا يكون دور مال التطبيع، تعزيز وزيادة القلقين على مستوى المعيشة بضخ اموال كثيرة لهم، وتوفير تمويل أو دخل للقلقين على كلف المعيشة من ابناء الفقراء ذوي الدرجة المقبولة من الثقافة ليلتحقوا بالفريق الأول.

لذا، لا غرابة أن نجد من منظِّري التطبيع أبناء احزاب يسارية، وطبقات شعبية!!!

وخطورة هؤلاء أنهم ذوي قدرات تحليل طبقي تتحول إلى تبرير وطني. هذا يذكرنا بكرة القدم: فالكرة المرتدة غالباً، تحقق هدفاً. (أنظر مقالة لاحقة)

لا بد من التقاط الحبل السُّري بين االاقتصاد السياسي للاحتلال والتطبيع، وبتحديد أكثر، بين التبعية، وغياب سياسة تنموية محلية، وغياب الاعتماد على الذات، وتغييب ” التنمية بالحماية الشعبية” وبين التطبيع بما هو مالي/تمويلي.

فالاقتصاد السياسي للاحتلال هو إضافة إلى مصادرة الأرض وإغلاقها، يقوض البنى الإنتاجية للبلد، وبالتالي، تصبح قوة العمل الشابة معوَّمة بلا وزن ولا معنى، فتقبل بأي شغل حتى لو كان من طراز :” الأكل بالثديين”.

أليس الاحتلال هو الذي يفرض منظومة اسعار اقتصاده على اقتصاد المناطق المحتلة؟ أليس هو الذي يصل متوسط دخل الفرد فيه 14 ضعف متوسط دخل الفرد في الضفة والقطاع؟ بينما اسعار السلع والخدمات متقاربة إلا ما يتم تهريبه، والتهريب قد يحتوي إلى جانب (التعويد على اللصوصية) مواد فاسدة وخطيرة.

والهدف من فرض مناخ كهذا هو أن يصبح التطبيع أمراً مفروضاً لمن لا يجد سبيلا آخر، فيتحول رامي الحجارة إلى شرطي يعتقل زملائه القدامى! وتتحول الفتاة العاطلة عن العمل، إلى “بطلة مسرحية” تطبيعية او عازفة في فرقة سعيد ـ برينباوم التطبيعية من درجة قصوى. وبرينباوم هذا هو الموسيقار الذي أيد مذبحة غزة في نهاية العام الفارط وبداية هذا العام! باختصار، يخلق الاحتلال شروطاً تدفع باتجاه التطبيع,. هذه إذن صناعة مصممة سلفاً وبقصد. لا توجد لحظات عفوية في حياة راس المال الاحتلالي!

إلى جانب الغلاء وقلة المداخيل هناك القضاء على ريع الأرض، والصناعات المحلية الوليدة. يكون هذا بغمر أسواق المناطق المحتلة ببضائع ومنتجات الاحتلال والدول الغربية المناصرة للصهيونية. وهي بضائع ذات كلفة أقل بما لا يُقاس. ولا تقوم سلطة الحكم الذاتي بمنعها لحماية الفلاح والصناعي المحليين. قد يقول البعض، إن الاحتلال لا يسمح لسلطة الحكم الذاتي بالمقاطعة ولا حتى الحماية. لا بأس. إذن أنت تُقرُّ بأن لا سيادة لهذه السلطة. فلماذا تزعم أيها السيد أن الذي يأتي إلى الأرض المحتلة لا يأتي بإذن من الاحتلال!!! ولا إذناً سوى إذن الاحتلال.

أمام خراب مواقع الإنتاج المحلي، يتحول الجيل الجديد من الفلاحين إلى قرويين يعيشون هناك ولم يعودوا قادرين على المنافسة، لأن ما ينتجونه لا يضاهي الأسعار الرخيصة للمستوردات، فيتدفق ابناء القرى إلى المدن بحثاً عن اي عمل في مؤسسات التطبيع وخاصة الأنجزة، وتكون النتيجة فقدان الأرض والناس.

والتطبيع جغرافي/سياسي كذلك وبالطبع.

مثلاً، لا يهتم المطبعون بالتطبيع في “خِرَب” مدينة دورا/ الخليل. ماذا يكسبون من تطبيع عجوز تعيش على الحليب الطبيعي لعنزة تطعمها في النهار وتحاورها في الليل.

يتركز التطبيع في رام الله حيث الثقافة والسياسة. حيث مؤسسة أوسلو وتمفصلاتها من المثقفين الذين اعتاشوا على أموال منظمة التحرير الفلسطينية قبل أوسلو، ويعتاشون اليوم على أموال الدول المانحة، وكذلك الذين يعيشون على أموال الأنجزة، والمنظمات الحكومية كالمراكز الثقافية لهذه الدولة أو تلك. وبين الثقافة والسياسة يتم تعميق الوجه الأخطر للاحتلال وهو التطبيع. نعم في المدينة تتركز الثقافة والسياسة والنسوية والمجتمع المدني، و”تعليم ـ نا” الديمقراطية وحقوق المرأة… والمهم، أن هذا النشاط التطبيعي ينتهي لتعليمنا “عدم المقاومة”!

وهذا يتحدانا نحن بسؤال: كيف علينا منازلة التطبيع؟ لا شك ان من العبث منازلته في ملعبه اي مقاتلة المال بالمال. لسنا على طاولة قمار في لاس فيجاس أو كازينو أريحا العتيد.

مثلاً، لا يمكننا الحصول على نقود نظيفة كافية لإقامة قصر ثقافي في رام الله يضاهي القصر الثقافي الذي استقبل ملك التطبيع الفني دانييل برينباوم؟ كما لا يمكننا توفير دخل لممثل مسرحي بما يسمح له بشراء سيارة (بي أم دبليو)…الخ.

لا بد من مقارعة المال بالمقاومة. وحدها التي تعتمد على الثروة الوطنية كثروة طبيعية. والمقاومة هنا، في الفن بأنواعه وفي الثقافة، في الموقف السياسي، الوعي، الخطاب…الخ. إذن لماذا لا نجر الخصم إلى ملعبنا؟

يمكن مثلا إقامة مسرح صغير، أو سينما صغيرة (مسرح الجيب ـ كما كان في مصر قبيل السادات).

ولا نقول هذا لإقناع المطبعين أو تغيير توجههم. فطالما التطبيع مالياً، نقودياً في المبتدأ والمنتهى، فإن تغيير مسار حياة المطبعين سيكون أمراً صعباً فيما يخص البعض ومستحيلاً فيما يخص البعض الآخر، وربما لهذا علينا التركيز أكثر على توفير “طُعُم” ضد انفلونزا التطبيع! هو طعم الصدق والصراحة والمقاومة.

كثير ممن أصبحوا عتاة تطبيع بدأوا بعدم دراية، أو حسن نوايا أو بدأوا اضطراراً، أو بعدم اكتراث او لهبوط السقف…الخ. لذا، لسنا أمام لوحة كتيمة مغلقة، بل فيها تلوينات، ومن الضروري قراءة كل لون على حدة. لا بد من تفكيك الألوان وصولا إلى تركيبها بجوهر مختلف، نقيضاً ومضاداً. أما الذين ابتلوا بالعمل في التطبيع لتدبير عيشهم، فنقول لهم: “طالما انك مضطر، فعلى الأقل، لا تمدح التطبيع في حياتك اليومية”.