نصر شمالي
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2077 )
ذات يوم، في أحد اجتماعات المفاوضات أو المحادثات برعاية الأمريكيين، وفي لقاء جانبي، تحدّث ياسر عرفات إلى إسحق رابين عن ‘ضفة غربية محرّرة لصالح الفلسطينيين’، فأجابه رابين بما معناه أنّ بالإمكان (مجازاً) التنازل أو إعادة يافا وحيفا للفلسطينيين، أمّا الضفة الغربية (يهودا والسامرة) فيستحيل الحديث عنها وهي التي ينهض عليها المشروع الإسرائيلي، حيث تتمركز فيها جميع الحجج والدعاوى التاريخية (المزعومة) بصدد ‘المقدّسات والممالك اليهودية القديمة’! وها نحن نرى الإسرائيليين اليوم يقضمون الضفة قطعة فقطعة، ويعترضون على تمسّك السلطة الفلسطينية بإيقاف عمليات الاستيطان كشرط للدخول في المفاوضات، ويرون في ذلك موقفاً معادياً للسلام، فيوافقهم الأمريكيون على اعتراضهم وعلى رؤيتهم!
وبينما الحال هكذا في الضفة الغربية، حيث يوجد حوالي مليونين ونصف المليون فلسطيني تخنقهم وتقطّع أوصالهم المستعمرات وجدران العزل والحواجز العسكرية، يشتدّ الحصار وتتوالى عمليات الإبادة والبلع والهضم الثقافي القومي العرقي ضدّ حوالي مليون ونصف المليون فلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948، تحت شعار ‘يهوديّة الدولة الإسرائيلية’، ويشتدّ الحصار وتتعاظم عمليات البلع والهضم ضدّ حوالي أربعة ملايين فلسطيني في ملاجئهم البائسة المؤقتة خارج فلسطين، أمّا المقاومة المسلّحة فقد دفعت وجمعت وحوصرت بإحكام شديد في قطاع غزّة فقط (حوالي 360 كيلو متراً مربعاً!) مع حوالي مليون ونصف المليون فلسطيني يعيشون حالة اختناق مستمرّة، وقد فرض عليهم حكّاماً ومحكومين، بصورة أو بأخرى، ما يشبه ‘نظام حكم ذاتي’! وإن كانت المقاومة تتعامل مع القطاع على أنّه مجرّد ‘منطقة محرّرة’ محاصرة.
إنّ حوالي عشرة ملايين عربي فلسطيني يواجهون اليوم آلة الإبادة والتدمير الشامل، بينما أدارت القيادات العربية والفلسطينية ظهرها للبديهية الأولى التي تقول إنّ قضية فلسطين هي قضية وجود لا قضية حدود، فإمّا الفلسطينيون والعرب وإمّا الإسرائيليون والأمريكيون! وبالطبع ليس العرب من وضع هذا الخيار الرهيب موضع التنفيذ، بل الطرف الآخر الذي لم يتوقّف لحظة عن العمل على أساسه، وبالتالي فليس ثمّة إمام العرب من خيار وجودي سوى العودة إلى بديهيات القضية الفلسطينية، وتنظيم أمورهم على أساسها بعيداً عن أية أوهام، فيحسموا أمرهم بأنّ مصيرهم جميعاً هو مصير فلسطين، إن نجت نجوا وإن هلكت هلكوا!
وعندما نشير إلى محاولات إهلاك فلسطين ينبغي علينا أن ننظر بمنتهى الجدّية والواقعية إلى مصير الشعوب الأصلية في أمريكا الشمالية، فمثلما كان يقال بالأمس هناك، أنّ الهندي الطيّب هو الهندي الميّت، يقال اليوم هنا أنّ الفلسطيني الطيّب هو الفلسطيني الميّت، وليس من فارق على الإطلاق في جوهر النتيجة والمصير المقرّر الذي يجمع بين شعوب أمريكا الشمالية المبادة وبين الفلسطينيين!
من أجل إدراك أبعاد ما يحدث للإنسان الفلسطيني، في القدس والوسط والشمال والجنوب، ما بين رأس الناقورة ورفح، لنعد إلى العام 1870، ونرى ما كان يحدث في مدينة دنفر الأمريكية الاستيطانية: كانت فروة رأس الهندي الأحمر، الطريدة المقتول، تباع بعشرة دولارات (مبلغ كبير بحسابات ذلك الزمن) وذلك في نطاق حملات تأجيج حماسة المستوطنين وتشجيعهم على تطهير البلاد من أصحابها (أنظروا إلى ما يحدث في القدس وفي المسجد الأقصى) أمّا في مدينة سنترال سيتي فقد وصل سعر فروة رأس الطريدة الآدمية إلى خمسة وعشرين دولاراً. وفي مدينة ديدوود في داكوتا وصل السعر إلى مئتي دولار! لقد كان المستوطنون الإنكليز يفاخرون بغنائمهم من فروات الرؤوس البشرية!
اليوم، وأنتم تتابعون الابتسامة العريضة الثابتة كقناع معدني على وجه المبعوث الأمريكي ميتشل، تذكّروا أنّ القوات النظامية الأمريكية في المكسيك، ما بين العامين 1862-1863، دمّرت جميع القرى والبلدات الهندية وأبادت من فيها أطفالاً ونساءً ورجالاً، وأتلفت ما يساوي أكثر من مليوني جنيه إسترليني من الغلال الهندية! أنظروا إلى ما يفعلونه اليوم بغلال الفلسطينيين وبخاصة الزيتون! وانظروا إلى ما حدث في غزّة وقبلها في قانا! إنّهم يتعاملون بالخلفية والعقلية نفسها مع الفلسطينيين والعرب والمسلمين عموماً!
في ولاية أريزونا، في العام 1871، في كامب غرانت، هاجم قطيع من المستوطنين ثلاثمائة طفل وامرأة وشيخ يعملون في الحقول تحت حراسة مشدّدة من الجيش الأمريكي (مثل الحراسة النظامية الإسرائيلية المشدّدة للمسجد الأقصى) فقتل أولئك المستوطنون 118 امرأة و8 شيوخ، وأسروا 30 طفلاً حملوهم وباعوهم كأرقاء في المكسيك، وقد تظاهر الرئيس الأمريكي غرانت بالغضب، وطالب بمحاكمة القتلة، غير أنّ القاضي قال للمحلفين أنّ قتل الهنود ليس جريمة، وأطلق سراح المتهمين! والآن لنتابع مصير تقرير غولدستون عن جرائم الإسرائيليين التي لا مثيل لفظاعتها، ولنتذكّر أن العمليات الإبادية ضدّ أهالي غزّة تمّت بمعرفة وموافقة الرئيسين الأمريكيين السابق واللاحق، حتى أنّهما لم يتظاهرا بالغضب، مثلما فعل الرئيس غرانت، على الرغم من مشاهد الأطفال الممزّقين المحروقين بنيران الأسلحة المحرّمة! إنّهم يقترحون الاقتصاد والمال مدخلاً للسلام مع الفلسطينيين! إذن فاسمعوا: في العام 1868 وافق الكونغرس الأمريكي على منح سلفة قدرها مائة ألف دولار لإنقاذ سجناء شعب نافاجو من الموت جوعاً وبرداً ومرضاً، فسرق مكتب الشؤون الهندية الحكومي ما يعادل سبعين ألف دولار من السلفة، ولم يصل من الأدوية والأغذية والألبسة إلاّ ما يساوي ثلاثين ألفاً، وهلك بعد ذلك، في العام نفسه، أكثر من ألفي سجين أو أسير من أصل عشرة آلاف (أي ما يعادل عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون الإسرائيليين اليوم!).
الخلاصة: إنّ الفلسطينيين خصوصاً والعرب والمسلمين عموماً محكومون بما يتراوح ما بين الإبادة والتدمير الشامل والتبعية الذليلة، ولا مبالغة في ذلك على الإطلاق. إنّ الأمريكيين والإسرائيليين يدقّقون في فروات رؤوس الفلسطينيين التي سلخت والتي سوف تسلخ، وليس في أيّ شيء آخر، وما عدا ذلك ليس سوى اللغو والتضليل والضجيج، المروّع تارة والمطمئن تارة أخرى، لجعل الطرائد عاجزة تماماً ليس عن المقاومة العاقلة، بل عن القيام بأية عملية دفاعية ولو غريزية غير عاقلة!