منظمة الصحة العالمية وصناعة المجاعة

د. ثائر دوري

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2078 )

على عكس ما يتوهم كثير من البشر فإن المجاعة ليست عفوية، أو نتيجة الجفاف والظروف المناخية، بل هي صناعة استعمارية متكاملة……

كتب الباحث الفرنسي ميشيل سودسكي في التسعينات دراسة مطولة عن كيفية صناعة المجاعة في الصومال أواخر أيام زياد باري، حيث أدى تطبيقه لوصفات صندوق النقد والبنك الدوليين إلى انهيار اقتصاد هذا البلد، وانهيار أنظمة التبادل الإقتصادية التي تحفظ التوازن الغذائي بين البدو الرحل والمزارعين ومن ثم انهيار البلد كاملاً، ووقوعه فريسة المجاعة. كما أن الدكتور فيصل قاسم ينقل عن المؤلف الهندي بي أم باتيا في كتابه “المجاعات في الهند” المؤلف عام 1967 “: إن الهند تعرضت منذ القرن الحادي عشر إلى بداية القرن الثامن عشر لأربع عشرة مجاعة، أي أن البلاد كانت تشهد مجاعتين كل قرنين تقريباً، لكن الأمر تغير تماماً بعد قدوم الاستعمار البريطاني، فمنذ عام 1859 حتى عام 1914 بدأت البلاد تشهد مجاعة كبرى كل سنتين تقريباً بشكل منتظم”.

ويتابع الدكتور فيصل القول:

((بينما كانت بقية دول العالم تشهد ارتفاعاً في عدد السكان بسبب التقدم التكنولوجي، بقي عدد سكان الهند ثابتاً لمدة قرن تقريباً حتى العام 1914، وذلك لأن سياسة التجويع كانت عماد الإستراتيجية الاستعمارية في الهند، حسب الكاتب بول غلوماز))

فأسباب المجاعة هي النهب الاستعماري والضرائب المرتفعة و الانتاج من أجل التصدير.

إن قائمة صانعي المجاعة في الوقت الراهن تضم مشعلي الفتن الداخلية والحروب الأهلية في مناطق الثروات و المواد الأولية مثل الكونغو الديمقراطية (كينشاسا) حيث يشهد هذا البلد أكبر مقتلة صامتة بتحريض من الشركات متعددة الجنسيات من أجل نهب الذهب واليورانيوم والمعادن الأخرى وكذلك الأمر في العراق من أجل النفط. وفي قائمة صانعي المجاعة الأساسيين صندوق النقد والبنك الدوليين صاحبي وصفات الإصلاح الهيكلي التي تفرض ايقاف الدعم الحكومي في الصحة والتعليم والغذاء للفئات الفقيرة الهشة، وتُجبر الحكومات على تحويل اقتصادها نحو التصدير للحصول على العملات الصعبة لتسديد الديون وفوائدها، فتُصدر الحكومات المواد الغذائية بدل أن تطعمها للجائعين من شعبها أو تخصص الأراضي الخصبة لزراعة القطن أو الزهور وغيرها من سلع التصدير بدل زراعتها بالحبوب لإطعام شعبها. وهذا ما يشير له تقرير عن سوء التغذية (اسم مخفف للمجاعة) عند الأطفال في مصر الذي صدر عن وزارة الصحة المصرية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فهو يشير إلى ارتفاع سوء التغذية (الاسم الملطف للمجاعة) عند الأطفال المصريين إلى نسبة 33% وما يعنيه ذلك من قزامة جسدية و من تخلف عقلي وضعف مناعي، فقد عزا جيان بييترو بوردينيون، مدير مكتب برنامج الأغذية العالمي في مصر، تزايد نسبة سوء التغذية بين الأطفال إلى “سلسة الصدمات المتتالية التي أضرت بالفقراء، خصوصا الأشد فقرا منهم. مشيراً إلى مايسمى سياسات الاصلاح الهيكلي ووصفات صندوق النقد والبنك الدوليين التي تحرم الفئات الهشة من الدعم الحكومي، كما ان النمو المشوه الذي يفرضه تطبيق هذه الوصفات يفرض نفسه فـ66 %بالمائة من الثروة المنتَجَة في مصر مرتبطة بقطاع معين بحيث لا يستفيد منها سوى الأشخاص العاملين في هذا القطاع بشكل مباشر وليس الاقتصاد العام ككل. فرغم النمو بنسبة 7% ارتفعت نسبة الفقر الحاد بين 2005 و2008 بنسبة تقارب 20 في المائة. إلى هنا والكلام مكرور فالجميع يعرف دور المؤسسات المالية الدولية، والنمو المشوه الذي يولده الارتباط بالسوق العالمية، ونتائج اعتماد سياسة التصدير إلى الخارج في صناعة الفقر والمجاعة. لكن الجديد الذي جاء به هذا التقرير هو إشارته إلى دور منظمة الصحة العالمية في صناعة المجاعة و إن لم يذكرها بالإسم، ولا أدري لم لم يذكرها رغم أنها مسؤولة بشكل مباشر عن صناعة الجوع في مصر كما ورد في التقرير؟ فالتقرير يشير في أكثر من مكان إلى أن إعدام ملايين الطيور عام 2007 بسبب وباء انفلونزا الطيور المزعوم سبب تفاقم سوء التغذية عند الأطفال ” فاليونيسف وبرنامج الغذاء العالمي يشيران إلى أن ارتفاع ظاهرة سوء التغذية لدى الأطفال يعود بشكل جزئي لقرار الحكومة إعدام الملايين من رؤوس الدجاج عام 2007″. وفي مكان آخر من التقرير نقرأ :

((إعدام الطيور أثر بشكل كبير في استهلاك الأسر للدواجن والبيض. وتجلى الأثر السلبي الأكبر على الأطفال الصغار. كما أدى الإعدام أيضا إلى تقليص موارد بعض الأسر التي كانت تعتمد في دخلها وضمان سبل عيشها على مبيعاتها من الطيور.))

كما أن هالة أبو خطوة، مسؤولة الإتصال بمنظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (اليونيسف) أفادت أنه “في ظل الأزمة الحالية والركود الاقتصادي وتزايد انتشار أنفلونزا الطيور والخنازير لا يتم التعامل مع مشاكل التغذية بشكل ملائم ترى اليونيسف وبرنامج الغذاء العالمي أن ارتفاع ظاهرة سوء التغذية لدى الأطفال يعود بشكل جزئي لقرار الحكومة بإعدام الملايين من رؤوس الدجاج عام 2007”

لكن التقرير، كما قلنا، لا يشير إلى مسؤولية منظمة الصحة العالمية التي شتت انتباه العالم عن مشاكله الحقيقية و على رأسها الجوع، وتفرغت لترويع العالم من أوبئة وهمية استجابة لمصالح الاحتكارات الدوائية. كما أن المنظمة هي التي نصحت الحكومات بإبادة الطيور بعد أن روعتها بتصريحاتها غير المسؤولة و نبؤاتها القيامية عن فناء ملايين البشر بسبب وباء انفلونزا الطيور المزعوم، و هو نفس السيناريو الذي تكرر مع وباء انفلونزا الخنازير المزعوم أيضاً. كان على التقرير أن يحدد المسؤوليات تماماً فيشير إلى أن الحكومة المصرية امتثلت لارشادات منظمة الصحة العالمية لتجنب وباء انفلونزا الطيور المزعوم فكانت النتيجة أن حدث وباء جوع حقيقي.

لقد انضمت منظمة الصحة العالمية بجدارة إلى القائمة السوداء لصانعي المجاعة في العالم. ولو كان هناك أدنى شعور بالمسؤولية العلمية أو الأخلاقية لدي مسؤولي المنظمة لتقدموا باستقالاتهم من مناصبهم على أقل تقدير بعد هذا التقرير.