السعودية بين إخوان الشدة والرفاه

د. مضاوي الرشيد

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2085 )

مهما كان موقف المراقب من حركة ‘الإخوان المسلمين’، مصرية الأصل، عالمية الانتشار، لا بد أن يعترف أنها من أكثر الحركات السياسية تأصلا في المجتمعات العربية والإسلامية، ومؤخرا الغربية، حيث استطاعت الحركة أن تخترق مؤسسات حكومية دينية وتعليمية وخيرية وأخرى، تحسب على فعاليات المجتمع المدني. إن سلمنا بهذا نستطيع أن نتحول لتقييم هذه الحركة الشعبية رغم أن كوادرها هم في البداية مجموعة نخبوية أنتجتها التحولات التربوية التي شهدتها الساحة. فهؤلاء يختلفون عن العلماء التقليديين ذوي التعليم المرتبط بمؤسسات تأهيل العلماء، فمعظمهم جمعوا بين العلم الديني المكتسب من خلال الاطلاع المعرفي وبين العلم الحديث الذي أدخل في الجامعات المؤسسة في القرن العشرين. فمنهم الأطباء والمهندسون والمحامون.

استطاعت الحركة أن توصل مشروعها لشرائح كبيرة من خلال هؤلاء الذين منهم من يعمل في أجهزة الدولة المستحدثة مع نمو بيروقراطية الدولة وتفرع مؤسساتها. ما يهمنا هنا هو موقف الحركة الأم من الأحداث السياسية على الساحة العربية الحالية. خذ مثلا موقف الحركة الأم من الصراع اليمني الحوثي والذي تبنى الموقف الوحدوي ونأى بنفسه عن الانحياز لتيار معين في الصراع، وقد اختلف هذا الموقف من موقف الطرف وهو موقف الإخوان المسلمين السوريين، حيث اصطفوا خلف الجناح السعودي الطارئ على الصراع، وكذلك اختلفوا مع فروعهم في دول الخليج تماما كما حصل عندما غزا صدام الكويت، فظهرت مظاهر التصدع في الموقف من الغزو وانشق الإخوان بين مؤيد للضربة الأمريكية مصطفا بذلك خلف إخوان الرفاهية في دول الخليج وحكوماته وآخر معارض للتدخل الأجنبي في حل معضلة الغزو ومنهم إخوان الشدة في البلدان العربية الفقيرة من اليمن إلى الأردن. يطرح هذا الانشقاق معضلة الحركات السياسية العربية إسلامية كانت أم علمانية، يسارية أو قومية، وهي معضلة علاقتهم بالسعودية ودول النفط الأخرى. لقد وقع الإخوان تماما كما وقعت الحركات السابقة في كماشة الأنظمة العربية وقدرتها الشرائية وصراعها مع الأنظمة الأخرى في المنطقة.

الكل يعلم لماذا استقدمت السعودية الإخوان المهجرين من كل دولة عربية ومنها سورية والعراق واليمن والمغرب العربي، بالإضافة إلى مصر، المركز الأول للفكر الاخواني. استعملتهم السعودية لتثبيت شرعيتها الإسلامية في وقت كانت تحتاج إلى البعد الإسلامي لمحاربة أبعاد المرحلة الثورية والتي ارتبطت بالاستقطاب العربي بين عبد الناصر والسعودية. ولجأ بعضهم إلى العراق الذي استضاف كوادر إخوان سورية بعد توتر العلاقة البعثية البعثية بين سورية والعراق، وكذلك فعل الأردن في مرحلة التوتر السوري الأردني. وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) وجهت السعودية اللوم إلى الفكر الإخواني وقدرته التنظيمية لتتملص من تهمة تفريخ الإرهاب على خلفية خطابها السلفي، فاشتدت المعركة في العلن ولكن يبدو أن الموقف الإخواني السوري المناصر لغزوات جبل دخان الحالية هو انعكاس لحالة التقارب بين معارضة سورية والنظام السعودي على خلفية توتر العلاقات الرسمية السعودية السورية والتي اشتدت وتيرتها بعد الهجوم الإسرائيلي على لبنان عام 2006. هذا العرض السريع يجعلنا نصل إلى بعض النتائج منها:

أولا: لم تحسم حركة الإخوان معضلة العالمية والمحلية، فخطابها الشامل يصطدم بمعطيات الأحزاب المحلية في كل بلد عربي، هذه المعطيات تنبثق من مشاكلها مع أنظمتها المحلية وتركيبة مجتمعاتها الخاصة بها، خذ مثلا حدة الخطاب الإخواني السوري تجاه الشيعة، أليس هذا انعكاسا لما يحصل في سورية نفسها منها مثلا اعتبار إخوان سورية أن نظامهم نظام فئوي نصيري استنجد بالبعد الشيعي ليقضي على التمرد السني منذ عام 1980. هذه المعضلة ليست موجودة في مصر وان وجدت فهي ليست بنفس الحدة والصرأمة.

ثانيا: حتى هذه اللحظة لم تحسم حركة الإخوان موقفها من النظام السعودي بشكل واضح وصريح، بل هو موقف يتذبذب حسب المعطيات السياسية، وهذا ينطبق بالأخص على إخوان الخليج والسعودية الذين ما زالوا يدفنون رؤوسهم في الرمال ويختبئون تحت شعارات الدعوة والإرشاد. إخوان الرفاهية هؤلاء يطالبون بأسلحة الأنظمة والدولة الإسلامية في كل مكان ما عدا بلادهم ويحتضنون الإخوان المهجرين من كل مكان ويدعمونهم بالمال شرط أن لا يقوضوا علاقتهم بدولهم، والتي يرون فيها صروحا رشيدة للحكم الإسلامي العتيد.

وكلما ظلت هذه الحركات تترنح في مواقفها وتتبنى ازدواجية مفضوحة ستظل قاصرة على أن تتحول إلى قوة شعبية ذات موقف مؤصل وواضح وصريح من أنظمة لا تتحمل أن توصم بالإسلامية دون أن يدخل المرء في متاهات الزيف الإعلامي. وقد عرف هؤلاء أن الأنظمة التي تحتضنهم قد تسلط عليهم تيارات إسلامية أخرى وتسحب البساط من تحت أقدامهم كالتيار السلفي مثلا، ويصبح الكل لعبة في يد الأنظمة ذات القوة الشرائية المرتفعة.

ثالثا: لقد وقعت الحركات السياسية العربية في فخ الأنظمة التسلطية التي تستقطبها وتغدق عليها الأموال وتجرها في صراعات، بل حتى أنها تبث جذور الانشقاق في صفوفها، مستغلة بذلك ضعفها اجتماعيا وماليا، إما في بلدها الأم أو في موطنها، حيث تشكلت تحت ستار السرية والرعب من سوط الأنظمة المتسلطة. وحالة الإخوان المسلمين لا تختلف أبدا عن الحركات السياسية العربية السابقة عندما وقعت هذه أيضا سابقا في فخ الأنظمة معتمدة على مبدأ عدو عدوي صديقي. وقد ينتج عن هذا المبدأ بعض المكاسب الآنية، إلا انه في النهاية موقف فاشل على المدى الطويل لأنه يرهن القرار السياسي للحركات بمشيئة وأهداف وأموال لاعب قوي مستعد لأن يستغل ومن ثم يرمي الحركات وكوادرها خلف أسواره. نعم إنها سياسة قذرة طورتها الأنظمة العربية إلى مستوى عال من التقنية والإبداع، وأثبتت أن رجالات السياسة العربية هم تماما كما وصف أرسطو الإنسان على أنه حيوان سياسي بالدرجة الأولى. ولكن لم ينتبه أرسطو أن العرب وحيوانيتهم السياسية هي قطرة تربوا عليها، وهي لا تعتمد على أحلاف ومناورات شريفة بل أنها حيوانية قذرة تعتمد على أعمال إستخباراتية عنيفة تطال النشطاء وهي مستعدة لسفك الدماء والزج بالسجون وتشويه السمعة والنفي وليست سياسة شفافة تستطيع أن تحتفظ بأقل قدر ممكن من المبادئ والأخلاقيات والأسلوب السياسي الحضاري. فتستغل الأنظمة ضعف الحركات السياسية وبطش أخواتها في البلدان العربية الأخرى فتدخل على الخط ويقع النشطاء السياسيون في فخ أنظمة لا تدين إلا بالولاء لكراسيها وكراسي أبنائها من بعدها. وعند أي خطر يحدق بها نجدها تضحي بأقرب الناس إليها ومن والاها خلال مراحل نشاطه السياسي العصيب.

رابعا: لم تحسم حركة الإخوان المصرية معضلة التوفيق بين العالمي والمحلي، وهي معضلة تشترك فيها مع غيرها من الحركات التي تطمح إلى العالمية والمد الأفقي لتبذر جذورها في بيئات محلية قد تختلف تماما عن بيئتها الأم، وقد تعرضت الحركة الشيوعية العالمية واليسارية إلى تناقضات تشبه كثيرا ما يحصل على الساحة الإخوانية الحالية. وتتعاظم أزمة الإخوان أكثر من أزمات الشيوعية السابقة، خاصة وأنها تعتمد على مرجعية دينية ربما لا تكون تتمتع بنفس الليونة التي كانت جاهزة للحركات السياسية التي اعتمدت على فكر بشري وإنتاج إنساني. من هنا تصطدم الحركات الدينية السياسية بمواقف أفرادها الذين يظلون أكثر قربا للنص وآخرين يتحركون سياسيا وربما يكونون أكثر ليونة من منظريهم المنغمسين في نصوصهم الدينية. وإذا أضفنا إلى ذلك الانقسام بين مواقف إخوان الرفاهية ومواقف إخوان الشدة نجد أن الحركة السياسية الإخوانية غير قادرة على احتواء التشظي الحاصل تجاه الأحداث السياسية العربية. وليس من السهل على هذه الحركة أن تستوعب املاءات البلدان المحلية وتحل معضلة علاقة الحركة الأم بفروعها في كل بلد. وان أضفنا إلى ذلك سوط القمع على الساحات العربية من محيطها إلى خليجها سنجد أن الحركة الإخوانية ستقع فريسة أعداء مختلفين ومتعددي الاتجاهات والأهواء، رغم كونها استطاعت أن تثبت وجودها في معظم الدول العربية على المستوى الشعبي والنخبوي.

ويبدو أن أشد الأخطار المحدقة بالحركة هو الدور السعودي لأنه دور قوي ومدعوم ماليا ومؤسساتيا، وان كان للسعودية فضل كبير على الحركة وكوادرها في السابق، إلا انه دور مرهون بمصالح النظام السعودي الآنية وقابل للتحول والتغيير متى كان هذا ضروريا، وعند الفرصة المناسبة. وان ظلت حركة الإخوان تتخفى خلف دعوات أسلمة المجتمع من خلال برامج الدعوة والإرشاد فستظل رهينة برنامج واحد تنافسها عليه حركات إسلامية أخرى كثيرة ومتشعبة. وعندما يدق ناقوس الخطر في معبد الأنظمة ستعتمد هذه الأخيرة على مثل هذه الحركات لتحدث انقسامات ليس فقط بين الحركات المختلفة بل في داخل هذه الحركات نفسها، وهذا بالفعل ما تشهده الساحة السياسية الإسلامية حاليا. لقد استطاعت الأنظمة أن تفتت التيار الإسلامي من الداخل ومن الخارج تماما كما فعلت عندما تصدت لمواجهة الحركات اليسارية والقومية السابقة. خلال العقود القادمة سنشهد تبعات هذه السياسات التسلطية. وان أضفنا إليها الإنشطارات الطائفية والمذهبية والتي تنخرط في معاركها الحركات الإسلامية ذاتها فنكون قد أفسحنا المجال لحروب أهلية داخلية لن تنجو منها المنطقة العربية، وخاصة تلك البلدان التي نشهد بها تصعيد الانقسام الطائفي المقيت الذي رسخت جذوره في أكثر من منطقة.

:::::

كاتبة وأكاديمية من الجزيرة العربية