في مناهضة التطبيع: تطوير مفهوم التطبيع تاريخياً

ملخص محاضرة:”تطوير مفهوم التطبيع تاريخيا”ً (*)

للدكتور عادل سمارة في رابطة الكتاب الأردنيين ـ عمّان

(يوم 2 ديسمير 2009 )

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2094 )

مساء الخير،

شكراً للدكتورة هدى فاخوري، على الترتيب والدعوة والتقديم، وشكراً لحضوركم، وإن كان هذا واجبنا جميعاً، وآمل أن، أقدم ما يضيف لمعرفتكم الغنية شيئاً.

حين نخرج من الأرض المحتلة إلى بلد عربي يشدنا شعور الاستراحة من ذل الاحتلال، تشدنا عاطفة عروبية، يغض النظر عن الأنظمة. نعم هذا أوَّل ما ننشدُّ إليه. فما الذي يشدُّ العرب الذاهبين إلى الوطن المحتل؟ الذاهبين إلى المذلة هناك؟ إذا كانت ما تشدهم هي المشاركة في الذلَّة، فليس هذا ما نريده لهم ولنا!

نحن نحتمل الذل الحقيقي، منا من يقاوم وبدرجات، ولكننا نحتمله لأن البديل المعروض هو الرحيل. لذا، فاختيارنا كان وظل صحيحاً، المقاومة وليس الرحيل. وهنا ينطفىء معنى الذل.

لكن مَنْ يأتي كعربي من معابر الاحتلال، ليس بالطبع آتٍ للمقاومة، فما عساه يفعل غير أن يسجل الذل ويمضي!.

قد يعتقد البعض أنه آتٍ للتضامن معنا. ولكن ، هل يسمح الاحتلال للمتضامن أن يعيشوا في الأرض المحتلة؟ فنحن يهمنا الوجود البشري. إذا كان هناك من سمح له الاحتلال كعربي أن يعيش في الوطن المحتل، فليخبرنا، عندها يكون أمرأ آخراً.

بعد 42 عاماً على الاحتلال الثاني، وأكثر من 61 عاماً على الاحتلال الأول، كلما نرى جنديا نشعر بالمذلة، ونحن نراه كل يوم، وحين لا نراه يتبدى لنا قصداً، وبشكل منهجي . لماذا لا يشعر القادمون العرب بذلك؟ أم أنهم مستثنيين منه؟ وإن حصل فهل هذا امتياز؟

هل لا يخضعون لدوريات التفتيش والحواجز؟ هل يجرؤ احدهم أن يقول للجندي الإسرائيلي، تصريحي من السلطة؟ لا علاقة له بسلطة الاحتلال. ربما عندها ، وعندها تحديداً يعرف أن السلطة والسيطرة هي للاحتلال.

في عام 1997 حصلت من السلطة الفلسطينية على رخصة بناء لمزرعة تخصني، استكملت حينها كافة الشروط الصحية والملكية، وما يتعلق بالآثار…الخ. ذات يوم فوجئت بدوريتين لجيش الاحتلال:

– لقد علقنا على هذا العامود تبليغا لك . هل قرأته؟

– لا

– لماذا، ليست هوايتي قراءة ما على الأعمدة

– هذا تبليغ آخر

(التبليغ من عامودين بالعربية والعبرية يطالبنني بهدم المزرعة على حسابي الخاص لأنها بدون ترخيص)

قلت: لدي ترخيص من السلطة.

قال: اية سلطة؟

قلت: الفلسطينية

قال: يبدو أنك لا تعترف بالدولة!

قلت: هناك في العالم 200 دولة، ماذا تقصد؟

قال: اسرائيل

قلت: أنا أخذت رخصة من السلطة الفلسطينية في منطقة (أ) التابعة لها.

قال: هذه ليست سلطة

قلت: إذن ألقوا بها إلى الجسر شرقاً، وأتعهد بإكرامك!

بعد تعيين المحامي حسني ابو حسين من أم الفحم (احتلال 1948) حصلت على ورقة بتعليق الهدم، وحتى الآن.

فلمن السيادة إذن؟

التطبيع: لماذا الآن وبتشدد

من اللافت حقا اننا بعد 42 عاما على الاحتلال لم نبلور موقفنا كعرب، وبالعموم لمناهضة التطبيع. فهل يعقل هذا أن نتأخر عن قضية مركزية أربعة عقود، لا بل ستة عقود!

قد نختلف من شخص لآخر على تعريف التطبيع، ولكن أي وقوف غير مشتبك مع العدو هو تطبيع، اشتباك من السلاح حتى الفكر. لذا، يعرف كل شخص إذا صح هذا المعيار أنه طبَّع أم لا، الشخص نفسه هو الذي يعرف ممارسته في السر والعلن. وهذا هو الجانب الضميري الذي لا يقرأه أحد في أحد.

وإذا اتفقنا أن العلاقة بالاحتلال هي علاقة صراع، فيجب أن يكون بمختلف المناحي بما فيها مناهضة التطبيع.

يجادل بعض الإخوة/ات فيما يخص التطبيع مقلليت من جدواه وفعاليته مقارنة بالكفاح المسلح مثلا!

ولكن علينا أن نتذكر، أن للمقاومة أوجهها العديدة، مستوياتها العديدة، ووسائلها العديدة. وهذه متكاملة متوازية وليست تبادلية. لا تحل واحدة محل الأخريات. ورغم أن الكفاح المسلح هو الأساس، إلا أن تغييبه لأشكال المقاومة الأخرى مقتل له هو نفسه. لا يمكن لطرف أن يتخصص في مناهضة التطبيع وآخر في الكفاح المسلح وثالث في لون آخر. الأساس أن يؤمن كل طرف بكافة اشكال المقاومة. والمهم لا يمكن لمن يقاوم بالسلاح أن يمارس التطبيع الثقافي والاقتصادي. وإن حصل، فهذا نضال البعد الواحد في أرقى أحواله.

فالكفاح المسلح اليوم في حالة انحسار، فهل يعني لأن من مارسوه ليسوا ملزمين بمناهضة التطبيع! هل يمكن للمحارب أثناء استراحته أن يستهلك منتجات الاحتلال، أو أن يسمح له باختراق المجتمع ثقافيا واقتصادياً!

لماذا لا يتم النظر إلى والتعاطي مع مختلف اشكال المقاومة الأخرى:

· المقاطعة كدرجة من مناهضة التطبيع

· مناهضة التطبيع

أما واللحظة هي باردة تجاه الكفاح المسلح، فلا بد إذن من تشديد مقاييس مناهضة التطبيع حتى لو ظُلم البعض. فالقضية قضية وطن لا أفراد.

لست بصدد المبالغة في الموقف ضد التطبيع، فهو نضال الحد الأدنى، لكنه يؤسس عادة بناء المجتمع وتصليب مواقف الناس. لا سيما في حقبة التراجع.

بلدوزر التطبيع

تفيد اية قراءة لاتفاق أوسلو أنه قرار من سلطة تل ابيب بالسماح لفصيل أو حزب فلسطيني بالعمل في جزء (كانتون) من فلسطين (يسمونها إسرائيل) لقاء اعترافه بدولة إسرائيل. هذا جوهر اتفاق أوسلو (اسميه : أوسلو- ستان) لا سيما إذا قرأناه على ضوء التجرية منذ 1993 وحتى اليوم. وعليه، فاتفاق أوسلو هو اتفاق تطبيعي جوهرياً. فما كان لسلطة الحكم الذاتي أن توجد لولا هذا الاتفاق، وهذا الاتفاق له شروطه.

ولعل أوضح شروطه أنه ليس استقلالاً ولا سيادة.

لقد حاول كثير من المثقفين الفلسطينيين وحتى العرب دحش نظريات ما بعد الاستعمار في الثقافة الفلسطينية المتعلقة بأوسلو، هذا دون أن يتنبه هؤلاء إلى أن أوسلو ليست حالة ما بعد الاستعمار. فالاستعمار الاستيطاني موجود ويتوسع، هذا ناهيك عن أن كثيرا من الدول التي اقيمت في حقبة ما يسمى ما بعد الاستعمار لم تعبر هذه المرحلة بعد. وعليه فالإشكالية هي لدى هؤلاء المثقفين الذين تم إلحاقهم كقشرة ثقافية بالقشرة السياسية ليس اليوم، بل منذ سني م ت ف الاولى وحتى اليوم. فأصبح هؤلاء مثقفي تطبيع.

كما جادل هؤلاء بأن ما بعد أوسلو هي نهاية مرحلة التحرر الوطني وبدء مرحلة التحرر الاجتماعي! وهذا بلا اساس. فالوطن محتل بأجمعه، والاستيطان حتى في الضفة الغربية لم يتوقف، والسيادة على الأرض والمعابر والهواء بيد الاحتلال. فكيف يجيز هؤلاء لأنفسهم القول أن مرحلة التحرر الوطني قد اكتملت؟

ومع ذلك لم نلمس أن سلطة الحكم الذاتي قد شرعت في مشروع تنموي يمكن تسميته (على القل تسميته) بناء الدولة Nation-building

وهل يمكن الحديث عن اكتمال التحرر الوطني وبناء دولة تحت استعمار استيطاني؟

عام 1989 بدأ الاحتلال بالحديث مع مثقفين وسياسيين من الأرض المحتلة تمهيداً للمفاوضات، كنت ممن طُلبوا إلى الحكم العسكري لهذا الأمر. ملخص الحديث كان:

قال: ماذا تعتقد أننا سنعطيكم؟

قلت: ما فوق حكم ذاتي وما دون دولة حتى في الضفة والقطاع.

قال: نعم مجرد كانتون في دولة إسرائيل.

فهل حصلنا على اكثر من هذا؟ وهل الدولة التي يدور الحديث عنها الآن، هي أعلى من سلخ يافطة الحكم الذاتي ولصق يافطة دولة؟؟؟

هذا ينقلنا إلى خبرة الفلسطينيين في تشويه المصطلح، وتلبيسه معان مختلفة ومرتبكة وغير حقيقية مثل:

ـ الدستور، والموجود قانو اساسي؛

ـ أو تحرير المدن بعد أوسلو وهو إعادة انتشار جيش الاحتلال؛

ـ والمجلس الشتريعي وهو حسب أوسلو (مجلس الحكم الذاتي) فلا يجوز لهذا المجلس التشريع على ألارض.

لقد أدى إلحاق الثقافي بالسياسي إلى موات الحركة الثقافية، ولذا، حين فتحنا اعيننا لمواجهة التطبيع، وجدنا العديد من المثقفين وقد غدوا الأدوات التنظيرية لبلدوزر التطبيع اي سلطة الحكم الذاتي. ولا أعتقد أن هذه السلطة تخفي انها تقوم بالتطبيع الشامل والمتواصل.

من هنا فإن أوسلو مشروع تطبيع. إذا لم يكن الاعتراف بالكيان تطبيعاً فما هو التطبيع إذن؟

وعليه، فأي قدوم إلى اراضي المحتلة حتى لو حمل التصريح رجل من السلطة إلى الاحتلال وحصل على موافقة عليه، فهو تطبيع لأن الأمر الأهم ليس الخاتم بل ختم الذاكرة، الكرامة، النفس، والعقل للقادم ولمن ورائه (زوجة، ابن، بنت …الخ) معنى هذا الخاتم ان حامله لا يقاوم. ليس المهم ختم جواز السفر، جواز السفر ينتهي ويرمى.

وهنا أود التفريق بين فلسطين عادي يزور أسرته في الأرض المحتلة، وبين فلسطيني في الخارج هو ممثل مؤسسة أو له رموزية معينة. فالرمز لا يطبِّع!

أما بالنسبة للعربي بلا معنى لدخول المواطن أو الرمز أو ممثل المؤسسة إلى الارض المحتلة. وإذا كان المقصود التضامن مع السجين، فهذه مذلة للمتضامن لأن الساس تحطيم السجن وغخراج السجين وليس القبوع إلى جانبه. كأننا صرنا أمام حشر 300 مليون عربي في سجن فلسطين. الأساس لدى العرب هو تحرير فلسطين وليس البكاء عليها أو الدخول السلبي إليها. والأساس في فلسطين هو المقاومة.

لماذا هناك تطبيع في الأرض المحتلة؟

يقول البعض أنه لا مجال لرفض التطبيع في الارض المحتلة. هذا ليس قانونا عاما.

إذا وجدت ثقافة الاحتجاج والرفض يمكن ممارسة رفض التطبيع في مجالات عديدة وهناك ما يصعب التغلب عليه.

الانتفاضة الأولى : لماذا انجزت؟ ألم تُنجز اساساً بمقاطعة منتجات الاحتلال؟

هل السبب غياب السلطة؟ أعتقد نعم. للأسف، لقد اصبح قانونا عاما في الوطن العربي بأن غياب الدولة يعني انفلات قدرة الشعب على المقاومة؟ لا باس.

هل غياب السلطة العربية يؤسس للانتصار والمقاومة؟ لاحظوا تجربة لبنان وغزة.

هل الدولة القطرية عدو الأمة؟ نعم.

لنلاحظ، بعد أوسلو أوقفت السلطة الفلسطينية مقاطعة منتجات الاحتلا بزعم أن هناك سلاماً. ماذا حصل؟ استمر العدو في حربه الاقتصادية وليس السياسية والعسكرية فقط.

أما التطبيع فلم يدر أي جدل حقيقي بشأنه لأنه أحد اهم وظائف السلطة.

لمذا؟ لأنه لا يمكن للسلطة أن تعيش دون علاقة بالاحتلال، طالما الاحتلال باقٍ على كل شبر. لذا لا يمكن لدورها إلا ان يكون تطبيعاً؟

ملاحظة: لماذا تتماسك مصر ضد التطبيع بينما التشكيلات المشوهة تنخرط؟ أقصد تشكيلات كالتي في الأرض المحتلة والأردن، كيانات هشة فقيرة غير منتجة ليست لها بنى طبقية واضحة ولا بنى ثقافية واضحة، ليس قطرا مركزيا، لذا يسهل اختراقها.

وفي هذا الصدد أود الإشارة ايضاً إلى تمرير التطبيع، التطبيع غير المباشر من قبل اليسار الذي يرفض أوسلو ويدخل من خلال وسلو.

من جهة أخرى، أدت أوسلو إلى دحش نصف الحركة الوطنية في مشروع التسوية. ولم يحتج الناس معتقدين أن قيادتهم لا يمكن أن تختار (الغلط) وبقوا سنوات حتى استفاق البعض. هذا يفتح على حقيقة افتقار شعبنا لثقافة الاحتجاج الداخلي الوطني المحلي.

أما الانتخابات الثانية فقد دعت النصف الآخر من الحركة الوطنية إلى أوسلو. وكلنا يرى النتائج.

لقد أدى دخول الحركة الوطنية إلى اوسلو إلى وضع الناس في ارتباك: هل هذا النصف مطبع؟

هناك خلل آخر: فلم تتبلور حركة لمناهضة التطبيع ممن هم ضد أوسلو. وهذا تقصير.

حوامل السلطة كبلدوزر للتطبيع

ملاحظة: حتى قبل مجيىء السلطة، بدأ الاحتلال مشروع التطبيع بأن قطع منافذ التصدير والاستيراد منذ 6 حزيران 1967، مما ارغم المواطنين بعد قرابة ستة اشهر على شراء منتجات الاحتلال، التاجر للسوق والصناعي للمادة الخام والماكينات والعامل للشغل…الخ، وبالتالي جرت محاولات ربط الناس طبقياً باقتصاد الاحتلال.

وبعد اوسلو، فان ما يوحي بأن التطبيع طبيعي في الأرض المحتلة هو وجود السلطة بحواملها:

ـ وجود 150-200 الف موظف يعيشون من رواتبها التي هي من المانحين الذين جوهر موقفهم توطين اللاجئين وشطب حق العودة وتخليد الكيان، إلى جانب تمويل عربي رسمي عبر المانحين؛

ـ تشغيل كامل لحزب السلطة؛

ـ ومن الحوامل ايضا: إضافة للعامل السياسي بتغييب المقاومة المسلحة هناك،

أما الشرائح الاجتماعية الرأسمالية الثلاثة التي ايدت التسوية فهي:

· الراسمالية البيروقراطية (قيادة المنظمة)

· راسمالية التعاقد من الباطن التي دخلت في مشاريع مشتركة مع الاحتلال

· الرأسمالية المالية ممن كانوا في الخليج والشتات، وهم الآن من ينهبون البلد.

إضافة إلى شرحتين من المثقفين:

· اللبراليون المتغربون

· واليسار المرتد

إلى جانب هذا كله هنا تأثير الإرباك اليومي للمواطن و/أو الاعتماد على التمويل الأجنبي الذي شرط وجوده هو التطبيع، وهذا له اثره طالما يتخلف دور الإنتاج.

ولا بد هنا من الإشارة إلى (رَََيْع) التسوية وهي الأموال التي دُفعت للسلطة مقابل توقيع اتفاقية التسوية، والتي خصصت لهذا الغرض، فقد تم التصرف بها للفساد، ولم يقم أحدا بمحاسبة الفاسدين.

الاحتلال والتطبيع

والسؤال الآن: هل قام الاحتلال بالتطبيع؟

في كتاب إسرائيل الأخرى The Other Israel الصادر عام 1972 عن منظمة متسبين، ورد أن الشبيبة الصهيونية كانت منذ عام 1918 تطارد السيدات اليهوديات اللائي اشترين منتجات زراعية عربية كالبيض مثلا ويكسرونه، ويطلبوا منهن غرس أظافرهن في التفاح العربي أثناء تقليبه للشراء كي يتلف.

وحتى اليوم فالاحتلال يطالبنا بدولة يهودية نقية واعتراف عربي وفلسطيني بها؟ فماذا يقول لنا النقابيون والمثقفون العرب القادمون إلى الارض المحتلة تحت راية الاحتلال؟ هل جاؤوا ليؤكدوا للاحتلال أنه (شرعي)؟

كما اشرت اعلاه دور الفلسطينيين هو المقاومة، دور العرب هو التحرير.

وأخيراً،

حتى نتمكن من التحرير، اقتراحي المتواضع هو التوافق الشعبي العربي عبر منظماته القاعدية على عقد مؤتمر شعبي لمناهضة التطبيع وتشكيل هيئة تمثيلية دائمة له على أن تكون سكرتاريا ذلك في الأردن.

:::::

* يستطيع القارئ أن يستمع الى تسجيل صوتي لهذه المحاضرة على موقع:

www.Jordandays.com

الرابط:

http://www.jordandays.com/showVideo1.aspx?VidId=839