استراتيجية هروب… نهاية حقبة كونية!

عبداللطيف مهنا

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2095 )

بعد تفكر وتحسُّب وتردد، وثلاثة أشهر وعشرة اجتماعات لمجلس أمنه القومي رافقتها التسريبات الممهدة، أعلن الرئيس الأمريكي أوباما استراتيجيته الأفغانية. بدى فيما أعلنه للأمريكان “جمهورياً” أكثر منه “ديمقراطياً”، وللعالم ليس أكثر من بوش مكرراً. وفيما طرحه تكررت ذات الاستراتيجية العراقية في هذه النسخة الأفغانية… في الجوهر هو أعلن خطوة تصعيدية إلى الأمام للتراجع خطوتين هروباً إلى الخلف. كانت إعلان عن فشل مشروع… استراتيجية خروج أو هروب للتخلص من ورطة استنزافية، وتبعات حرب تتعاظم كلفتها مادياً، وتتضاعف بشرياً، ومصيرها مآله الفشل.

من الآن فصاعداً، الحرب الحقيقية بدأت على سفوح جبال الهندكوش، ثلاثون ألف جندي إضافي سيرسلون إلى ساحاتها، يردفهم ما تيسر من شحيح ما يجود به الحلفاء من جند. أو هؤلاء الذين عليه بذل الجهد الجهيد في إقناع من لا يزال من الممكن إقناعه منهم بالاستثمار في مناقصته الاستراتيجية هذه. وإقناع الأمريكان بجدواها والكونغرس بتمويلها. قال أوباما المحارب: مهمتنا هناك هي “تعطيل وتفكيك وهزم القاعدة في أفغانستان وباكستان، ومنع قدرتها على تهديد أمريكا وحلفائها في المستقبل”. كلام من ذاك الذي كنا نسمعه أيام سلفه سيء الصيت، والمختلف فيه عنه هو فحسب مستجد الإضافة الباكستانية… وكان المختلف أيضاً هو في قوله: “إن أفغانستان لن تضيع، لكنها عادت سنوات إلى الوراء”. بوش كان قد أعلن انتصاره واستعادة أفغانستان قبل أن يبدأ غزوه لها، أما أوباما فكل ما يعد به هو عدم إضاعتها، معترفاً بأن من أفضال بلاده عليها هو إعادتها سنوات إلى الوراء… أما ما اتفق فيه هذا المحارب الحائز على نوبل للسلام، الذي لم يسجل له إنجازاً سلامياً من أي نوع، مع سلفه الاستباقي فهو القول بأن “الصراع سيمتد إلى أبعد من أفغانستان وباكستان”!

دق أوباما ناقوس الانتقام واصفاً حربه بالاضطرارية. صاح ذات صيحة الثأر البوشية، عندما استعاد ذكرى الحادي عشر من أيلول سبتمبر، وبشرنا وزير حربه روبرت غيتس بمزيد من الدماء التي ستراق في الثمانية عشر شهراً الموصلة إلى بدء الانسحاب الذي لم يلحظ جدول أوباما الزمني نهايةً له… تماماً كما هو الحال في العراق. توقع غيتس: أنه “مع عودة الربيع وزيادة التزامنا في البلاد، سترتفع حصيلة القتلى من جديد بكل تأكيد”. أما الجنرال ماكريستال فوعد حكومة كابل ذات السمعة والصيت إياه بالنصر!

إذن، نحن إزاء تصعيد وبانتظار تدمير ما لم يدمر بعد في أفغانستان، هذا إن بقي هناك ما لم يدمر. هذا يذكرنا تماماً بما فعلوه في فيتنام عندما شعروا بأن الهزيمة هي قاب قوسين أو أدنى منهم. يومها قرروا حرق الأخضر واليابس قبل مغادرتها توطئةً وانتقاماً وتعويضاً، أو ما عرف باستراتيجية الأرض المحروقة… تصعيد وتدمير سوف يعقبه انسحاب موعده العام 2011… وماذا بعد؟

بعد تعليق الفشل على حكومة كابل، وتهديدها بأن لا شيكات على بياض بعد اليوم، إن هي لم تكف عن فسادها وتحاربه، وهم، كمحتلين، المسؤولين عنه وعنها معاً، ويكون دورها في خدمة هذه الاستراتيجية بمستوى مقاصد المحتل النبيلة وجهود الغزاة الطيبة، ونواياهم الحسنة في البدء بصناعة “صحوات” أفغانية، وكل ما يسهم في بناء قدراتها الأمنية للقيام بواجبها المطلوب نيابة عنهم في هزيمة طالبان الذين فشلوا في هزيمتها، يأتي دور “الشريك” الباكستاني. هذا الذي ساعدهم ذات يوم في رعاية البدء بإطلاق الشرارة الطالبانية، ومن بعد تحالف معهم في إسقاط حكومتها ويدعم الآن حربهم الجارية معها، ليكتوي اليوم وإلى ما شاء الله بسليلتها الباكستانية… الحليف الذي وضعوا استراتيجيتهم هذه دونما حتى تجشم عناء مشاورته… أوليست هذه هي عادتهم دائماً مع حلفائهم وأصدقائهم والمتعاقدين معهم والمراهنين عليهم؟!

جمعت استراتيجية أوباما، أو خريطة طريقه للخروج من المأزق الأفغاني، بين استراتيجية ماكريستال العسكرية وإطلاق أيادي الCIA السوداء في مكافحة ما يسمى “الإرهاب”… توخت وسطية من شأنها إرضاء جموح العسكر وعدم إغضابهم وراعت عدم شعبية الحرب في الشارع الأمريكي. أسباب كونها على هذا النحو تكمن في أن أوباما يصطدم بعقد أربع، سوف يكون لها، إلى جانب تأثيرها على مصيره الرئاسي، استحقاقاتها الامبراطورية التي سوف تسفر تداعياتها عن أمريكا غير هذه التي كانت بالنسبة للعالم. أولها، تطال هيبة ودور ونفوذ وأمن هذه الامبراطورية كونياً، وثانيها، صعوبة وعدم جدوى مواصلة حرب فاجرة فقدت شعبيتها وانقسم الأمريكان حولها واختلفوا حول مقاربة الوضع الأفغاني برمته وظهر أن مآلها هو الخسارة المؤكدة. وثالثها، تراجع شعبيتة بتراجعه عن وعوده الانتخابية التغيرية، وانعكاس ذلك على شعبية الحزب الديمقراطي، هذا الذي أغضبت استراتيجيته المعلنة غالبيته بقدر ما أرضت غالبية منافسه الجمهوري. ورابعها، كلفة هذه الحرب الباهظة وثقلها في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة التي تعيشها بلاده… ثم، وإلى جانب الخشية على باكستان، أوليس هناك من خشية لدى زعيمة الغرب على تماسك الأطلسي وتصدعه إن هي طالت؟!

ستكون الأشهر الثمانية عشر القادمة، التي سوف تسبق موعد بدء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان طويل الأمد ووفق شروطه المعلنة، أشهراً هي الأشد دموية والأعنف تدميراً التي تشهدها ساحة هذه البلاد المنكوبة التي طال نزفها. فور إعلانها، تم بدء تنفيذ استراتيجية أوباما، وتم بدء ارسال طلائع الجند المقرر ارسالهم، وازداد الضغط والالحاح على الحلفاء علهم يقومون بارسال ما يجودون بقليله من جنودهم كتغطية سياسية، ولو كان المرسل المجاد به لا يتعدى المئات منهم… الأطلسيون استجابوا، أعلن راسموسن أنه دوله الخمسة والعشرين مجتمعة سوف تنجد الحليف بارسال ما قد يصل مجموعه السبعة آلاف!

… الأشهر الثمانية عشر في ظل مثل هذه الاستراتيجية الأوبامية ستذكر الأمريكان بحقيقة ليس من السهل عليهم نسيانها، وهي أن الفيتناميين ورغم استراتيجية الأرض المحروقة، شأنهم شأن كل مواجهي الغزاة عبر التاريخ، كانوا الأكثر تضحية وإقداماً وإصراراً على القتال عندما أحسوا باقتراب يوم النصر… قبل أيام من إعلان أوباما لاستراتيجيته الأفغانية، أطل الملا عمر واعداً الأمريكان باقتراب موعد ملاحقته لفلولهم وهي تهرب من ذات اللعنة الأبدية التي طاردت تاريخياً غزاة جبال الهندكوش… ثم أوليست هذه الحال الأمريكية التي تبدت عبر هذه الاستراتيجية سوف تدفع الحليف الباكستاني، الذي ابتلى بتحالف فرض عليه نقل الحريق إلى داخل بيته، إلى التفكير: وإذا أزمع الحليف الغازي على الرحيل وعادت من ثم تلك الأيام الخوالي التي سبقت قدومه لأفغانستان، أوليس من مصلحتنا من الآن تلمس سبل تواصل مع هؤلاء الجيران العائدين منتصرين إلى هذه الجارة قد يقينا بعض شر ما قد تحمله الأيام القادمة بوصولهم؟! ثم أو لا يدعو هذا المآل الأمريكي شرائح أفغانية كانت قد تحالفت مع الغزاة إلى تلمس أعناقها وبالتالي محاولة إعادة صلة رحم قطعت مع أخيهم المنتصر الذي أجبر الغزاة على الرحيل؟!

… استراتيجية أوباما الأفغانية خريطة طريق إنقاذية معقدة قد تطول خطوطها طولاً وعرضاً ومآلها الفاشل هو أكثر وضوحاً منها شعارها المرفوع القائل: “لن نغادر أفغانستان لتسقط” في يد طالبان… وهي في كل الحالات إعلان صريح ببدء نهاية الحقبة الكونية الأمريكية!