نوبل للمحارب… وأمثلة أخرى!

عبداللطيف مهنا

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2101 )

نحن نعيش حقبة دولية وأياماً عربية لا سابق لهما، ربما لكي تفهمها ويأخذك هذا الفهم إلى ما بعدهما فلا بد لك سلفاً من أن تنحي من حساباتك المنطق جانباً، وأن يدير ذهنك ظهره للمعقول احترازاً، كما وأن عليك أن تمرن النفس وتعدها محتاطاً لتوقع ما كنت قد لا تتوقعه أو حتى تتخيله. هل في هذا بعض من مبالغة في قراءتنا لما يدور من حولنا وبين ظهرانينا، أم فيه بعض من مغالاة في التشاؤم؟!

ربما. لكن، لنحتكم إلى مجرد حفنة مختارة من الأمثلة الطازجة. بعضها الدولي والآخر المحلي، لنرى ما إذا كان بإمكاننا الإجابة على سؤالنا هذا بالموافقة أم بالنفي!

خلال الأيام القريبة المنصرمة شُغلنا، أو شَغَلنا الإعلام بنقله لنا لأربعة أحداث قد نجد فيها ضالتنا المنشودة. بعضها لاكه واجتره لأيام، والآخر نحاه ما تم التركيز عليه جانباً وطغى عليه، وتناساه ناقله. وبالتالي، لم نتوقف أو لم يشاء أن يوقف الإعلام أغلبنا عنده… لنبدأ بآخرها زمنياً، لسخونته وطرافته وإثارته، أو الذي لا يزال يثير لغطاً وتفكهاً… لقد جاءنا من أوسلو ما يلي:

تم منح جائزة نوبل للسلام للرئيس الأمريكي المحارب الذي يقود حربين دمويتين معاً، ومواصلتة لحرب سلفه الكونية الشاملة على ذاك العدو اللامرئي المكنى ب”الإرهاب” حتى النصر… مع أخذ المانحين في الحسبان أن الممنوح المحظوظ بهذه الجائزة هو مستجد في السلطة التي لم يمتط سنامها إلا قبل ما يقل عن العام، كما لم يحقق بعد سلاماً مرتجى كافؤه سلفاً عليه، اللهم إلا مع أولئك المحافظين الجدد في بلاده، بتبنيه لاستراتيجية سلفه المذموم في حربيه العراقية والأفغانية، ومواصلته من بعده ذات أم الحروب الاستباقية العظمى، أو حربه الكونية على العدو شبه الخرافي “الإرهاب”!

وقف الرئيس الأمريكي المحارب باراك حسين أوباما في أوسلو الكريمة يتنازعه مزيج من البهجة والزهو والارتباك وعدم التصديق… وقف مستلماً شهادة الجائزة العتيدة التي خط فيها ما منحوه لمن رأوا أنه يستحق، مرفقة بميدالية ذهبية وشيكاً مليونياً من الدولارات، كان هذا تقديراً منهم وتشجيعاً له ولبلاده على ما هما فيه من مآثر دموية سلامية استحقت لأجلها مثل هذه اللفتة الاسكندنافية… مثلاً:

وهو يستلم الجائزة كان ما يقارب النصف مليون جندي من جنوده، وما يلزم لاستخدامه من أكثر وسائل الموت تطوراً وتعقيداً في البر والبحر والجو، أثبتوا أنهم يمارسون بها مهامهم السلامية في العالمين العربي والإسلامي بجدارة واحتراف… وفي ذات الوقت، كانت طائراته التي بلا طيار تسفك بتقنية عالية الدقة دماء عائلة أفغانية أو باكستانية، حيث لا فرق هذه الأيام عندها هناك… لا فرق على جانبي الحدود بين عدو يقاوم محتل أو حليف ابتلي بتحالفه مع هذا المحتل… عائلة صدف أن تحول منزلها المنكود هدفاً سهلاً لتجاربهم التدميرية السلامية.

أوباما المحارب الذي حصل على الجائزة الشهيرة، رد على التحية السلامية بأحسن منها. برر كامل الحملات العسكرية الامبراطورية، أو تلك الغزوات والاحتلالات، وجاري الأيام الدموية الأمريكية التي ورثها عن السلف الصالح وواصل ادارتها وقيادتها. أحصى العالم المستمع في كلمته الشاكرة لمكرّمية كلمة الحرب فقط 44 مرة، وابتدع فيها مصطلحات جديدة مثل، “الحرب العادلة” و”الحرب الضرورة”. فاخر بأن بلاده المحاربة هي “حاملة لرسالة المعايير في سلوكيات الحرب”، وأن التزامها بما تحمله “هو ما خلق الفارق بينها وبين أعدائها”… ما هي هذه المعايير؟ قال أنها ما تحكمه المصالح والأخلاق… ما هي هذه المصالح وهذه الأخلاق؟ إنها ذات المصالح الامبراطورية المعروفة لكل ضحاياها في العالم والتي لا تحتاج لسرد أو تبيان. أما الأخلاق فتلك التي تبدى منها ما تبدى في معتقل “أبو غريب” العراقي، و”باغرام” الأفغاني، وذاك الذائع الصيت “غوانتينامو”… وما كان من خبر السجون الطائرة، ومن تلك المموهة في جوف غابات بولونيا، وسواها من تلك المبثوثة في بعض أركان الكرة الأرضية، المختبئة تحت أعلام بلدانها… كان أوباما شفافاً على الطريقة الأمريكية وتحدث بنزاهة امبراطورية للمصفقين له في أوسلو، قال لهم:

وأنا بينكم أرسل الآن جنودي إلى أفغانستان. منهم “من سيَقتُل ومنهم من سيُقتَل” ولا بأس في هذا، لأن “أدوات الحرب لديها دور تؤديه في الحفاظ على السلام”… “والأكيد أنه ستقع حروب” قادمة!!!

الحدث الثاني، بدأ أيضاً بمأثرة اسكندنافية… بالمناسبة، اتفاقية أوسلو أيضاً كانت من المآثر الاسكندنافية… أما هذه المرة فجائتنا من استوكهولم، العاصمة التي ترأس راهناً الاتحاد الأوروبي. حاول السويديون أن يتمايزوا عن سواهم أو يكونوا أكثر إنصافاً ولو قليلاً، وللحق هم نسبياً دائماً كذلك، قدموا مقترحهم ليعتمده وزراء خارجية الاتحاد… كان باختصار التأكيد على ذات المواقف الأوروبية المنافقة أو الإيهامية حيال الصراع في بلادنا. تلك التي لحمتها وسداتها حقيقتان في الجوهر كانتا عتيقتان، وظلتا جليتان. كانتا دائماً ذاك الانحياز النهائي، إلى الجانب الإسرائيلي، لكنما المموه عبر المواقف التي تصاغ إعلاناتها بتحايل لفظي يوحي للواهمين ببعض من التمايز الشكلي عن المواقف الأمريكية. والتي تنحو في حقيقة الأمر إلى التكامل مع هذه المواقف، أو التي لا يلبث أصحابها من اللحاق بالركب الأمريكي في نهاية المطاف… لم يكن هناك من جديد في البيان الأوروبي، وهذا ما قاله الإسرائيليون المعبرون عن رضاهم وأسفهم معاً تعقيباً، لاسيما بعد أن أجهز تعديل وزراء خارجية الاتحاد على ذاك التمايز السويدي المقترح في البيان الذي يقول بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية “المقبلة”، ليحول القدس إلى “عاصمة مستقبلية” للدولتين… وأبقوا على كلام من قديمهم الجديد عن حدود 1967، وعدم الاعتراف بضم القدس… كلام حتى الأمريكان لا زالو نظرياً يقولون بمثله، وحتى يشاركهم فيه بعض الإسرائيليين… الأوروبيون اقتصر جديدهم على جب ما قبله، بإعرابهم عن دعمهم للجهود التي تبذلها الولايات المتحدة لاستئناف المفاوضات حول الوضع النهائي، بما في ذلك المشاكل المرتبطة “بالحدود والقدس واللاجئين والأمن والمياه” وربطوا كل هذا بتوافق الطرفين المُحتل ومن يحتله… وطالبوا بتفكيك “كل المواقع الإسرائيلية التي بنيت في الضفة الغربية منذ العام 2001″… بمعنى، الموافقة ضمناً على ما بني قبل ذلك!!!

… لم يزد التحرك الأوروبي التقليدي المنافق على كونه يأتي ضمن دور مطلوب في سياق ما عبر عنه وزير خارجية السويد معقباً على تبني مقترح بلاده معدلاً، بقوله، “إن البيان يعد مؤشراً مشجعاً للأهمية السياسية للاتحاد الأوروبي في المنطقة”… أما الهدف منه، فهو محاولة الإيهام بأن حكاية المرحومة “عملية السلام” لا زالت قيد التداول، أو هي لا زالت حيّة بعد أن دقّ نتنياهو آخر المسامير في نعشها، وصادق تراجع أوباما على قرار دفنها… خلاصة التحرك الأوروبي تكمن في ما قاله وزير خارجية ألمانيا، المعبرة عن سعادتها “لتخفيف” البيان الأوروبي، عندما قال: “لا يمكننا أن نفرض نهاية المفاوضات من خلال فرض الشكل الذي ستكون عليه أراضي الدولة الفلسطينية في المستقبل. نحن قلنا هذا غير ممكن. وهذا يتفق مع العلاقة الخاصة بين ألمانيا وإسرائيل”…

المثالان الباقيان التاليان، هما ما كنا وصفناهما بالمحليين، وهما على التوالي، الإسرائيلي والعربي. الأول، هو الرد الإسرائيلي على البيان الأوروبي، المتمثل في ما عرف بقانون الاستفتاء على أي انسحابات قد تتخذ من الأراضي العربية المحتلة أو تنجم عن المفاوضات، والذي أقره الكنيست بأغلبية مطلقة وبإجماع كافة أطراف الإئتلاف الحاكم، وحتى من كانوا يعارضونه من وزرائه، والذي عقب عليه نتنياهو: “إننا نخوض صراعاً دائماً على خارطة كل إسرائيل”… ثم قراره اللاحق المنسجم مع طبيعة هذا الصراع، وهو، اعتبار “المستوطنات” المعزولة، بمعنى النائية أو الثانوية، مناطق لها “أولوية قومية” أي ستلقى “مكانة أفضلية”، ووفق “معايير أمنية”… وأنباء متوازية عن استحداث بؤرة “استيطانية” جديدة من قبل “المستوطنين” بالقرب من مدينة دورا في منطقة الخليل أطلقوا عليها “نجهوت”!

… الحدث الإسرائيلي يختلف عن سابقيه في كونه منطقياً ويأتي تماماً وفق المنطق الصهيوني، وعليه، فهو لا يخرج عن المعقول أو المتوقع، لأنه إنما يجيء وفق ذات المعايير التي تحكم جاري التطبيقات الإسرائيلية للاستراتيجية الصهيونية إياها، تلك التي لم تتبدل أو تتغير أو تتوقف محاولات تطبيقها حرفياً منذ أن وضعت قبل أكثر من قرن. أو هو يأتي منسجماً تماماً مع طبيعة الكيان الغاصب الذي نجم وجوده عن عملية تحقيق هذه الاستراتيجية المندرجة في سياق الاستراتيجية الأكبر أو المشروع الغربي الاستعماري في بلادنا، وكل ما هو خلاف ما نم عنه هذا الحدث، يظل هو المجافي للمنطق، أو لا يتفق مع المتوقع من قبل الإسرائيليين… لكنما غير المنطقي واللامعقول، وإن كان المتوقع، هو ترحيب سلطة الحكم الذاتي الاداري المحدود في رام الله المحتلة بالبيان الأوروبي، واعتباره من قبل رئيس حكومتها المؤقتة “انتصاراً للشرعية والقانون الدوليين”!

الحدث الرابع أو الأخير، وهو العربي، جاءنا هذه المرة من صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، ونقلت مثله وأضافت إليه تفاصيلاً هيئة الإذاعة البريطانية، ولم يصدر من الجهة المعنية رسمياً ما ينفيه. يقول الخبر، أنه تجري الآن عملية بناء حائط فولاذي ضخم على الحدود المصرية مع قطاع غزة، هو عبارة عن أسوار فوق الأرض وتوغل تحتها، صنعت في الولايات المتحدة، لكي “تسد طريق الأنفاق” التي يتنفس فلسطينيو القطاع عبرها، ولإحكام الحصار أكثر عليهم!!!

هل فيما تقدم بعض ما يجيب قاطعاً على سؤالنا الذي طرحناه بداية؟!

وإذا كان الجواب أن لا من مبالغة ولا ثمة من تشاؤم، فما هو إذن حالنا المفترض حيال ما سردنا؟!

أزعم أنه لابد وأن يكون، التفاؤل… لماذا؟ لأن كل هذا اللامعقول واللامنطقي واللامتوقع الراهن، إن كان دولياً أو محلياً، إذا ما أخضعناه للمنطق والمعقول والمتوقع، لا ينبئ بسوى شيء واحد، ولن يتمخض إلا عنه، كما أنه لا بد آت ولن يطول انتظاره، وهو، إن دوام مثل هذا الحال اللامنطق واللامعقول، سواء في عالمنا أو في بلادنا، هو قطعاً من المحال!