الرومانسية الاميركية

كلاديس مطر

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2104 )

تزور الولايات المتحدة الأميركية، كشبح لا مرئي غرف نوم الشعوب ، تحمل مكبراتها والعدسات، وترقب أنفاسهم النائمة ، تتلصص على خصوصياتهم، وتسترق النظر من ثقوب أبوابهم، وتدني أذنها من الهمسات والاعترافات وحركة الدموع وقهقهات الفرح.

انها هناك في ماء المزهريات الصغيرة، وفي لفائف السجاد المليء (بالنفتالين)، في زوايا حقائب الاطفال المدرسية، تقبع مع بقايا الخبز اليابس المكسر والأقلام ، في ظروف الرسائل، في المحبرة، في خوابي زيتنا، في حبكة خيزران كراسينا أمام فسحات أبوابنا المشرعة على الشمس، في هدأة بعد الظهر، وفي دروب العشاق القليلة في قرانا الهادئة.

لا تعاني أميركا من نوبات رومانسية طارئة، ولا خطر ببالها، أن تستلقي لوجه الله، تحت شمس سنابل قمحنا، وتقرأ كتاباً، ولا مر بخاطرها أن تعين سيدة على رفع جرة ماء على كتفها، ولا دفعها الحماس لتساعد طفلاً في حل مسألة حساب صغيرة.

لا تلتفت أميركا إلى سوق رقيقنا المعاصر، ولا يقلقها البتة إن كان للمرأة العربية دور في الحياة السياسية أو أي حياة على الإطلاق، ولا هي معنية بأميتها أو عزلتها أو حجابها، ولا حتى الختان. ولا يعدل في حساباتها المتشعبة الفسيفسائية نسبة وفيات الأطفال في الدول الفقيرة، ولا التضخم السكاني ولا حتى أزمة المياه. ولا هزت عرشها الأوبئة المنشرة ولا ربما الكوارث الطبيعية.

اذاً، ماذا أتت تفعل مع عدساتها المتطورة هنا؟ ولماذا ركزت عيون (غاليله) الميكروسكوبية على مفترق شوارع مدننا العربية؟ ولم كان لها رأي في تصميم جلاليبنا وقبعاتنا الريفية وفساتين النساء؟! ولم استبدلت شراب العرق سوس بالكولا؟ ونوك الجمال بالجعة المزة؟ وحبوبنا بالأجبان المهدرجة البترولية المنشأ؟!!! لماذا تريدنا أن نستبدل الحنان المنزلي بجيوش الخادمات السرلنكيات وحفاضات البامبرز؟ – وأنا هنا أتحدث بشكل رمزي – وطعامنا التراثي بالبيتزا وشطائر الماكدونالدز وأزياؤنا المريحة بمقاسات الجينز الضيقة وخفر بناتنا بعري الأزياء الموحدة ؟!

لا تقض مضجع أميركا الديمقراطية المنقرضة في البلاد العربية …هذه الديمقراطية التي إن تحققت فإنها ستطيح أول ما تطيح بها هي. وليست منكبة كتلميذ دؤوب مثابر على تلقين مفكرينا الملتحين مساوئ الارهاب، وهي المدرسة الأولى المؤسسة للارهاب في العالم والراعية الرسمية السرية له! ولا حتى يرف جفنها من فساد أو سوء اصلاح أو تزوير في انتخابات، ولا حرك سكونها ظلم أو عملية اغتيال أو حتى قنبلة نووية تجريبية صغيرة محت جزراً عن الخارطة!!!!

اذاً، مرة ثانية ماذا تفعل عدساتها والمكبرات هنا في غرف نومنا؟ تحصي أنفاسنا و تعد علينا دقائق يومنا وتشير، حسب قانون عيبها الخاص، لما هو خطأ ولما هو صواب؟!!!

الحق، أن أميركا يجرفها تيار آخر. وأجندتها قد ساهم في خلقها مستشارون أميون لا يعرفون ألف باء ثقافة الدول العربية أو الشرق الأوسط الكبير كما يدعون، ومراكز دراسات استراتيجية لا تعرف أن تقرأ التاريخ أو تقوم برحلة استشراقية ولو قصيرة إلى (الميدان) فتكتب عما تراه، لا عما تظنه أو تتخيله! أقول أن أميركا التي تتلصص بعيون يهودية على مصادر الطاقة والنفط في العالم، بينما تفرك كفيها للحظة الانقضاض، تطرح أجندة (رموز وشيفرات لا تفك) أمام الشعوب العربية والقادة العرب!

لقد نسيت السياسة الأمريكية في حمأة وضع يدها على النفط أن كل الحركات التي ظهرت في القرن الماضي إلى يومنا هذا، وأقصد التاريخ القريب، من البلشفية إلى النازية فالصهيونية ثم الشيوعية .. وحتى ظهور أميركا كقوة قطبية واحدة قد انتهت الى غير رجعة، وأن صيرورة التاريخ قد فككت هذه الحركات ومن بينها الاتحاد السوفيتي القوي كما يفكك طفل عربته الخشبية الصغيرة إلى قطع.

لا نستطيع أن نلوي رقبة التاريخ مدفوعين بسرعة التحرك تحت مبرر (قبل فوات الاوان). فصدام حسين كان يمكن أن يُقضى عليه بأقل الوسائل دموية، إن كان النظام الديمقراطي بالفعل ما تتطلع أميركا لنشره في العالم. ولكن بعد هذا الدخول الاحتلالي المريب طفت على السطح النوايا الدفينة وبدت الأجندة – الشيفرة غير المفهومة للعرب وكأنها هي الغاية وليس احتلال مصادر الطاقة.

لقد تحدثت الأجندة الأميركية عن:

أولاً: عراق مستقل ديمقراطي (وكأنه كان الدكتاتورية الوحيدة في الشرق الأوسط ..)، فبررت التدخل تحت عنوان نبيل لانقاذ أغنى بلد عربي نفطي!

ثانياً: عن قواعد عسكرية أمنية في ليبيا وديمقراطية في كل من السعودية ومصر.

ثالثاً: خلق حالة تعاون اقتصادي سلمي تفاعلي بين اسرائيل وجيرانها العرب وعلى رأسهم الأردن طبعاً.

رابعاً: القضاء على كل المنظمات الفلسطينية الأصولية وغير الأصولية المعارضة لاسرائيل، ولعملية السلام، وأولها حزب الله، عن طريق الضغط عليه وتصفيته تماماً واغلاق مكاتب كل المنظمات الفلسطينية، وفتح الطريق عميقاً أمام توقيع اتفاقية سلام كاملة وشاملة وتطبيعية مع اسرائيل.

خامساً: الخطة الإعلامية الكبرى الترويجية لأميركا في الشرق الأوسط باعتبارها راعية الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان في العالم. وقناة الحرة مثلاً دليل على واحدة من هذه القنوات الترويجية للسياسة الأمريكية باعتبارها النموذج المحتذى.

إن العرب يتلهون اليوم بهذه الأجندة الغريبة السريعة والمفاجئة التي أتت على رؤوسهم بكل تداعياتها كالضربة القاضية، ولم تعد الغاية الأولى للتدخل الاميركي هي الطاغية على الجدل وإنما الخطوات التي أصبحت هي الهدف الذي يحاول الكل مصارعته.

وفي سوريا، كمثال على ذلك أقول، كان سوء التقدير هو المطب الذي وقع فيه أصحاب القرار. فلقد كان الاعتقاد السائد أن تبادل المعلومات الأمنية مع أميركا قبل وبعد أحداث 11 أيلول هو مفتاح الحل بالنسبة لتخفيف الضغط الأميركي عليها. لكن هذا لم يحصل أبداً، فلقد غدا ضرب النفوذ الإقليمي السوري أحد بنود الأجندة الأميركية في المنطقة. فسوريا كانت تمسك كلاً من حزب الله ولبنان، وحتى حماس والجهاد في يدها، كمحاور توازن، بالاضافة الى صوتها القومي العالي المعارض ليلاً ونهاراً للسياسة الأميركية!

والطريف أن أميركا تتأمل أن تلعب سوريا تحديداً دوراً ثابتاً، وواضحاً في تنفيذ أجندتها عامدة إلى (الضغط عليها أو تخفيف الضغط) في لبنان من أجل بعض التنازلات في العراق .. العراق الذي يعتبر سبباً لوجود هذه الأجندة بالأصل.

غير أن أميركا التي تركض في سهول بلاد الشام والرافدين وهي تضع على عينيها عصابة الأمي الأخرق! تثقل كاهليها كوابيس أكثر حدة من تعداد خسائرها البشرية والعسكرية اللحظوية القاسية في العراق وغرقها في مستنقع حساباتها الخاطئة وسوء التقدير!

فسوريا تتمتع بعنصر قوة استراتيجية فعالة لا يمكن اهمالها، فهي دولة علمانية، مستقرة وأمنها الداخلي كدولة، قوي مهما كانت أسبابه، وهو أمر واقع وحقيقي، ولقد كانت بالفعل عامل استقرار في لبنان وحتى في الشرق الاوسط، ولقد كانت بالفعل تحارب الاصولية الاسلامية بالتعاون مع الأميركيين ضد تنظيم القاعدة. حتى أن المفوضية الأوروبية وسورية قد توصلوا في 9 كانون الأول (ديسمبر)2005 إلى مسودة اتفاق الشراكة السورية – الأوروبية، غير أن هذه الدول جمدت توقيع الاتفاق تحت أعذار كثيرة ابتداء من المطالبة بتوقيع سوريا على “جميع” الاتفاقات الدولية الكيماوية والبيولوجية والنووية والجرثومية، ومرورا بموقفها من الحرب على العراق أو موضوع حقوق الانسان وانتهاء بعقدة السلام بينها وبين اسرائيل بينما كان يلوح دائماً قانون (محاسبة سوريا) في الأفق!!!

إنه سوء التقدير الأميركي، كما أنه الانغلاق العربي المقيت على الذات ونبذ ثقافة الآخر والميل للإصلاح! لقد وجدوا في دولنا العربية كل ما يسمح لهم بالتدخل، وعندما وصلوا إلى عتبة باب البيت، كان لا يزال المفتاح في جيبنا فظننا أننا لا زلنا أصحاب الدار! اليوم نحن على العتبة وهم في الداخل، يرتاحون فوق أسرتنا، ويعيدون ترتيب بيتنا وفق هواهم .. لقد تركونا نلهو بالمفتاح مقتنعين أن البيت لا زال ملكنا بينما كانوا يمعنون في جر الأثاث وتغيير الديكور.

قد تبدل المستجدات من تكتيك تنفيذ هذه الأجندة أو لنقل في خطواتها، ولكن الأجندة هي الأجندة وما يجب أن يحسم في العراق لا بد أن يحسم ولو دفع الجميع ثمناً لذلك! إن تسوية شاملة لابد أن تمر كقطار سريع مدجج فوق الجسد العربي المكلوم أصلاً! هذا الجسد الذي يحاول اليوم أن يراهن على شيء من العفة العربية، التي مرت عليها هي الأخرى رياح التغيير الأمريكية.

مرة ثانية، أسأل: ماذا تفعل أميركا بعدساتها والمكبرات المدسوسة في غرف نومنا!