التوظيف السياسي للنبوءات التوراتية: ملاحظات في عبثية خطابنا (الحلقة الثالثة)

د. مسعد عربيد

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2105 )

(2)

النبوءات التوراتية:

عقيدة “العودة” نموذجاً

“العودة”: كذبة تفرخ مسلسلاً من الاكاذيب

الكذب والتزوير ضرورة وسمة أساسية ملازمة لكافة الايديولوجيات العنصرية والفاشية والاستعمارية، وخاصة الاستيطانية والصهيونية. والكذب في هذه الايديولوجيات يتعدى كونه مجرد وسيلة بل يصبح جزءً من طبيعتها وبنيتها، وهو لا يعني لوي عنق الحقيقة فحسب، بل إختلاق وفبركة الحقائق والوقائع وإبتداع المزاعم وتكرارها الى أن تتحول الى مسلمات.

في البدء، كما يوافينا السرد الصهيوني، كان “شعب الله المختار”، ثم كان “المنفى” الذي ولّد حنين اليهود ورغبتهم الازلية في “العودة” الى فلسطين. كانت تلك اولى أكاذيب التلفيق والتزوير، التي إضحت إحدى المسلمات التي يكاد يصدقها العالم باسره، كما يصدق الاكاذيب التي تفرعت عنها. فطالما ان الله قد إختار اليهود ليكونوا “شعبه المختار”؛ فلا بد، ان يكون لهذا الشعب “بلداً”، فكان أن وعد الله هذا الشعب بالعودة الى وطنه ـ “أرض الميعاد” ـ والتي ستبقى بانتظاره. ويسهل بعد ذلك الاسترسال في مسلسل الاكاذيب لتتصب في غاية واحدة: إستدامة وتأبيد “الحلم الصهوني”.

ولم تتوقف الخرافات عند هذا الحد من “النبواءت” التوراتية بل تعدته الى بث التلفيقات التي ادعت ان اليهود سعوا خلال الاف السنين للعودة الى فلسطين. وفي أحشاء هذه الاكاذيب ولدت كذبة اخرى مؤداها انه بفضل الحلم اليهودي القديم والازلي في العودة فان حلم إنشاء الدولة اليهودية قديم أيضاً، وان الصهيونية ـ حاملة فكرة العودة وممثلة تلك الرغبة اليهودية، هي قديمة قدم التاريخ.[1]

هكذا، بايجاز شديد، توالت مشاهد الاكاذيب الصهيونية واحدة تلو الاخرى.

نشأة فكرة “العودة” في العقيدة اليهودية

التزامن بين العودة والصهيونية

يدعي المؤلفون والمؤرخون الصهاينة انه من أجل فهم “العودة” (التي جاءت الصهيونية لتعبر عنها) ينبغي الرجوع الى قديم التاريخ، الى القرن الثامن ق. م. حين سقطت اسرائيل امام هجوم قوات الملك الاشوري سرجون الثاني، في حين يذهب بعضهم الى ان “العودة” رأت النور في مرحلة سبي اليهود بعد هدم الهيكل من قبل نبوخذنصر أي في القرن السادس قبل الميلاد.[2] ومهما تنوعت الاجتهادات، فليس لهذه الاكذوبة سوى غاية واحدة: عقد التزامن والتطابق بين “فكرة العودة” من جهة، والصهيونية من جهة ثانية، من حيث ان هذه الاخيرة جسدت فكرة ومشروع عودة اليهود الى ارضهم الموعودة، فلسطين. وعلى الرغم من سخافة هذا الافتراض، إلا انه نجح في تكريس وتصديق الزعم القائل بقدم رغبة اليهود في العودة الى فلسطين وولادة الصهيونية كفكرة تجسد هذه الرغبة. بعبارة اخرى، فان ما يريد ان يؤكده لنا السرد الصهيوني هو تزامن نشوء “العودة” و”الصهيونية” عبر التاريخ، وهو ما يؤسس لإبتداع “تاريخ يهودي في النضال نحو تحقيق الحلم”. والادلة على هذا الابتداع كثيرة عبر تاريخ الصهيونية، نورد فيما يلي بعضاَ منها:

□ يقول ناحوم سوكولوف: “إنها حقيقة بسيطة…. بدأ تاريخ اسرائيل بالصهيونية. ويبين هذا التاريخ في الازمنة السحيقة طريق تحقيق الصهيونية… فالخروج من مصر كان مثلاً للجمع بين الهجرة والكولونيالية [أي أستعمار الارض ]… والعودة من بابل كانت حدثاً صهيونياً عظيماً”.[3]

□ أما بن غوريون، فيقول يوم إعلانه تأسيس الكيان الصيوني، 15 أيار 1948، ما يسميه الاسرائيليون “اعلان الاستقلال”: “لقد كانت ارض اسرائيل، اريتس اسرائيل، مسقط راس الشعب اليهودي. هنا صاغ اليهود هويتهم الروحية والدينية والسياسية. وهنا اقاموا دولتهم للمرة الاولى، وشكلوا القيم الثقافية ذات الاهمية الوطنية والانسانية ومنحوا العالم كتاب الكتب الازلي”. ويتابع بن غوريون قائلا: “وعليه، فنحن اعضاء مجلس الشعب وممثلو اليهود في اريتس اسرائيل والحركة الصهيونية، الملتئيمن في هذا اليوم، يوم جلاء الانتداب البريطاني عن اريتس اسرائيل، واستنادا الى حقنا الطبيعي والتاريخي، وبموجب قرار الجمعية العامة للامم المتحدة، نعلن هنا تأسيس الدولة اليهودية في اريس اسرائيل لتعرف باسم دولة اسرائيل”.

□ أما نتنياهو فيعود ليؤكد على المقولة اليهودية- الصهيونية، قائلا: “لكن حقنا بإقامة دولتنا هنا، في أرض إسرائيل، ينبع من الحقيقة البسيطة: هذا وطن الشعب اليهودي، وهنا تَشكَلّ وعيه”.[4]

معنى “العودة” في العقيدة اليهودية

لم تكن “أرض الميعاد”، حسب المعتقدات الدينية اليهودية، تعني جغرافية فلسطين، بل كانت مفهوماً يعبر، من منظور تلك العقيدة، عن ارض لاهوتية إفتراضية لا جغرافية. وعليه، فان العودة في اليهودية لا تعني العودة الى فلسطين. ناهيك عن ان اليهود يؤمنون بان العودة الى “ارض الميعاد” ستتحقق عند “مجيء المسايا” (المسيح المخلص) وبمشيئة ربانية.

صحيح أن الانبياء تحدثوا عن تجميع بقايا اليهود من شتى بقاع الارض، وادعوا بان الرب سيعيد شعبه الى أرضهم في جبل صهيون، إلا ان ذلك ارتبط عبر الاجيال بالمعنى الديني بقدوم المسيح وحلول الآخرة. إلا انه “بمرور الاجيال وإخفاق حسابات المتدينين لتحديد موعد “اليوم الآخر” ساد إقتناع الطوائف اليهودية ان معجزة قدوم المسيح المرتقب ستحل في موعدها بارادة الرب ولذلك فمن التطاول والتجديف السعي للاسراع بها، ولم يتخل المتدينون عن هذا الرأي وقاوموا الصهيونية حتى وقت متأخر جداً.”[5] وجدير بالذكر، في هذا المقام، ان الراب منشي بن اسرائيل الذي سافر الى إنجلترا في القرن السابع عشر ليسترحم حاكمها كرومويل كي يسمح باستيطان اليهود في تلك البلاد، كان يعلن ان على اليهود ان ينتشروا في اربعة أطراف المعمورة قبل ان يعيدهم الرب الاله الى “ارض الميعاد”.[6]

وإعتماداً على تراث القرن التاسع عشر، لاحظ الباحثون “ان الوعد بقدوم المسيح إفترض ان لا يقوم اليهود باي عمل لاعادة سيادتهم (القومية)، فعليهم ان يواصلوا رسالتهم بين الامم على إعتبار ان الخلاص سيأتي من جرّاء تدخل إلهي”. ويرى د. إميل توما ان التدقيق التاريخي يكشف “ان ترقب المسيح بين الطوائف اليهودية، الذي كان يقترن طبيعيا بالعودة الى صهيون، كان يشيع في اقطار عينية وفي تواريخ محددة (في سورية في القرنين السابع والثامن، وفي إسبانيا في القرن الحادي عشر). في حين كانت الطائفة اليهودية في ذلك القطر أو ذاك وفي التاريخ المعين، تعيش في ظروف صعبة، تتوق الى الخلاص فتتشبث بالمسيحية [أي فكرة قدوم المسيح المخلص ـ م.ع.] وفكرة العودة الى صهيون”. ويتابع توما: “ولكن هذه الفكرة كانت دينية ولذلك لم تتجسم تنظيمياً الا في حالات قليلة جداً وفي أقاليم عينية. وهكذا تجسمت في سورية تنظيماً في القرنين السابع والثامن، وكانت إشتياقاً دينياً شائعاً في إسبانيا في القرن الحادي عشر، وهذا الشكل التنظيمي لم يتجاوز بضع حالات إندثرت عبر القرون وإنتهت في القرن السابع عشر.”[7]

أما المرحوم د. عبد الوهاب المسيري فيخلص الى انه رغم الاختلافات في وجهات النظر والتأويلات اليهودية والحاخامية لعقيدة العودة، “على وجه العموم، يمكن القول بان أعضاء الجماعات اليهودية قد قبلوا وجودهم في الاوطان التي كانوا يعيشون فيها، وان الحديث عن المنفى أصبح جزءً من الخطاب الديني، وأصبحت العودة تطلعاً دينياً وتعبيراً عن حب صهيون أي تعبيراً عن التعلق الديني بالارض المقدسة وهو تعلق ذو طبيعة مجازية، لا يترجم نفسه الى عودة حرفية الى فلسطين، حتى وان خلق إستعداداً كامناً لذلك”.[8]

يتضح من هذا، وهو ما نود الاشارة اليه، الفرق بين الشوق والحنين الديني الى صهيون، من جهة والصهيونية كايديولوجية وحركة سياسية تسعى الى إقامة مستوطنة يهودية في فلسطين، من جهة ثانية.[9] ولا يغير في الامر شيئاً ان الصهيونية السياسية إقتبست هذا الشوق او الحنين، بل يؤكد انها إستخدمت الدين اليهودي والنبوءات التوراتية في أغراضها السياسية وسخرتها في إبتداعها لفكرة “الشعب اليهودي” وعودته.

التأويل البروتستانتي “للعودة”

ظل مفهوم العودة في العقيدة اليهودية، كما رأينا، مقتصراً على “الحنين الى اوراشليم” و”الشوق الى صهيون” “والى مجيء المسايا” بدلالاته الايمانية واللاهوتية، حتى مجىء الجماعات الانكليزية البيوريتانية والحركات البروتستانتية، التي شاعت في اوروبا وخاصة في انكلترا ثم هاجرت لاحقا الى اميركا الشمالية، والتي إبتدعت تأويلات الخرافات والاساطير التوراتية واستدعت التفسيرات الحرفية لها، فتحولت فكرة العودة من “تطلع ديني روحاني” الى عودة فعلية أي إستيطانية الى فلسطين تبلورت لاحقاً، بعد ما ينوف على ثلاثة قرون، في المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين.

ومع ان الصهيونية السياسية فكرة غير يهودية[10] في جذورها ونشأتها، إلاّ أن هذا لا ينفي ان الديانه اليهودية قد زودتها (الصهيونية) بالعودة كعقيدة دينية إيمانية، ثم قامت الصهيونية بنسج حبال الاكاذيب والاوهام حول هذه الكذبة فإبتدعت “القومية اليهودية” على اسس دينية خرافية، بغية إيقاظ الحنين لصهيون وارض الميعاد وإجتذاب اليهود الفقراء وتهجيرهم الى فلسطين، مستغلة أوضاعهم البائسة في بناء القاعدة الاستيطانية هناك.

أما المفارقة التاريخية اللافتة فهي انه فيما غرق مسيحيو الحركات البيوريتانية والبروتستانتية في هذه الخرافات والخزعبلات، كانت الجماعات اليهودية تجهد في البحث عن الاستقرار والاندماج في المجتمعات التي تواجدت فيها، ولم يشهد تاريخهم، حتى ولادة الصهيونية الهرتسلية (1897)، أن قامت بينهم حركات سياسية تطالب بالعودة الى فلسطين. وحتى عبر فترات الاضطهاد الذي عانت منه الطوائف اليهودية، لم تنشأ ايديولوجيا صهيونية ولا حركة تدافع عن اليهود أو تدعو الى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين أو في غيرها، بل ظلت فكرة العودة الى ارض الميعاد محصورة في إطارها “الالهي” اللاهوتي وإقتصرت على مشاعر الحنين الدينية.

وعليه، فبالاضافة الى إنتفاء الدعوة الدينية اليهودية (التي كانت تنتظر قدوم المسايا حسب المشيئة الربانية) وغياب المطالبة السياسية (التنظيم السياسي والبرنامج الذي يضطلع بانجازها)، فان اليهود لم يسعوا، عبر محطات تشردهم للعودة الى فلسطين، ولم يقصدوها عبر موجات ترحلهم وهجراتهم على مدى القرون المديدة.


[1] يقول جاستيس ل. برانديس، احد كبار قادة ورواد الصهيونية في الولايات المتحدة، “منذ هدم الهيكل، قبل حوالي ألفي سنة، ظل اليهودي يحن أبداً الى فلسطين”. انظر يوري إيفانوف، “إحذروا الصهيونية”، منشورات وكالة أنباء نوفوستي، موسكو، 1969، ص 11.

[2] حسب ما يدعيه نورمان بنفيتش. انظر يوري إيفانوف، المرجع السابق، ص 13.

[3] ناحوم سوكولوف: “تاريخ الصهيونية”، الجزء الاول، ص 15. ورد في كتاب “جذور القضية الفلسطينية”، د. إميل توما، مركز الابحاث في منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، 1973، ص 17.

[4] يعقب الباحث الفلسطيني في الدراسات اللاهوتية أحمد أشقر على قول نتيناهو هذا: “ولا يذكر أن الدراسات والأبحاث المعاصرة تنفي وجود الآباء! فـ”نتنياهو” يتخيّل التاريخ ليصبح واقعا. والأخطر هو، إنكار تاريخ الآخرين: نحن العرب، التي تزال تحفظه حجارة هذا الوطن وذاكرته الحيّة. أقواله تعتبر جوهر اليهودية والصهيونية ودولة “إسرائيل”، فهُم واحد في كل ما يخصّ أوجه العدوان علينا.”

انظر أحمد أشقر: “نتنياهو للعرب: حربُنا ضدّكم أبدية!”، نشرة كنعان الالكترونية عدد 1949، الموقع الالكتروني ل”كنعان” http://www.kanaanonline.org

[5] إدجار دوغديل، “وعد بلفور: اصوله وخلفيته”، ص 8، ورد في كتاب “جذور القضية الفلسطينية”، د. إميل توما، المرجع السابق، ص 19.

[6] ناحوم سوكولوف، المرجع السابق، ص 17 ـ 18. ورد في مرجع د. توما ص 27.

[7] د. إميل توما، المرجع السابق، ص 18 ـ 21.

[8] د. عبد الوهاب المسيري، “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية”، مجلد 2، الجزء الثاني، “يهود أم جماعات يهودية؟”، دار الشروق، القاهرة، 1999، ص 96.

[9] تشكل عقيدة العودة جزءً من العقيدة الايمانية اليهودية مثلما هي عودة المسيح لدى المسيحيين أو قدوم المهدي المنتظر لدى المسلمين.

[10] للاستفاضة راجع مقالة “الأصل غير اليهودي للصهيونية”، محمد ولد المى ألياسينى، ترجمة مسعد عربيد، مجلة “كنعان”، العدد 113، نيسان 2003.