التوظيف السياسي للنبوءات التوراتية: ملاحظات في عبثية خطابنا (الحلقة الرابعة)

د. مسعد عربيد

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2107 )

المعارضة اليهودية لفكرة “العودة”

كان من الطبيعي ان تواجه الصهيونية في المراحل المبكرة عداءً سافراً من فئات وتيارات يهودية متعددة شملت المتدينين والليبراليين والثوريين والاشتراكيين وقطاعات كبيرة من الجماهير اليهودية الفقيرة، حيث لم يقتنع هؤلاء بان الخرافات التوراتية كفيلة بان تشكل اساسا للوطن القومي او ان ذلك الوطن المنشود سينهي الاضطهاد ويوفر لهم الأمن والاستقرار.

لقد ألمحنا ان الكثيرين من اليهود الارثودوكس عارضوا (وما زالوا يعارضون) فكرة الصهيونية ومشروعها لانهم رأوا فيها تحدياً للارادة الالهية وتدخلاً بشرياً بغية التعجيل بقدوم النبوءة. إضافة الى أن الكثير من الباحثين والحاخامات أكدوا انه لا وجود لاية اشارة “لمبدأ أو عقيدة العودة الى فلسطين” في “كافة المحاولات التي تمت في العصور الوسطى لصياغة عقيدة يهودية”.[1]

إشتبك أصحاب الحركات الاندماجية والتنويرية اليهودية، في معارضتهم للصهيونية، ورأوا في “العودة الى صهيون” مجرد فكرة روحية دينية لا رغبة حرفية، ونادوا بان ازالة “واقع المنفى المؤلم والمؤقت” يجب أن تكون من خلال الاندماج في المجتمعات التي يعيش فيها اليهود.[2]

أما فقراء اليهورد فقد رأوا مهمتهم في الانخراط في النضال الثوري والاشتراكي من أجل تحقيق العدالة ومحو الاستغلال سوية مع القوى الثورية الساعية الى التغيير في المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها.

(3)

العودة:

من مشيئة ربانية الى مشروع استيطاني

ظهرت الصهيونية في اواخر القرن التاسع عشر في سياق إجتماعي وتاريخي اوروبي إتسم بالصفات الرئيسية التالية:

1) صهينة فكرة “العودة”:ذكرنا سابقاً أن فكرة “العودة” بتفسيرها المتصهين أصبحت تعني العودة الى “ارض الميعاد” أي فلسطين، وانها لم تكن يهودية في الاصل بل مسيحية بروتستانتية، ولم تولد في ألمانيا أو بولاندا أو روسيا حيث كانت تقيم أغلبية يهود اوربا والعالم[3]، بل كانت قد نمت أولاً في انجلترا والتي لم يكن فيها آنذاك سكان يهود،[4] ثم إرتحلت عبر الاطلسي مع الحركات البيوريتانية والبروتستانتية الى المستوطنة الاوروبية البيضاء حديثة العهد آنذاك: الولايات المتحدة الاميركية والتي لم يكن فيها يهود أيضاً.

إنتقل تفسير “العودة”، بفضل تسييس المعتقدات الدينية الذي بشرت بها ودعت اليها الحركات المسيحية البروتستانتية، من فكرة يرتهن تحقيقها بالمشيئة الالهية الى مشروع بشري (سياسي) مرهون بالارادة والفعل البشريين، وبهذا يكون الاصلاح البروتستانتي قد كرس التأسيس الديني ومهد السبيل للمشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين.

2) أوضاع الجماعات اليهودية في اوروبا: شهدت الجماعات اليهودية المقمية في اوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر العديد من المخاضات والمتغيرات العميقة كان أهمها:

ـ تحالف البرجوازية اليهودية وإندماجها وتلاقي مصالحها مع البرجوازيات الاوروبية الحاكمة والمهيمنة؛

ـ صعود الحركات الاندماجية اليهودية وحركات الاصلاح الديني اليهودية الداعيتين الى رفض فكرة المنفى؛

ـ إنخراط فقراء اليهود في نشاط الحركات الثورية والاشتراكية في المجتمعات التي كانوا يقيمون فيها.

3) المعارضة اليهودية للصهيونية: رفض دعاة حركة التنوير اليهودية (الهاسكالا) التي ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر والحركات اليهودية الاندماجية فكرة القبول “بالمنفى” ونادوا بالكف عن الانتظار السلبي “للماشيح”[5]، وحثوا اليهود على ان يحصلوا على الخلاص بانفسهم.

ومع الارهاصات الاولى للحركة الصيونية كانت مسألة “العودة” في التجمعات اليهودية الاوروبية قد حسمت بين:

ـ اليهود “الاندماجيين” الذين نادوا بانصهار اليهود في المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها واعتبروا العودة فكرة لاهوتية مثالية؛

ـ “والانفصاليين” الذين دعوا الى ان يعمل اليهودي بنفسه للعودة الى ارض الميعاد دون انتظار الامر الالهي.

4) الاوضاع الاوروبية: إتسمت الاوضاع الاجتماعية والسياسية في اوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بإحتدام المعارك الطبقية للحركة البروليتارية العاليمة وتحول الفكر القومي الاوروبي الى حركات عنصرية واستعمارية وشوفينية، وإنتقال النظام الراسمالي الى حقبة الامبريالية. ففي خضم هذه الارهاصات، ولدت الفكرة الصهيونية السياسية وإتخذت من التراث الديني اليهودي ما يتفق وغاياتها السياسية وأوَّلت المفاهيم اللاهوتية والدينية المجازية الى مفاهيم حَرْفية تستدعي التنفيذ الفعلي هادفة الى ترسيخ الادعاتءات التالية:

أ ـ ترسيخ الافضلية والاستثنائية اليهودية (“إستثنائية الشعب اليهودي”) كشعب مختار على السكان الاصليين للمستوطنة الموعودة في فلسطين.

ب ـ ترسيخ كذبة اخرى كامنة في كذبة العودة، ان اليهود أينما كانوا وبالرغم من تعدد خلفياتهم الثقافية والحضارية والعرقية، هم شعب واحد تشتت وإبتلى بامراض المنفى. وعليه فحل مشكلته، تقول الكذبة، يكون في إقامة وطن قومي يهودي، يعيد لهذا الشعب وحدته المهدورة ويشفي اليهود من أمراض وتشوهات المنفى.

في هذا السياق جاء ثيودور هرتسل، في الربع الاخير من القرن التاسع عشر، ليأخذ معنى العودة بدلالاتها السياسية البراغماتية ويوظفها في خدمة الحركة الصهيونية. وبالرغم من هيمنة الاثرياء اليهود على المؤتمر التأسيسي للحركة الصهيونية (بازل، سويسرا عام1897)، وإعتماد هرتسل على دعم البرجوازية اليهودية، فانه كان يدرك إن إقامة “الدولة اليهودية” المزعومة كان يتطلب اكثر من مجرد أموال روتشيلد وغيره من أثرياء اليهود (والتي بلغت ما يكفي لبناء عشرات الدول مثل فلسطين). فقد تطلب مشروع استيطان فلسطين، بالاضافة الى أموال البرجوازية اليهودية، إستعداد ولو قسم من اليهود للانتقال الى هذا البلد، ناهيك عن الدعم العسكري الذي سعى هرتسل لتأمينه من الدول الامبريالية.

لقي هذا التوجه إرتياحاً لدى البرجوازية اليهودية، وتحقيقاً لمصالحها، فقد أدركت هي

الاخرى أن النجاح لن يكتب للمشروع الصهيوني إلا اذا إنتشرت الدعوة بين فقراء اليهود ولقيت دعمهم لانهم يشكلون موضوعياً مادة الهجرة اليهودية والوقود البشري للمشروع الصهيوني الاستيطاني.

كان لابد لهرتسل ومنظمته الناشئة المتحالفة مع البرجوازية اليهودية، ان يقدموا مشروعاً لحل المسألة اليهودية وإقامة الدولة اليهودية الموعودة يجمع بشكل متكامل كلاً من المكونات الدينية/التراثية اليهودية من جهة، والاهداف السياسية من جهة أخرى. هكذا كانت ولادة الصهيونية الهرتسلية التي جمعت “المشترك” الديني/التراثي والسياسي في تنظيم ومشروع سياسي واحد:

○ فعلى المستوى الدين/ التراثي إدعت الصهيونية بانها جاءت لتجديد العقيدة والتراث اليهوديين وإحياء الحلم اليهودي في العودة الى الارض الموعودة؛

○ وعلى المستوى السياسي بلورت برنامجاً سياسياً وظف الادعاءات الدينية والتراثية، مما ضمن للبرنامج الصهيوني القبول والدعم الواسعين بين الجاليات اليهودية في اوروبا وخاصة الشرقية منها.


[1] د. عبد الوهاب المسيري، المرجع السابق، 96.

[2] يذكر ان بعض القوى اليهودية الاصلاحية قامت بالغاء الصلوات اليهودية التي كانت تذكر اليهود بصهيون.

[3] كان قد مرّ ما يقارب مائة عام منذ عهد اوليفر كرومول حتى بلغ تعداد اليهود في انكلترا اثني عشر ألفا، كما مرت مائة عام أخرى حتى بلغ عددهم خمسة وعشرين ألفا. بينما يبين الإحصاء السكاني للامبراطورية الروسية لعام 1897 أن عدد اليهود قد بلغ في تلك السنة5,189,401 يهوديا (أي ما يعادل 4.13% من مجموع سكان الامبراطورية). راجع محمد ولد المى ألياسينى، الأصل غير اليهودي للصهيونية، ترجمة مسعد عربيد، مجلة “كنعان”، العدد 113، نيسان 2003، ص 45.

[4] كانت إنجلترافي منتصف القرن السابع عشر (عام 1649) خالية من اليهود. ومع إزدياد إهتمامها باليهود ذوي الاصول أندلسية والذين فروا من الاندلس بعد سقوط غرناطة (1492) وبسبب تنامي تطلعاتها الاستعمارية ومنافستها مع الدول الاستعمارية الاوروبية الاخرى، صدر إعلان إنكليزي جاء فيه إن أمة انكلترا وسكان هولندا سيكونون أول الناس وأكثرهم استعداداً لنقل أبناء وبنات إسرائيل على سفنهم إلى الأرض التي وعد بها أجدادهم، إبراهيم واسحق ويعقوب، لتكون ميراثاً لهم إلى الأبد!

[5] عقيدة الماشيح هي من أهم العقائد اليهودية. والماشيح عند اليهود “ملك من نسل داود سيأتي في نهاية التاريخ ليجمع شتات اليهود المنفيين ويعدو بهم الى الارض المقدسة ويحطم أعداء إسرائيل ويتخذ اوراشليم عاصمة له ويعيد بناء الهيكل”. انظر يوسف ايّوب حداد، “هل لليهود حق ديني او تاريخي في فلسطين”، بيسان للنشر والتوزيع والاعلام، بيروت، يناير 2004، الجزء الاول، ص 287.