نور الدين عواد ـ كوبا
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2111 )
اثناء حقبة الاستعمار الاسباني في امريكا اللاتينية ، ابيد ملايين الهنود الاصليين[1]. 500 عام من الاضطهاد والابادة لم تكن عقبة امام استمرار القتال. في عام 1781 اندلعت انتفاضة مسلحة لهنود البيرو وبوليفيا بزعامة توباك كاتاري الذي اذاق المستوطنين وقواتهم الهزائم المتتالية. أسر غدرا وحكم عليه بالاعدام بطريقة حضارية اوروبية: فلخوه وشلخوه اربا يوم 13 او 15 نوفمبر 1783 (طلبوا منه ان يعترف بجريمته وان يتوب فقال لهم: “سأعود وقد أصبحت ملايينا”.
تتردد هذه العبارة الان على ألسنة قادة الشعوب الاصلية في اشارة الى انبعاث وتحرر امة الهنود الاصليين ، وانتصارا تاريخيا وتكريما لقائد قومي اممي آخر بحجم ايرنيستو تشي غيفارا الذي تعرض للاغتيال الجبان على يد الحضارة الامريكية بعد ان وقع اسيرا مثخنا بالجراح في بوليفيا (9 اكتوبر 1967).
منذ بداية التسعينات اشتدتمطالبة الهنود ببناء دولة عادلة وصولا الى المطالبة بتاسيس برلمان جديد. وقد تعاقبت اربعة انظمة ليبرالية جديدة على الحكم منذ ذلك التاريخ وحاصرت تلك المطالب الى ان جاءت حكومة ايفو موراليس وصادقت على قانون الدعوة الى الجمعية التاسيسية في مارس 2006. وفي 8 ديسمبر 2007 تمت المصادقة على اول مشروع دستوري يضم 411 مادة صيغت بشكل جماعي ونقحت في الكونغرس في اكتوبر 2008.
عاد توباك كاتاري بشخص موراليس وعادت الملايين التي تحميه من بربرية الاوليغارشية المحلية المتزاوجة مع الامبريالية ، فكراً ومصالح. حدد موراليس المهمة التاريخية للثورة: “اليوم وبعد 181 عاما انقضت على الحياة الجمهورية، حانت اللحظة التاريخية لاعادة تاسيس وطننا العزيز: بوليفيا الحبيبة، هذا الوطن وشعوبه ما فتئوا يعانون من التمييز الشديد وسوء المعاملة ونهب الثروات الطبيعية”.
الوصول الى السلطة السياسية يشكل شرطا لا بد منه من اجل الاضطلاع بعملية التغيير والتثوير المجتمعي لكنه ليس كافيا في حد ذاته، فهناك شروط ذاتية وموضوعية لا بد من توفرها ولو نسبيا لضمان نجاح عملية التغيير المنشود. وفي الحالة البوليفية نعتقد بتوفرها ولو بحدها الادنى:
وجود الرئيس ايفو موراليس، ثوري ومتنور وشجاع ومبدئي، وتمتعه بقاعدة شعبية ودعم الحركات الاجتماعية الوطنية وانضمام بوليفيا الجديدة الى البديل البوليفري للامريكتين، والتحالف والتضامن مع فنزويلا و كوبا، والانخراط في سوق الجنوب، كل هذه العوامل شكلت ارضية صلبة لعملية تاميم الثروات النفطية ، لفك تبعية الاقتصاد المحلي عن اقتصاد المركز الامبريالي وتحقيق السيادة الوطنية. هناك انجازات اخرى: الاصلاح الزراعي، حماية الثروات الطبيعية واستغلالها السيادي واحترام البيئة، انتشال وانقاذ الارث الثقافي الهندي الاصيل، مكافحة الفساد واعطاء السلطة للشعب.
لقد تم اجراء استفتاء شعبي افضى الى المصادقة على دستور سياسي جديد للدولة تتحول بوليفيا بموجبه الى “دولة اجتماعية للقانون المجتمعي متعددة القوميات”، ووأد الدولة المستعمرة نهائيا. بوليفيا الجديدة القائمة على وحدة التنوع تدافع عن المساواة بين البوليفيين الحاليين والاصلانيين اصحاب الارض منذ آلاف السنين وهم 36 قومية هندية معترف بها. فالدستور الجديد يحتضنهم في الحياة السياسية والاقتصادية، وهم الاكثرية ويعترف بحقهم في الحكم الذاتي في اراضيهم وحسب عاداتهم وتقاليهم ومفاهيمهم بخصوص الانسان والمجتمع والطبيعة.
من الان فصاعدا، تقود الدولة الاقتصاد وتعطي الاولوية للصالح العام واحترام الارض الام، وتعاقب تغريب الموارد الطبيعية وتحدد دستوريا اقصى رقعة ارض كملكية زراعية ب 5 آلاف هيكتار، كما لم تعد الخدمات الاساسية للمياه والاتصالات والطاقة من اختصاص القطاع الخاص بل من واجبات الدولة وجزء من حقوق الانسان.
في 10 اغسطس 2008 اجري استفتاء في بوليفيا على اهلية وكفاءة حكم الرئيس المنتخب شعبيا ايفو موراليس، عند منتصف عهده الرئاسي (وهذا تقليد ديموقراطي شعبي اصلي ارساه الرئيس الفنزويلي أوغو شافيس، لكي يكون الشعب دائما هو الحكم والرقيب العتيد على سلوك الحكومة والرئيس، مما يعطي نظام الحكم مزيدا من الشفافية والديموقراطية والشرعية) وقد فاز ب 67% من الاصوات، اي 13% اكثر مما حصل عليه عام 2005 عندما انتخب رئيسا للجمهورية ( تجدر الاشارة الى انه لم يحصل اي رئيس بوليفي سابق على اكثر من 50% من الاصوات منذ عام 1956).
نظرا لكل هذه المنجزات التي تعني “جرائم” في قاموس الامبريالية بدأت هذه الاخيرة من خلال القوى الرجعية المخلوعة من السلطة والامتيازات، بحياكة الدسائس الرامية الى زرع الفتنة الانقسامية، واثارة القلاقل والنعرات القومية والعنصرية على امل اسقاط الثورة.
استفتاء انفصالي في سانتا كروس ومحاولة استنساخ فاشلة
كجزء من الهجوم الامبريالي المعاكس بالتنسيق الكامل مع قوى الاوليغارشية التقليدية على عملية تحطيم السيطرة الامبريالية في امريكا اللاتينية، ظهرت مؤامرة الانفصال، في البلدان التي خرجت من نطاق التبعية والاستعمار الجديد، اذ تحاول الامبريالية الامريكية تغذية وتقوية النزعات الانفصالية لبعض الاقاليم داخل تلك الدول. تماما وفق قاعدة تفكيك وتذرير بلدان الشرق الاوسط وخاصة الوطن العربي واعادة تركيبها بما يتلاءم مع المصالح الامريكية في المنطقة.
وليست صدفة ان تتزامن التحركات الانفصالية في فنزويلا ( ولاية زوليا) والاكوادور (ولاية غواياكيل) ونيكاراغوا (ولاية موسكيتيا) وبوليفيا (سانتاكروس). بل يوجد مخطط خارجي ناظم لها وتضطلع بها النخب الاوليغارشية وحلفاؤها الداخليون، بهدف زعزعة الانظمة الشعبية وحرمانها من الموادر المادية اللازمة للشروع بعمليات التغيير والتحول الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. الولايات المذكورة هي اغنى المناطق بالثروات الطبيعية والتنمية الصناعية!
كل هذه المحاولات الانفصالية غير قانونية وتنتهك الدستور باءت بالفشل حتى الان. ولم تلق الدعم العلني الا من الحكومة الامريكية فقط! في الحالة البوليفية، اجرت المعارضة استفتاء انفصاليا يوم 4 مايو 2008 في ولاية سانتاكروس التي تشغل 33.7% من مساحة الهضاب العليا وترفد خزينة الدولة ب 30% من المنتوج الداخلي الاجمالي اي ما يعادل 10 مليار دولار سنويا.
وللعلم فان مساحة بوليفيا الاجمالية تبلغ 108مليون هيكتار منها 72 مليون لا تصلح للزراعة ولا لتربية المواشي. من 36 مليون هيكتار صالحة للزراعة والمواشي 32 مليون موجودة بايدي 40 الف شركة متوسطة وصغيرة. فقط 4 ملايين هيكتار موزعة على نصف مليون فلاح فقير. في سانتاكروس، توجد 17 عالة تمتلك 512 الف هيكتار.
وكان الهدف من الاستفتاء الحصول على حكم ذاتي خارج عن السيطرة المركزية للدولة الجديدة، بهدف سيطرة نخب المعارضة على توزيع الاراضي والدخول المترتبة على الضرائب وانتاج النفط وملحقاته ومشتقاته، ربحا صافيا لوكلاء الامبريالية في بوليفيا، وهم الاكثر رجعية وعنصرية في اوساط الاوليغارشية المحلية. انه الصراع الحتمي بين النظام القديم القائم على العبودية والليبرالية الجديدة والنظام الجديد القائم على الثورة السلمية والاصلاح والمساواة والعدل بين الناس.
تجذير الثورة البوليفية دستوريا
في 6 ديسمبر 2009 اجريت انتخابات رئاسية وتشريعية في بوليفيا فاز بها ايفو موراليس بنسبة 63.3% مقابل 53.7% لدى انتخابه رئيسا عام 2005. كما فاز حزب الرئيس “حركة نحو الاشتراكية” بدعم من الحركات الاجتماعية باكثرية مقاعد الكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ (اكثر من الثلثين) مما سيتيح للنظام الثوري تعيين السلطات القضائية وتطبيق الدستور الجديد دون معارضة الاوليغارشية (دستوريا) والاستمرار في بناء مستقبل اشتراكي لبوليفيا. وهذا الحدث لا يعني الخلود الى الراحة والنوم على وسائد حريرية. فكما يقول عالم الاجتماع السياسي اليساري، أتيليو بورون “امام خطر عودة سيطرة اليمين، فان الخيار الوحيد يتمثل في تجذير الصيرورات التحولية الجارية. ان الحاق الهزيمة باليمين في ميدان الانتخابات سيضاعف من هجماته في مسارح الصراع الطبقي المختلفة.”[2]
ان اهم التحولات الهيكيلية الاساسية التي اضطلعت بها الثورة البوليفية حتى الان تتمثل في نجاح الحكومة الثورية في تأميم النفط والغاز وتغيير الدستور ثوريا ومحو الامية الشامل، كخطوات استراتيجية لا بد منها من اجل الخفاظ على “ثورة ديموقراطية ثقافية شعبية امريكية لاتينية ومناهضة للامبريالية”[3]، بافق اممي اشتراكي من طراز جديد.
بوليفيا وفلسطين: من وحي المعاناة التاريخية تولد الثورة
قد يكون الرابط الثابت الوحيد بين بوليفيا وفلسطين هو تعرض شعبيهما لشتى اصناف الابادة والاستعباد والتمييز العنصري على ايدي القوى الاستعمارية والامبريالية والرجعية المحلية المتخارجة المتمثلة في نخب طبقية برجوازية واقطاعية موزعة على قطاعات راس المال المرتبط بالمركز الامبريالي الصهيوني ، واصرار شعبيهما على الصمود والمقاومة ورفض الموت والفناء.
غير ان حرب الابادة التي شنتها القوات الصهيونية بدعم ومباركة القوى الامبريالية الامريكية والاوروبية وقوى رجعية عربية وتواطؤ قوى سلطوية فلسطينية على غزة، قد نقلت بوليفيا البعيدة في اعالي الانديز الى صميم فلسطين المقاومة الصامدة شعبا وارضا وروحا، في خنادق الفكر والحجارة والرصاص.
ففي يوم 14 يناير 2009، واقتداء ودعما لموقف الرئيس الاممي أوغو شافيس، وقبله موقف الرئيس الملحمي فيديل كاسترو، جاء اعلان الرئيس الهندي الاصلاني إيفو موراليس بقطع العلاقات مع اسرائيل والمطالبة بمحاكمة قادتها في الامم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والالحاح على ضرورة سحب جائزة نوبل من رئيسها شمعون بيريس الذي لم يفعل شيئا لوقف الجريمة بل قام بتبرير الافعال الاجرامية بحق فلسطينيي غزة.
فمن هو الفلسطيني الحقيقي الحر؟ ايفو موراليس ام الذين يتواطؤون ويشاركون في الحرب الامبريالية الصهيونية الرجعية على فلسطين كلها، ويسحبون تقرير غولدستون ويبيعون ارض الضفة لراس المال الاجنبي ويتنازلون عن حق اللاجئين بالعودة ويقيمون علاقات تلاحمية مع الصهاينة المستوطنين ويتشاركون معهم في الاسمنت والخلوي والموبقات السبعة ما خفي منها وما ظهر؟؟
القضية اصبحت واضحة كما حقيقة وجود الشمس في السماء. المعركة اضحت طبقية اممية بامتياز على اساس الالتزام بما هو وطني وقومي تقدمي اصيل، بغض النظر عن مستحقات التكتيك والاستراتيجيا التي يتطلبها التحالف والصراع، وأسوا انواع العميان هو من لا يريد ان يرى![4]
[1] نشير الى الشعوب الاصلية في امريكا اللاتينية بالشعوب الهندية مجازا ولتسهيل الفهم على القاريء، لكن وللامانة التاريخية فان كل شعب من تلك الشعوب له اسمه الخاص وبلغة قومه مثل: إينكا، أستيكا، كاريبي، كيشوا، غواراني، أيمارا وغيرها.
[2] Atilio A. Boron, “¿Por qué ganó Evo?” publicado el 8 de diciembre de 2009 en http://www.rebelion.org/noticia.php?id=96632.
[3] Isabel Rauber, “Afianzar y profundizar el proceso: claves del triunfo revolucionario de los pueblos de Bolivia”, publicado el 8 de diciembre de 2009 en http://www.rebelion.org/noticia.php?id=96577