زكي مراد: حياة الأسطورة

د. أحمد الخميسي

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2115 )

في 20 ديسمبر أحيي اليسار المصري في نقابة الصحفيين الذكرى الثلاثين لرحيل زكي مراد، وامتلأت القاعة الضخمة من كل الأعمار بمحبي أسطورة مقاتل كان وهو في التاسعة عشر عضوا في ” اللجنة الوطنية للطلبة والعمال ” التي هزت البلاد من شمالها لجنوبها عام 1946، واعتقل في العام ذاته للمرة الأولى، وحين غادر السجن وهب حياته التي امتدت بعد ذلك لأكثر من ثلاثة عقود لمن خرج إليهم: للبسطاء والعمال وفقراء الفلاحين. وحينذاك لم تكن قد شاعت بعد مدرسة تفتيت القضية الوطنية لكسر صغيرة كحقوق المعاقين وحقوق المرأة وغير ذلك، ولم تكن قد انتشرت كالفطر السام دكاكين الدفاع عن حقوق الإنسان بأموال الأمريكان.

وقدم زكي مراد وأبناء جيله العظام حيواتهم وأموالهم وباعوا أثاث بيوتهم واقترضوا وسجنوا وتحملوا تشريد عائلاتهم وتجويعها لكي يقوموا بدورهم كطليعة تنقل الوعي إلي الجماهير.

في تلك السنوات كانت صفة المعارضين هي “مناضلين” وليس “نشطاء”، وكانت القضية هي تحرر مصر من الاستعمار، وبناء صناعتها واستقلالها وجيشها الوطني وثقافتها، وتطوير قدراتها العلمية وتعميق أحلامها بالعدالة والقضاء على الفقر والجهل.

وقد مضى زكي مراد مع أحلامه هذه كتفا بكتف لأكثر من ثلاثين عاما، محاميا، ويساريا، وشاعرا، ورفيقا أنيسا بالضحكة والأناشيد لكل أصدقائه وأحبابه. تتعب الأحلام فيدفعها للأمام، ويتعب هو فتنعشه أحلامه ليواصل الطريق.

كان إحياء ذكرى زكي مراد إحياءاً لدور أبناء ذلك الجيل الذي بدأ كفاحه في الأربعينات، وتعرض لأقسى مفارقة حين نكلت به الثورة التي عاش حياته يدعو إليها ويتمناها. في قاعة الاحتفال بنقابة الصحفيين كان يمكنك أن ترى كيف اجتذب مغناطيس أسطورة زكي مراد أناسا من كل الأعمار: فتيات من سن السادسة عشرة، رجالا فوق الأربعين، شبابا، شيوخا، ومثقفين من مختلف التيارات مثل محمد عبد القدوس والشاعر عبد القادر حميدة والمخرج أحمد اسماعيل، والمهندس شوقي عقل، ود. عواطف عبد الرحمن. وفي مواضع متفرقة كانت تشع عيون أبناء الأساطير الأخرى: منى أنيس ابنة د. عبد العظيم أنيس، وشهرت العالم ابنة محمود أمين العالم، وممدوح ابن فوزي حبشي، فتشعر أن تيارا كهربائيا يمتد من الماضي إلي لحظتنا هذه مرتجفا بفكرة أن أثر الأشياء الجميلة باق ومستمر في إحياء ذكرى النوبي الجميل زكي مراد الذي لم يعرف محبوبة سوى مصر فتغني بها من صميم روحه. وفي القلب من كل ذلك كان هناك أبناء زكي مراد الأربعة: صلاح، وصفاء المحامية، ومحمد الممثل، وصابرين فنانة الزجاج الملون، ينشرون في الاحتفال الدفء الذي ورثوه عن قلب الراحل الكبير.

كنا في الستينات ونحن في سن الشباب نختلف كثيرا مع زكي مراد وأبناء جيله العظام، وننتقدهم، ونلومهم، بشأن موضوع أو آخر. الآن نتشمم عطر أولئك المناضلين، ونفتش عنه بأرواحنا، ولا نجد في حركة اليسار المصري شيئا يقترب من ذلك العطر المقدس الذي فاح طويلا بندى الفقراء والعمال والفلاحين، نفتش فلا نرى سوى “دكاكين” لجنى الأموال، بعد أن أصبح “التمويل الأجنبي” شريعة أي عمل “تقدمي”!

أحيانا إذا تحدثت عن الاستعمار والتحرر الوطني والقضية الاجتماعية والتزام الأدب بدور ورسالة يقول لي أحدهم بدهشة: لكن هذا كلام قديم ؟!. وأشعر على الفور بالخيبة، ثم أقول لنفسي: لكن الشمس أيضا قديمة، ووهج العشق قديم، النهر قديم، القمر ورغيف الخبز أيضا قديمان. هل يعني ذلك أن تلك الحقائق ” خطأ ” ؟

ويحلق صوت زكي مراد كطائر تشبع جناحاه بالنور ويقول لي: من قال لك هذا الكلام الفارغ ؟. أنا أيضا قديم، وها أنت ترى كيف يجتمع حولي بعد ثلاثين عاما كل الأعزاء والأحباء ؟ أم أنك لا ترى ؟ ويدور النوبي بعينيه في القاعة ثم يهمس ممازحا: أم أنك لا ترى؟. ويرتد بكتفيه للخلف ويقهقه فتملأ ضحكته القاعة بالأمل.

:::::

أحمد الخميسي. كاتب مصري

Ahmad_alkhamisi@yahoo.com