فلسطين والنظام العالمي الجديد

مازن كم الماز

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة العاشرة ـ العدد 2131 )

مشكلة النخبة المثقفة أو المسيسة أنها لا تفهم، مثل الناس البسطاء، الأكثر منها بساطة وسذاجة فيما يتعلق بتفاصيل الحضارة الغربية أو الرأسمالية الغربية سواء التقنية أو الفكرية أو السياسية، أن إسرائيل ليست فقط جزءا أصيلا من ذلك النظام الرأسمالي العالمي، أو مجرد حليف إستراتيجي لمركزه الأمريكي، إنها أكثر من ذلك، فهي بالتحديد صورة أخرى عن أمريكا، نسخة مصغرة لكنها تحتفظ بكل تفاصيل الصورة الأم.

لم و لن توجد مجموعة بشرية تشبه مؤسسي أمريكا الراهنة، أولئك الأوروبيين المنبوذين والفارين من الفقر و الحاجة والاضطهاد، مثل أولئك اليهود الذين جاؤوا إلى فلسطين في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين. في كلتا الحالتين هناك مجموعة من المطاردين المنبوذين الباحثين عن عالم أحلامهم الذي تزواج فيه بشكل غريب البحث عن الذهب بالإلحاح على قضية الحرية، ولا يوجد مكان مورس فيه استئصال السكان الأصليين بهذه الهمة كما جرى في فلسطين وما أصبح يسمى بأمريكا. إن استئصال 160 مليون هندي أحمر (أو من السكان الأصليين لأمريكا الحالية) كان بكل وحشيته عملا ضروريا في عملية البحث “المقدسة” والمحمومة عن الذهب وعن واحة أمان من اضطهاد المؤسسات البطريركية الأوروبية السياسية والدينية، والتي ما تزال متواصلة بأساليب أكثر ذكاءً وأقل تكلفة سواء بالنسبة للباحثين عن الذهب أو لمن تصادف وجود ذلك الذهب في أراضيهم. أما عنف الدولة الصهيونية ضد الفلسطينيين وجيرانها عموما فهو ليس إلا استنساخ آخر للعنف الأبيض ضد الهنود الحمر، وهو مثل العنف الأبيض ضد الهنود الحمر محكوم بغاية لا لبس فيها، استئصال صاحب الأرض.

لا ريب أن المجتمع الذي أقامه أولئك المنبوذون اتسم بعدة صفات جعلته يبدو مغريا وجديرا بالإعجاب، حتى ربما لأول ضحاياه أي الهنود الحمر أنفسهم. إن نجاح هؤلاء المستوطنين في بناء عالم مزدهر بالنسبة لقسم كبير من المجتمع وبناء مستوى غير مسبوق من الحرية اضطرت فيه النخب الصاعدة لمغازلة الإنسان العادي وإيهامه بأنه حر، سواء في أمريكا أو إسرائيل، مثير بلا شك للإعجاب، إلى جانب الهمجية والشراسة الاستثنائية في خوض الحروب ضد الخصوم، الشرط الضروري للانتصار في الحروب التقليدية، الأمر الذي يمنح هذه الحضارة أو النظام قدرة أسطورية، خاصة في عين ضحاياه، وفي أعين أفراده المنتمين إلى الطبقات الاجتماعية الدنيا.

الأنظمة العربية، بما في ذلك ممثلي الطبقات السائدة والمتحالفة معها، تعي تماما ما الذي تفعله، عندما تجبر الناس على الرضوخ لحكم الإمبراطورية أو النظام الرأسمالي العالمي من خلالها، لكن جزء هام من النخبة المثقفة يفعل ذلك بشكل غير واع. إنها تعتقد أن القضاء على مقاومة الإمبراطورية هي الخطوة الأخيرة قبل الانضمام إليها. هكذا أساءت هذه النخبة قراءة عولمة النظام الرأسمالي في كل مكان وشد أطرافه إلى المركز بوشائج التبعية. فانضمام الأطراف إلى الإمبراطورية، بالقوة أو بالخضوع، لا يعني أبدا أن تنضم إلى مركز الإمبراطورية. تماما كما أن الشرط الأساسي لوجود الدولة هو انقسامها بين حاكم و محكوم، الذي لا يعني تساويهما بأي حال من الأحوال في كل أشكال الحكومات المعروفة، فإن الشرط الأساسي لوجود الإمبراطورية واستمرارها هو تبعية الأطراف للمركز. ولذلك تشكل النخبة المثقفة أبرز مروجي الهوية التوليتارية أو الشمولية للإمبراطورية. فالإمبراطورية لا تسمح، ولا يمكنها أن تسمح، بتعدد الهويات فيها، إن الهوية الوحيدة الممكنة هي هوية المركز فقط لا غير. وهذه الوحدانية غير قابلة للنقاش دون تحطيم منطق تبعية الأطراف للمركز، دون تحطيم مبدأ عدم تساوي المركز والأطراف أي دون تدمير الإمبراطورية الفعلي. ولهذا يصبح كل شيء ينتمي لمركز الإمبراطورية حقيقي، فعلي، متحضر، هذا التخريف يجري في مواجهة حضارة أو نظام عالمي يمكن التأكيد ببساطة أن إنسان الكهف كان أكثر تحضرا وإنسانية منها، حتى الإنسان في الأطراف يصبح مستحقا “لبعض حقوقه”، فقط لأنه يشبه الرجل الأبيض القاطن في مركز الإمبراطورية أو الإنسان – النموذج أو السوبرمان الموهوم، ولذلك لا تعرف هذه الحقوق بالبشر، سواء في المركز أم في الأطراف التي تنتمي إليها تلك النخب، بل بنموذج الإمبراطورية، أو لنكون أكثر دقة، مركزها الحاكم.

وكما تنسب للدولة تلك الصفات الأسطورية و تعتبر خضوع الناس لقمعها شرطا ضروريا للحضارة، تنسب للإمبراطورية صفاتا أسطورية وتعتبرها ممثلة للتمدن الإنساني وتعتبر مقاومتها مجرد عمل يدل على التخلف، وتفسر الحداثة تفسيرا أحاديا تساويها بحداثة السادة، القوى المهيمنة في مركز النظام الرأسمالي وتستبعد، إن لم تدن وتتهكم من، الحداثة الغربية الأخرى، الشعبية أو المعارضة أو المنتقدة أو المعادية لحداثة السادة. تصبح الغاية هنا من الفعل الثقافي أو السياسي هو محاولة تقليد نموذج المركز. وكلما أوغل أفراد النخبة في تقليد تفاصيل حياة المركز بصورة شكلانية بحتة كلما اعتبروا أنفسهم أكثر تحضرا في مواجهة من يرفض تقليد الصور القادمة من مركز الإمبراطورية، الأمر الذي يذكر بتعريف التحضر السائد الذي يعني التعامل مع آخر منجزات المركز التقنية و الفكرية واستهلاكها دون أن يحمل هذا أي بعد ثقافي أو فكري أكثر من واقعة الاستهلاك نفسها.

الخطير في الموضوع هو الموقف من الفلسطينيين بالتحديد، لأن هذه النخبة تراهن، وتدعو الجميع للرهان على حسن نوايا الإمبراطورية، أقصد مركزها، وتعلن أن مزاياها ستدفع بهذا المركز عاجلا أم آجلا للتدخل لإنهاء مأساتهم، إنها تصر على أن يتقبل الفلسطينيون مصير الهنود الحمر وهم يغمضون عيونهم أو حتى وهم يلهثون بمديح قتلتهم، هنا يبدو أن مشعوذي الهنود الحمر يملكون أفضلية تاريخية وإنسانية مقارنة ببعض مثقفينا و مثقفي أطراف النظام الرأسمالي العالمي عندما اختاروا المقاومة من خلال ممارسات روحانية غير مجدية لكنها تحمل نبض المقاومة من أجل البقاء، فالممكن الوحيد للهنود الحمر في الأمس أو للفلسطينيين اليوم بالنسبة للإمبراطورية هو أن يختفوا بعيدا عن أرض أجدادهم، عندها فقط يمكن أن يستحقوا بعض الإحسان من جلاديهم، الأمر الذي قد يكون الشرط الوحيد الممكن للسلامة في عالم تحكمه الإمبراطورية من أقصاه إلى أقصاه. يصبح هذا الإحسان هو تعريف النزعة الإنسانية، تماما كما عرفت الطبقات السائدة، وما تزال تعرف، النزعة الإنسانية بإحسانها المباشر لضحاياها. هذه ليست دعوة للشعوذة الفكرية والسياسية ولا لإحلالها مكان الرؤية العقلانية لما يجري. على العكس تماما فلدينا الكثير مما يجب تحطيمه وتدميره دون رجعة، بل دون رحمة، لا لنقترب من نموذج المركز، بل لنخلق نموذجا أكثر إنسانية، أشمل وأصدق وأكثر اقترابا من عالم البشر الحقيقي، من عالم أحلامنا المفقود. على العكس تماما فلم يكن مصير شعب بأكمله، على أرضه على الأقل، يرتبط بانتصار القوى القاعدية الجماهيرية المناهضة للإمبراطورية في كل مكان من هذا العالم من مركز الإمبراطورية نفسها إلى أبعد أطرافها المهملة، كما هو حال الشعب الفلسطيني اليوم.