جميل خرطبيل
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة العاشرة ـ العدد 2137 )
إن شعبنا في القطاع ضمن سجن كبير يعاني الأمرين، فسلطة دايتون/ عباس تهيمن في الضفة.. وشعبنا في الأراضي المحتلة عام 48 يلاحقه سيف التهديدات العنصرية الإرهابية النازية العديدة كالأسرلة وتهويد الأرض والاقتلاع والتسفير..
وصهاينة الفلسطينيين والعرب يتابعون لهاثهم وراء الاعتراف والتطبيع مع العدو على الرغم من كل ما حدث ويحدث، بل ازدادت الشراسة والعدوانية، ضد شعبنا في القطاع للقضاء على المقاومة، وليتسلم مفاتيح القطاع الصهيونيان عباس ومبارك!!
كما ازدادت الدول العربية المطبعة اقتصادياً مع العدو وارتفع حجم التبادلات التجارية معها كما تذكر المصادر الغربية المطلعة والعربية الوقحة! ناهيك عن الاستقبالات الحميمية لمجرمي الحرب الصهاينة في الدول العربية (الإسلامية!!) المعترفة رسمياً بالعدو، وغير المعترفة رسمياً كما في المغرب وقطر..
مما يعني أن الأنظمة العربية المتصهينة والمطبعون الصهاينة ومن يدور في فلكهما، لم يتأثروا عملياً من دعوات حملات مناهضي التطبيع (رفض الاعتراف بالعدو والسلام معه وإقامة العلاقات المتعددة الأشكال، والتعامل مع وجوده كأمر طبيعي..) ولا سيما دعاة مقاطعي البضائع الأمريكية والصهيونية.
ولم يكترثوا لاستمرار تلك المناهضات لأنها مسالمة غير صدامية وغير مؤذية، وبالتالي هي غير مزعجة لهم بل تفيدهم في امتصاص شيء من ردة النقمة على صهينتهم، ولكن استمرار هكذا وضع على المدى المنظور كما هو ما دامت المقاومة محاصرة وتحت المراقبة، والرافضون للتطبيع في حدهم الأعلى لن يغيروا شيئاً لأنهم لا يمتلكون القدرة على حذف وإلغاء الطرف المتصهين.. جعل القضية مشابهة لقضية ديموقراطية الرأي والرأي الآخر المعاكس له، مع العلم أن المتصهينين من المطبعين يعملون في الخفاء وبكل الأساليب على حذف الآخر الرافض للتطبيع من الوجود!
هناك ثغرات كثيرة عند مناهضي التطبيع لكل أشكاله على رأسها عدم التنسيق بينهم على صعيد الوطن العربي، وعدم السعي لتشكيل تحالف، جبهة.. تضم مناهضي التطبيع في الوطن العربي كله ليكون لها تأثير فعال.
وعلى صعيد المثقفين المناهضين للتطبيع لا يوجد تنسيق ولا توجيه ولا تحفظ في اللغة؛ ولنأخذ مثالاً في المصطلحات والمفاهيم التي تتقاطع مع مصطلحات العدو وما يخدم العدو كاستخدامهم كلمة (إسرائيل) بدلاً من فلسطين المحتلة عام 48، أو دون وضعها بين قوسين كتعبير عن عدم الاعتراف بالكيان، وهذا له تأثير على العدو في عدم منحه الشرعية في الخطاب، وقد عبر عنه نتنياهو حامل (عقدة عدم الاعتراف بكيانه)، حيث أشار إلى أن هناك من يضع كلمة (إسرائيل) بين قوسين ليدل على عدم الاعتراف بالكيان!
وقس على ذلك استخدام مستوطنة بدلاً من أن يستخدموا مستعمرة.. ومستوطن بدلاً من مستعمر..
وعلى صعيد التحليل السياسي نجد أن هناك من لا يزال يستخدم تعابير تدل على عدم استيعابه لحقيقة الكيان مثل: قوله (الدولة المدللة)، والغرب الذي يكيل بمكيالين بين العرب والكيان الصهيوني، وأن الكيان حتى الآن بلا دستور وبلا حدود..
وتلك التوصيفات والتحاليل نتيجة تغييب جوهر الكيان؛ فالكيان ليس دولة طبيعية لنتحدث عن دستور وحدود.. ولن يكون أبداً دولة طبيعية كباقي دول العالم، فهو قاعدة عسكرية غربية لها الأولوية في كل شيء والحرص عليها لأنها قاعدة للإمبريالية، وهي مغطاة تمويهاً بملاءة دولة، ولكن جوهرها يبقى دولة لقاعدة عسكرية وتجمعها اليهودي الصهيوني تجمع مرتزقة – وليس شعباً واحداًً كما يحلو للبعض وصفهم- غير متجانس (الدين وحده لا يصنع تجانساً ولا قومية) لتبرر تلك الملاءة التمويهية.
وهي غربية وشتان في نظر الغرب الدارويني النظرة (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية واللونية..) بين الغربي والعربي، بل بين الغربي والعالم كله!!
وأيضاً ما يعترضون عليه من وحشية تلك الدويلة المسخ في القتل والتدمير سواء بفلسطين أو لبنان أو مصر أو.. مع أنه ينسجم طبيعياً مع وظيفة الكيان العدوانية الإرهابية لإشغال المنطقة وترويضها وإخضاعها كلها للهيمنة الأمريكية الصهيونية ولمشاريعهما، وهذا ما تم ويتم؛ فالكيان عصا بيد الإمبرياليات الصانعة له، ولا يمكن أن يكون غير ذلك، وفي كل يوم يصنعون حدثاً لإلهاء العالم به ولكي ينسى الحدث السابق وهلم جراً..
إنه كيان لا أخلاقي لا يمتلك ضميراً ولا شرفاً ولا كرامة ولا إحساساً ولا شعوراً.. حيوان مفترس لا أقل من ذلك، فعجباً من الحمقى والبلهاء وعبيد الدولار الذين يدعون للتعايش معه!
وهنا لا بد من ذكر بعض الأصوات التي تدين التطبيع لكنها في الوقت نفسه تتعامل مع منظمات غير حكومية هدفها تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني! وأصوات أخرى ضد التطبيع ولكنها مؤقتة لأنها تتبنى مشروع قيام الدويلة الفلسطينية المستقلة.. وهذا التناقض (مناهضة التطبيع والاعتراف بالعدو) مشروط بقبول الدويلة الفلسطينية المسخ، ويتضح أمره إذا مورست لغة الجملة الواضحة؛ فتتمة الجملة المسكوت عنها: الاعتراف بالعدو الصهيوني وبحقه في سرقة الأرض الفلسطينية عام 48، وإقامة السلام والتطبيع معه، ومن خلال التوسل إليه عبر كل القنوات المتاحة سراً وعلانية لأن (يتنازل) ويعترف بتلك الدويلة الفلسطينية المسخ… وهم يتجاهلون حقيقته كقاعدة للإمبرياليات، مع أن منهم من هو يساري ويدعي الماركسية، والماركسية الحقيقية (لا المزيفة) ضد الصهيونية والإمبريالية. كما أنهم على استعداد لمغفرة كل جرائمه (أي يتجاهلون حقوق الشعب الفلسطيني وتضحياته ودمائه!!) على الرغم من ادعاء بعضهم الثورية ويعلقون صور جيفارا (تسامح ملائكي)!!
ومنهم من يراهن قاموسهم التطبيعي على قضية الاستفتاء وقضية الرأي العام وادعاء الأكثرية متجاهلين (ربما سذاجة!) أنها قضايا وطنية جذرية ومصيرية، وهي لا تخضع للعبة وتفاهة الاستفتاء مطلقاً!!
إن أساليب مناهضي التطبيع على اختلاف أنواعها عبر تلك السنوات الطوال أضحت تقليدية بل منها ما بدأ يتلاشى كمقاطعة بضائع العدو.. حتى أننا بتنا نخشى من أن يتم التعايش مع التطبيع كما هو، ومع مناهضته كما هي، ودون أي تغيير على أرض الواقع!
والخطورة تكمن في أن يصير الوضع ظاهرة طبيعية، فيستمر التطبيع العربي ويتصاعد ويزداد حصار القطاع وقمع الضفة وتهديد أرض الـ48، وبالمقابل تستمر المناهضة من خلال التنديد والفضح والنقد النظري لا العملي، وهذا لن يغير شيئاً في المعادلة!
مع العلم أن مهمات مناهضة التطبيع لا تقف عند حدود نقد التطبيع والمطبعين، بل هي أبعد من ذلك فهي تهدف في النهاية إلى القضاء على ثلة الصهاينة من الفلسطينيين والعرب، وأيضاً الانخراط في عملية التحرير الشاملة والطويلة!
فهل ننتظر أن يتمكن أتباع المشروع الصهيوأمريكي من السيطرة على الساحة بأساليبهم المتعددة المداخل وتنفيذ مبتغاهم مع علمنا أن السماء لن تمطر ذهباً!!
السياسة هي ممارسة الأفكار وليست هي فن الممكن ولا نريد هنا أن نتحدث عن مفهوم السياسة بأنها تكثيف للاقتصاد، فهذا موضوع آخر لكن يمكن الإشارة هنا إلى أن التعريف يصدق في حالة الانحطاط؛ عندما تستلب الوحشية الإمبريالية إنسانية الإنسان وتجعله رقماً خاضعاً لآلية اقتصادها المحرك لوجودها بحثاً عن النهب والأرباح!
إن ممارسة الأفكار هي أن نعيشها على أرض الواقع فلا نسمح بأن تسير مناهضة التطبيع مع التطبيع كمتلازمين لوضع تقليدي مسالم، فهذا يخدم انتشار التطبيع كالوباء بينما تنحسر مناهضته رويداً رويداً، وليس مقبولاً ذاك التعايش والاكتفاء فقط بالمماحكة مع فلان وعلان وكأنهما أس القضية بينما هما من صغار المطبعين الهامشيين وليسا سوى إفرازات قيء التطبيع لا أكثر.
وهذا يتطلب دراسة وتقييم المرحلة السابقة والبحث عن آليات جديدة لخروج مناهضي التطبيع من الجمود والرتابة في مواجهة المطبعين، وأن يكون مناهضو التطبيع أكثر ديناميكية على صعيد الخطاب والكلمة والمصطلح والمفهوم واللغة والرؤية والجذرية والتنسيق والتعاون وتبادل الخبرات..!
كما يجب تصعيد لغة الخطاب النقدي بالفضح والتشهير بالرموز المتصهينة وما جرته على العرب من مصائب وويلات ولا سيما المؤسسين للاعتراف بالكيان الصهيوني ومنحه الوجود الطبيعي رسمياً وعلناً (السادات، عرفات، حسين، مبارك، عبد الله، عباس..)، وحاشية أولئك، إضافة إلى السائرين في دربهم، وبقية الحكام العرب المتصهينين المطبعين مع العدو.
ويجب ألا نتعب وألا نمل من التكرير والتذكير الدائم بأن الاعتراف بالعدو الصهيوني إنما هو اعتداء على الشعب الفلسطيني صاحب القضية وصاحب الأرض المغتصبة، فكيف يعترف المتصهينون بأنها أرض شرعية للكيان الصهيوني!
إن الاعتراف بشرعية اغتصاب الصهاينة لأراضي فلسطين المحتلة عام 48، هو في حده الأدنى من التوصيفات عمل لا أخلاقي ولا قانوني لأنه لا يحق لأحد أن يعترف للص بشرعية سرقة أرض ليست له، وطرد أصحابها الشرعيين!
فالذين يريدون الاعتراف بالعدو الصهيوني فليتكرموا وليعطوه أرضاً من أراضيهم التي يملكونها هم وليست ملكاً للآخرين، ليقيم عليها النازي قاعدته السرطانية، أما التكرم بأرض لا علاقة لهم بها فهذا عمل حقير ومنحط و..!
وفي هذا الإطار وأمام المخاطر الكبيرة التي تحيط بقضيتنا وشعبنا والمؤامرات التي تحاك ليل نهار ضد المقاومة، على مناهضي التطبيع دعوة فصائل المقاومة للعمل على تصعيد مواقفها بالاستناد إلى قاعدة شعبية عريضة وهذا يتطلب منهم تجميع وحشد وتوحيد شعبنا ولا سيما من الفقراء والمعدمين – لأنهم هم أصحاب الثورة الحقيقية والتحرير- في خندق المقاومة الواحد، المبني على الثوابت الوطنية والقومية في تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني من النهر إلى البحر وعدم الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني!
وأخيراً علينا أن ندرك أنه عندما نتحول من منفعلين لأحداث يصنعها العدو ويفرض علينا الدوران في فلكها لإشغالنا المستمر واستنزافنا، إلى صانعين للأحداث وجعل العدو يدور في فلك أفعالنا وانشغاله المستمر بها واستنزافه، عندها تندفع الجماهير العربية نحو المقاومة وتقوم بما يفرضه عليها الواجب الوطني والقومي، وعندها نكون في أول الطريق الصحيح نحو تحرير فلسطين كلها من نهرها إلى بحرها.