سوء طالع مدينة!

عبداللطيف مهنا

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة العاشرة ـ العدد 2137 )

ربما أبسط مستوجبات احساسنا بالانتماء إلى أمتنا الواحدة، تجعلنا لا نفرق بين مدينة عربية وأخرى. فهي والحالة هذه كلها مدننا، والأمر ذاته ينسحب على مختلف المواضع والمواقع والأماكن والإتجاهات في خارطة هذا الوطن العربي الكبير.

وأنا، مثلاً، كل المدن العربية في العموم تتساوى عندي مع القدس ونابلس ويافا وحيفا. اللهم إلا وفق ما يرويه الموروث عن عربي سئل، من أحب أولادك إليك، فأجاب… إلى أن وصل، وأنا أختصر هنا… والغائب حتى يعود!

نعم ربما بعضها أثيرة لدي بعض الشيء، أو قد تشدني إليها أكثر من سواها، لأنني صرفت جزءاً من عمري فيها، أو لأنها انفردت بميزة ما، كاحساسك فيها بشيء من عبق التاريخ الذي يداعب وجداننا، أو لكونها قد شهدت بعضاً من أحداث أو ذكريات لها أثرها في نفوسنا. ومع هذا، فكلها بالنسبة لي مدني وقراي وحاملة موروثي الحضاري وبعض من تاريخ أمة عريقة بدء ذات يوم مع بدء التاريخ. وحيث لا فرق بين أهل هذه وتلك، وحيث تظل قضاياهم عندي لا تتجزأ، تهمني أحداث جوبا في جنوب السودان مثلما تهمني يوميات ما يجري في العراق، ولا يصرفني عن متابعتهما انشغالي بهموم غزة الصامدة المقاومة وأشجان حصارها الباغي واسواره الإسرائيلية المضروبة والعربية المستجدة.

لكنما، هناك مدينة واحدة، لعله من سوء طالعها، أو سوءة ما يجري في هذه المرحلة العربية المنحدرة، أننا عندما نسمع مجرد اسمها يتردد في نشرات الأخبار، نتطير سلفاً و نتوجس شراً، أو نضع أيدينا على قلوبنا ونردد، اللهم اجعله خيراً!

لن أطيل عليكم… إنها مدينة شرم الشيخ، هذا الموقع السياحي الجميل الوادع الذي يتكئ على خاصرة البحر ويتوسد صدر الصحراء ويتدثر ليلاً بالنجوم ويستحم نهاراً بأشعة الشمس، والذي يؤمه سياح الكون ومصطافيهم من كل صوب وحدب… وأثرياء العرب. أو أولئك وهؤلاء الذين نحن لسنا منهم. إذ بالنسبة لمثلنا، والحق يقال، لا ظرفاً يسمح، ولا قدرةً تمنح، ولا دافعاً يدفع، لأن نحسب أنفسنا أو نحشرها في زمرة هؤلاء، أو حتى يعنينا الأمر بحد ذاته.

مشكلة شرم الشيخ هي ما يمكن ردها إلى مشكلة أكبر تواجهها أمة بكاملها، وكانت بعد ما قرنوا اسمها، شاءت أم أبت، بسلسلة من المؤتمرات الدولية والإقليمية، وحولوها محطةً للقاءات الثنائية والثلاثية والرباعية مع الإسرائيليين أو من دونهم… المؤتمرات واللقاءات التي تتواتر وتتكاثر عادة إبان الأزمات والمفاصل المصيرية، وكلها أو غالبها، أو على الأقل حتى الآن، لم تكن تقترن بما يبشرنا بخير، أو ينجم عنه خيراً فيما يتعلق بقضايانا عموماً والقضية الفلسطينية خصوصاً… ويمكن أن نعدد، بدءاً من قمة الإرهاب وما تلى وحتى الوصول إلى قمة إعمار غزة عشية محرقتها، كما أن علينا أن لا ننسى تلك الاتفاقيات ذات الصلة بحركة تصفية القضية الفلسطينية التي اقترنت بهذا الاسم… وفي هذه العجالة لا بأس أن نكتفي بالتوقف سريعاً عند سلسلة اللقاءات الأخيرة التي شهدتها المدينة سيئة الحظ، هذه التي عبرت عن حراك مفاجئ دب في صفوف عرب “الحراك السلمي”، أو محبي الفقيدة “العملية السلمية”، أو هؤلاء المدمنين مع الترصد وسبق الإصرار على استجداء بعث رميم عظامها شاء نتنياهو أم أبى!

هناك شيء ما يراد له أن يطبخ، بغض النظر عن إمكانية انضاجه من عدمها… بعض دخانه بدء يتصاعد في شرم الشيخ لتنتهي خيوطه التي تصاعدت في واشنطن… مهّد للحركة وسبق دخانها المتجه عبر الأطلسي محاولات حثيثة لإشاعة أجواء ذات نكهة أنابولسية في المنطقة… هل لا زلتم تذكرون تلك المسرحية أو الهمروجة السلامية في العام 2007؟!

… وهكذا، بدءنا نسمع عن رؤية أمريكية جديدة اسمها هذه المرة رؤية ميتشل… جديدها القول أن المطلوب الآن مفاوضات “لا يفترض أن تدوم أكثر من سنتين”… وكلمة لايفترض هذه، إن هي توحي بالرغبة في تحديد زمن لختامها، فهي لا تعني الالتزام بجدول زمني لنهايتها، لكنما قائلها أراد لها أن تسري مسرى النار في الهشيم لتبعث الحياة في الأوهام التسووية لدى التسوويين العرب والفلسطينيين، هذه التي لطالما تبادل الأمريكان والإسرائيليين بمساعدة الأوروبيين الأدوار في بعثها واشعال فتائلها الجاهزة سلفاً للاشتعال، والتي لطالما كسبت اسرائيل بفضل من أباطيلها الوقت الكافي لإنجاز مخططات التهويد التي لم تتوقف ولن تتوقف ولا نتنياهو في وارد المساومة على إيقافها عملياً أو خارج سياق جاري مناوراته المعروفة، وهذا جلي وفق المعلن والجاري تطبيقه على أرض الواقع مهما تحدثوا عن تأجيلها أو إيقافها وما شابه من أضاليل يجيدون ابتداعها.

وبالتوازي مع حديث رؤية ميتشل، هناك من كان يتحدث عن خطة مصرية فلسطينية مشتركة أعدها كبير مفاوضي سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود الدكتور صائب عريقات والوزير عمر سليمان مدير الاستخبارات المصرية، تقضي بتجديد هدف نهائي لما تدعى العملية السلمية التي يجب أن تناقش ما يسمى قضايا الحل النهائي، وشرطها الوحيد، الذي يبدو أنه محاولة للقاء بنتنياهو في منتصف الطريق، أو إغرائه عله يقبل بأن يلاقيهم، هو إيقاف “الاستيطان” فقط لمدة 6 أشهر!!!

هنا، لا داعي لأن نتعب أنفسنا فنقطع بأن نتنياهو لن يلاقيهم، أو نجزم بأنه لن يعنيه في الواقع لا في المعلن أمر مثل هذه الخطة، إذ توضح هذا نيابة عنا السياسات الإسرائيلية الواضحة المعروفة وضوح الحكومة المعروفة أيضاً التي تنفذها.

وندع خطة عريقات-سليمان لنشير إلى خطة ثالثة سربتها صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، تقول بأن واشنطن “تبلور مبادرة جديدة تقضي بمفاوضات غير مباشرة في ضوء الرفض الإسرائيلي لإيقاف الإستيطان”!… ماذا يعني هذا؟ إنه إذا اشترط العرب وقف “الإستيطان”، أشهراً أو حتى أياماً للتفاوض، وهو الأمر الذي يقطع برفضه نتنياهو، فالمخرج الأمريكي جاهز متوفر للطرفين وهو مفاوضات غير مباشرة، وبذا فالمشكلة تكون قد حُلَّت وعليه، فلتبدأ المفاوضات!

حراك شرم الشيخ الذي تلقف الأجواء الأنابولسية وبنى قصوره على رمالها، أو هو كان تحركاً بدء وكأنما هو يجري على هامش تلك التسريبات المشار إليها، سريعاً ما واجه القول الفصل في واشنطن… فاخلاصاً لاستراتيجية السلام خياراً استراتيجياً وحيداً العتيدة، ووفاءاً للفقيدة في مهدها “مبادرة السلام العربية”، طيب الله ثراها وحنن قلب الإسرائيليين عليها، واستجابة للاشارات الميتشلية، وربما لما هو غير معلن، واعلاناً لمواصلة الإصرار على المراهنة على أوباما مهما تراجعت مواقفه، وأخيراً، تيمناً بأن في الحركة بركة… لهذا كله، تقاطر الموفدون العرب من وزراء الخارجية على واشنطن لتلتقيهم الواحد بعد الآخر هيلاري كلينتون وزير الخارجية الأمريكية… ولتبلغهم موقفاً أمريكياً إسرائيلياً جامعاً مانعاً لايقبل تأويلاً، وهو التزامها، أو التزام بلادها، ذات الاشتراطات الإسرائيلية لاطلاق المحروسة “عملية السلام”، ومن دون شروط عربية مسبقة، ودونما تحديد لسقف زمني، أو ما يقال عن ضمانات جاؤوا يسألونها… مع تأكيدها على ما دعته “الهدف الإسرائيلي المتمثل بإقامة دولة يهودية بحدود آمنة”!!!

هل إلى هنا فحسب وتنتهي الحكاية؟ لندع هذا للأيام القادمة لتجيب عليه ولعل انتظارنا لن يطول… المهم الآن أن هذا الحراك الدبلوماسي الذي بدأ دخانه في شرم الشيخ وانتهت خيوطه في واشنطن، رافقه أمران: غارات إسرائيلية تتكرر وضحايا لها تتساقط في غزة واغتيالات واعتقالات تتواصل في الضفة، والإعلان عن مشروعين تهويديين في القدس في خلال ما لايزيد عن 48 ساعة… وحيث فلّت الوزيرة كلينتون سيف غزوة “السلام” العربية في اطلالتها الصحفية التي أعقبت لقاءاتها بمن التقتهم، أوبدت بوادر قلة البركة في مفاجئ هذه الحركة، لابد من طرح هذا السؤال: ترى ما سرها إذن؟

إنها إنما كانت تعبر عن حاجة لأطرافها الثلاثة: فالأمريكان، إدارة أوباما، في حاجة لإنجاز ما في مواجهة استحقاقات مريرة تنهش سطوة الإمبراطورية… العراق، أفغانستان، الباكستان، الصومال، وأخيراً وليس آخراً اليمن… والأزمة الإقتصادية. والإسرائيليون محتاجون إلى وقت إضافي ينجزون فيه تهويد ما تبقى من فلسطين، والانتقال من ثم إلى محطة أخرى لتصفية القضية واكمال ما تبقى من استهدافات الاستراتيجية الصهيونية… والعرب، أو عرب شرم الشيخ وفلسطينيوهم، يريدون ما يوحي بأن لا سكون، أو هي واحدة من محاولاتهم الهروب من مواجهة استحقاق لا مفر من مواجهته التي لا يريدونها وهو وجوب مراجعة استراتيجية ذلك الخيار الذي شاؤوه وحيداً… تلكم الاستراتيجية البائسة سيئة الحال، مشينة النتائج، كارثية المآل!