مراجعة مسعد عربيد
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة العاشرة ـ العدد 2140 )
الكتاب: تأخير الغروب: التقديس والتأثيم
بحث في إزدواجية بنية العقل النسوي العربي
المؤلفة: كلاديس مطر
الموقع الالكتروني للمؤلفة www.gladysmatar.net
الناشر: دار التكوين ـ دمشق
سنة النشر: 2009
عدد الصفحات: 201 من القطع الصغير
لسنا بصدد كتاب آخر في النسوية أو الجندر، ولا بخطاب يطالب بالمساواة بين الرجل والمرأة أو ينحاز اليها ضده. ولعله من هذا المنظور يجدر بنا تلمس الابداع في هذا النتاج الاخير للكاتبة السورية كلاديس مطر، كما تتجلى راهنية الكتاب وشفافية طروحاته. فمنذ الكلمات الاولى من مقدمة الكتاب، حسمت الكاتبة أمرها: “لست ممن ينحازون للمرأة ضد الرجل، وعلى عيني عصابة المنقاد إلى حتف مجهول. كما لا أعرف أن أكون متطرفة في دفاعي عنها مهما كلف الثمن…إن الرجل جزء من كينونتي الإنسانية والروحية والثقافية والأخلاقية، وأنا منسجمة مع هذه الكينونة وأفهم أن التحديات التي أواجهها هي نفسها التي يرزح هو شخصيا تحتها، لكن مقاربتنا لها تختلف لأننا نختلف فعلياً في بناء عقولنا ورؤيتنا لهذه الدنيا.”
إستلهمت كلاديس مطر فكرة كتابها من ملاحظة إسترعت إنتباهها، وهي أن المرأة العربية وكأنها تريد ان ترى العالم من وراء ستار ما، وكأن فكرة الحجب هي في راسها اولاً وليس اي شيء آخر. وقادتها هذه الفكرة لما هو أبعد، الى حيث “تشريح هذه العقلية والذهاب الى المصادر الاولى التي ساهمت في تشكلها”.
تتسائل مطر لماذا يريد عقل المرأة العربية “أن يطل على الدنيا من غير أن يَُنظر إليه، أن يُكشف، أن يُفصح عن ذاته وأن يُخرج ما بداخله!”؟ ثم تمضي في تسائلها:”مما هو خائف هذا العقل؟ ما هي هواجسه؟ ولِمَ لم يبق لديه إرث ولو بسيطاً من حمولته الأسطورية القديمة، حين كان العقل النسوي الأمومي هو المشهد الإنساني برمته؟”
من هذا المنظور، تتناول الكاتبة عدداً من المقولات والمسلمات بالنقد والتشريح:
1) فهي ترفض مقولة أن المشكلة تكمن في مشكلة الحجب، وترى انه لم يعد ممكناً أن نرى في مشكلة الحجب مجرد خرق مقدسة مفروضة على المرأة، بل ترى المشكلة في “عدم قدرة عقل المرأة على التعامل مع فكرة القانون كتشريع من أجل حياة أفضل، تتناسب مع المعطيات الطبيعية لهذا العقل المُشرع.”
2) ترى الكاتبة أن “عقل المرأة العربية ليس جزءاً، بالمعنى الحرفي للكلمة، من العقل العربي بالمعنى الشامل للكلمة. إنه لا يشترك معه ببعض المعطيات تحت ذريعة الثقافة الواحدة المنقولة، أو تحت ذريعة الإقامة على نفس الحصيرة الإيديولوجية، وإنما هو “نتيجة” لهذا العقل العربي”. فعقل المرأة بمواصفاته الحالية قد تطور طبيعياً بتغذية من معطيات التاريخ والجغرافيا والذاكرة الشعبية، وتحرك كرد فعل على هذا الإرث الثقافوي الذي أنتجه أو ربما ورثه هذا العقل العربي، ذو الهيئة الذكورية عموماً.
3) ولكن حتى في غياب الحجب الجسدي وطقوسه، فان الكاتبة ترى ان “بنيان عقل المرأة لا يتغير كثيراً، وذلك لأن الحجاب ما زال قائماً بين جدران رأسها”، فهو عقل يتحرك فوق ازدواجية الحلال والحرام، ويدور فوق قطبيهما صعوداً وهبوطاً وجيئة وذهاباً ويميناً وشمالاً، المرة تلو الأخرى، من دون القدرة على التطلع خارج هذا السياق. وهكذا فإنه عقل لا يملك قدرة كاملة على المعرفة من دون أن يضل الطريق.
4) يحتاج العقل العربي الى ثقافة مدنية وكذلك عقل المرأة. ف”الثقافة المدنية هي التي تطلب إقصاء النص عن السياسة أو الدين عن التشريع، وهي كذلك تطلب تأثيث المجتمع بحسب شرعة ومعيار حقوق الإنسان، لا وفق هذا الهوس المر الذي يجعل العقل العربي يبحث بين أدبيات الثقافة المنقولة لكي يجعلها متطابقة قسراً مع روح العصر.”
5) وفي علاقة الرجل بالمرأة، ترى مطر ان التكامل مع الرجل، وليس التماثل، هو الذي سوف يسمح بتأسيس قانون نابع من خصوصية المرأة عموماً والمرأة العربية خصوصاً. وترى ان التغيير المروّج له اليوم، هو أن تتبنى المرأة ل”سياسة المساواة الكاملة مع الرجل، وأن تبرمج هذا العقل لكي يتناسب مع قوانينه ووجهات نظره، وأن تلبس كينونته”، يعتبر إعادة تأهيل فاشلة لعقلها. وتكمن الاشكالية هنا في إن عقل المرأة مختلف مضمونياً وروحياً عن عقل الرجل، وإعادة التأهيل تكون تماماً بتركه حراً في التعبير عن ذاته، ولفترة طويلة ربما هكذا يشفى من مخاوفه، ويبدأ بالتعرف على ذاته، وتتبدى ملامحه الأصيلة من دون مؤثرات من أي نوع.
6) في حين تُركت القضايا الانسانية، مثل العدالة والحرية والديمقراطية، لعقل الذكر العربي، لكي يفندها ويرى فيها ما يناسبه ويرمي الباقي، كان عقل المرأة الذي يشعر بالغبن التاريخي الطويل،”يصر على أمر واحد هو المساواة، أي عملياً قبولها في مملكة كل قوانينها على قياس الرجل وحده. لقد احتلت فكرة المساواة عقل المرأة لفترة طويلة، ومازالت باعتبارها الطريقة المثلى للعودة إلى طبيعته.”
7) وفي نظرة ثاقبة في عقل المرأة الغربية، تلحظ مطر ان هذا العقل، والذي حصل على المساواة منذ زمن بعيد، “بقي هو الآخر يعيش أزماته الكبرى في خضم الثورة الجنسية التي عاشها ويعيشها الغرب منذ النصف الثاني للقرن العشرين، ولم تدع هذه المساواة التشريعية والقانونية عقل المرأة الغربية يعبر عن خصوصيته حقاً”.
وعليه، تتسائل الكاتبة: إذاً أين الحل؟ ولماذا لم يتبدى في هذه المساواة تماما؟! ولماذا لم يتبدى كذلك في هذه الحرية الهائلة التي تتنعم بها المرأة الغربية، حرية السباحة في أفق ثقافي ذكوري ترعاه قوانين العمل الموحدة، وثياب الجنس الموحد! أين الحل لكي يبدأ هذا العقل النسوي بوعي ذاته؟ ومعرفة بنيته وماذا يريد؟
8) أما الإشكال الرئيسي بالنسبة لعقل المرأة العربية فتراه مطر في “القرار المفصلي: إلى أين يجب أن تكون العودة، أإلى النص/ الخطاب؟ أم إلى القانون الطبيعي؟ أيهما الأقوى ومن سيكسب السبق في عقلها؟ والقانون الطبيعي يكمن في الحرية بأعمق معانيها وتجلياتها، حرية التعبير وتقرير المصير.”
وهو ما تحاول الكاتبة الاجابة عليه في هذا الكتاب الذي يشتمل على ستة فصول وملحق.
* * *
الفصل الاول: نظرية الجنس اللطيف
تفنرض نظرية الجنس اللطيف وجود حد تمييزي اولي واضح يفصل جنس النساء عن جنس الرجال. إلا ان الكاتبة ترى ان الاختلاف بين المرأة والرجل لا يتوقف عند الاختلاف الطبيعي والبيولوجي، بل يتعداه الى الاختلاف الجندري الاهم الذي يكمن في اللغة ، اي في استعمال المرأة لللغة. وطريقة استعمالها للغة تعبر تماما عن اختلافها الفيزيولوجي وعن وضعية اعضائها التناسلية في وضعها الداخلي الانكفائي. اذا هي لغة مجازية غير مباشرة مملحة بالدبلوماسية والخجل بينما تعبر لغة الرجل عن القوة والمباشرة والتحكم والسيطرة.
الفصل الثاني: مرحلة المرآة
لعله من أهم فصول الكتاب، حيث تعالج فيه الكاتبة نظرية “مرحلة المرآة” للعالم النفسي الفرنسي جاك لاكان عن الطفل والشمبانزي ابنا الستة اشهر (حيث يفترض ان الطفل ابن الستة اشهر عندما يتطلع في المرآة انما يرى صورته متشظية ولا يميز فيها هويته فيعرض عنها بينما يفرح الشمبانزي اين الستة اشهر عندما يرى صورته في المرآة ويقفز فرحا لانه يميزه ذاته فيها).
تستعير مطر هذه النظرية لتفترض ان عقل المرأة العربية قد توقف وجدانيا ومعرفيا عند هذه المرحلة اي هو يتطلع الى نفسه او يرى نفسه كما يرى نفسه لا الشمبانزي انما الطفل ابن الستة اشهر. وارجعت ذلك الى كثرة وتعدد المرجعيات الثقافية عن المرأة التي جعلتها ترى صورة نفسها متشظية، وانما كان التغيير دائما من فوق وبمرسوم ومن دون اي تمهيد او مقدمات.
ترى المرأة عندما تنظر في المرآة هويتها الجسدية طاغية او متضخمة امام هويتها الروحية. فهي تميز صورة جسدها التي تريده ان يكون معتنى به الى اقصى حد، بينما لا تستطيع ان تعرف تماما مَنْ هي..! وتكمن المشكلة في ان الطفل، كي يقاوم او يهرب من هذه الصورة المتشظية عن ذاته في المرأة، يتطلع الى والدته ليعرف منها (كمرجعية) هويته، بينما تدير المرأة راسها باتجاه المرجعية الدينية والاجتماعية ومن هم اعلى رتبة منها…وهنا الخطر الكبير اي انها تتطلع الى ذاتها من خلال مرجعيات (خارج ذاتها) تقول لها مَنْ هي !!!
تأخذنا الكاتبة بعد ذلك الى الحديث عن المرأة العربية النرجسية التي تقاوم الغروب، (وربما إستلهمت عنوان كتابها من هذا المشهد)، بطريقة خرقاء غير طبيعية وكانها نوع من سياسة إستباقية دفاعية لتحمي نفسها خوفا من ان تهل البرهة الماساوية اي مرحلة المساحيق المغالية ورفض الشيخوخة والزينة الشاذة. والحقيقة، ان العقل العربي النسوي ليس نرجسيا بطبيعته، لان النرجسية نتيجة ككل الصفات فيه، والمرأة العربية ان وجدت نرجسية فلانها كانت مقصية لفترات طويلة عن الحقيقة والمعرفة وعن ذاتها، ولانها مضطربة اجتماعيا وقلقه تجاه النقد ضمن العلاقات الشخصية وكذلك بسبب من نظرتها الدونية الى ذاتها.
يخلص بنا هذا الفصل الى النتيجة مؤداها أن الذي يرى نفسه صورا متشظية يرى العالم ايضا كذلك، صورا لا رابط بينها. ولهذا فان اعادة النظر في تراثنا وهذا الجسم المعرفي الذي ورثناه بكل عجره ونجره امر يمكن ان يقصي الكثير من المرجعيات الغيبية التي ما زالت تفرض تصورها عن الدنيا حولنا علينا.
الفصل الثالث: “ناقصات العقل”
تُذَكرنا المؤلفة بان عبارة “ناقصات عقل” هي من اكثر العبارات العربية الرائجة ارتباطا بالمرأة. وقد أصبحت هذه العبارة جزءً من هذا التهكم الفلكلوري عن المرأة، كما أنها، بالنسبة للكثيرين، تعتبر مقدسة خصوصا لدى الذين ينتمون الى مدرسة النقل دون إعمال العقل.
إلاّ أن الكاتبة تبين لنا، وهو الاهم، كيف ان عقل المرأة تدرب على قبول هذا التقييم عنها شيئا فشيئا وجيلا بعد جيل. وكيف ان هذا العقل لم يعد يجرؤ على صياغة قانون يتناسب مع كينونته.
أما المرجعية فيمكن أن تكون مؤدلجة اي مثقلة بايديولجية معينة ولا يمكن ان تعتمد باعتبارها حكما نظيفا صافيا. علاوة على انها تقع في مكان اعلى وبعيدا عن الشخص ولا تخرج من ذاته.
وتنطلق من هذا الى مطالبة المرأة بان ترى نفسها في مرآة المرجعية الاولى التي هي الله او اللوغوس. وما تقصده باللوغوس هو فحوى الكلمة، بمعنى الشيء ذاته وليس صفته، كفكرة ظهرت ربما قبل بدايات الفكر اليوناني الهللّيني لتأخذ معناها كاملا في الفقه المسيحي، الامر الذي يقودنا الى الفصل التالي: مخاوف العقل الانثوي.
الفصل الرابع: مخاوف العقل الانثوي الخمسة
يعيش العقل الانثوي مرحلة ما بعد الصدمة. فالمجتمعات التي تميزت بالقمع والحروب انما هي مجتمعات تعيش فترة ما بعد الصدمة او ما يسمى بـ Post Traumatic Stress Disorder، وهي مجتمعات تنتشر الوساوس والمرضية بين افرادها. فالفترات العصيبة السابقة تترك على افراداها الوساوس والمخاوف – الفوبيا – إيذاء الذات بصورة غير مباشرة – الاكتئاب والقلق الذي يصل الى حدود الهلع.
تعيش المرأة اليوم بعد هذا التاريخ الطويل من التعنيف الاجتماعي والروحي والجسدي، تعيش فترة ما بعد الصدمة وعقلها هو عقل ما زال عقلاً خائفاً في هيئته العامة. ولقد ميزت الكاتبة خمسة انواع رئيسية من المخاوف يحياها العقل الانثوي: الخوف من البقاء وحيدة ـ الخوف من أن تدفن حية – الخوف من الحرية ـ الخوف من المسؤولية ـ الخوف من المتعة.
الفصل الخامس: الجنس ازدواجية التأثيم والتقديس
يتحدث هذا الفصل بشكل عام عن علاقة المرأة الضبابية بجسدها وهي علاقة تتأرجح بين التقديس والتأثيم، وفيه تبحث الكاتبة عن معنى ومفهوم الجنس ابتداءً من الاديان القديمة مثل البوذية والتانترية (البغاء المقدس) وحتى الديانات التوحيدية اي اليهودية فالمسيحية ثم الاسلام. إلاّ أنها تعود لتركز على النظرة المعاصرة للجنس والمرأة اليوم، وما هو موقف الاسلام من الجنس وموقف المسيحية ثم التوارة التي كان الجنس فيها جزءً من التوليفة الاجتماعية والدينية للانسان.
فالمسيحية تربط الجنس بالتناسل، أما الاسلام فيرى ضرورة ان يتزوج الانسان ويكمل نصف دينة لان الدين او العلاقة مع الله امر غير وارد في غياب علاقة جنسية روحية متوازنة. الزواج يساعد الانسان لكي يلتفت الى العبادة من دون تحرق.
إلا ان ما حدث لاحقاً انه عندما تم فصل الكنيسة عن المجتمع الغربي، بدأت الثورة الجنسية كنوع من الانقلاب على تشدد المهول للكنيسة الغربية، بينما يظل الاسلام يرى ان الحل في الزواج والزواج باسرع وقت ممكن اذ حتى الفقر لا يجب ان يكون حجر عثره في طريقه لان “التحرق يلهي عن عبادة الله”.
الفصل السادس: ثقافة العنف المشروع
يشرح هذا الفصل العنف المشروع في الذاكرة الشعبية العربية: العنف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والديني ومواصفات الانسان القمعي الذي يروج لمثل هذه الامثال ويمارس العنف المشروع ضد الاخرين. ويخلص الى دراسة العنف المشروع في الدراما السينمائية وعملية تماهي الانسان في الشخصيات المجسدة على الشاشة وخطر هذا التماهي في المشاهد التي تروج للعنف كمبرر لحدث او امر ما.
ملحق: الصوفية والابداع المعارض
خصت الكاتبة ملحق الكتاب بالصوفية والابداع المعارض بحثاً عن معنى الصوفية باعتبارها إبداعاً معارضاً لما اتى قبلها ولما عاصرها، وصولاً الى إستخلاص مواصفات الصوفي المعارض او المبدع المعارض. وهو بحث فلسفي ينحو الى تأويل وتفسير معنى المعارضة وعلى صلة عميقة بكل ابواب الكتاب وإن لم يكن العنوان ينم عن ذلك. فالمرأة كيان معارض بحد ذاته لما حوله، ولهذا لا يجب ان نصلب الاختلاف فقط لانه مغاير لنا وانما علينا ان نسمح له بالظهور كما سمحت الحقب الماضية لافكارنا بالظهور.
* * *
كتاب كلاديس مطر هذا “محاولة لفهم طبيعة العقل النسوي العربي”، مع إقرارها بتعددية هذا العقل نتيجة التجزئة القطرية التي حلّت بالوطن العربي والدهاليز الخاصة التي رصفتها الثقافة المحلية والقوانين الشفهية والمكتوبة في المجتمعات العربية المتباينة. والكتاب هو أيضاً محاولة، بفهم آخر، لمعنى الإبداع المعارض وما هي مواصفاته بالمعنى المعاصر للكلمة في التعبير وفي السلوك.