إسقاط الولاء الشعبي للنظام العربي: في شجب الدماثة الفكرية

أحمد حسين

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة العاشرة ـ العدد 2144)

هل هناك حدود يجب على الدماثة أن تتوقف عندها موضوعيا. نعم! وهي ذات الحدود التي يتوقف عندها المعقول. فالدماثة علاقة اصطناعية مع أمر مشجوب ولا حاجة لها في الحديث عن الأمر المحبوب لأنها تكون من عفوية الموضوع. وحينما يتجاوز المشجوب حدود المعقول في السوء، تصبح الدماثة نفاقا مشجوبا بدورها لأنها لا تكافيء المعقول أو الموضوع. فإذا أكل زيد من جيفة فلا يجوز عقلا ولا موضوعا أن نقول : تناول زيد طعامه. ولكنني رغم هذا التحاذق قررت أن اجرب الدماثة رغم مرارتها ونفوري من اصطناعها وأفكر بهدوء دمث لعلي أخدع أحدا ويوافقني القول.

هل يوافق أحد معي أن العلاقة بين المواطنين العرب وحكامهم غير معقولة؟ ليس لأنها سيئة، فهذا أمر غالب في علاقة المواطنين بالنظام في كل بلاد العالم، ولكن لأنها غير موجودة. فلا المواطنون العرب يشبهون المواطنين ولا الحكام العرب يشبهون الحكام في شيء. هل صحيح أن الحاكم العربي هو في الغالب متعاقد محلي مع أمريكا والصهيونية، وأن شرط توظيفه وبقائه في وظيفته هو أن يكون متماثلا معهما في عدائهما لبلاده ومواطنيها؟ هل هذا معقول؟ الحاكم يكون فاسدا في حدود موالاته لمصلحة النظام على حساب العدالة، ومحاربة أعدائه من المواطنين وليس كل المواطنين. ويكون فاسدا في جشعه ويعتدي على المال العام. ويكون فاسدا في أخلاقه فيسرف في اللهو ويغازل نساء الحاشية كما فعل كلينتون، ولكن كيف يتآمر على سيادته المحلية ويدعو طرفا خارجيا لاحتلال بلاده والسيطرة على ثرواتها وإدارة شؤونها. هل هذا معقول؟ ساركوزي مثل بلير عميل دولي لأمريكا ولكن لو اعتدت أمريكا على فرنسا أو مصالحها فسوف يعاديها بكل قوته. نعم هي والصهيونية هما اللتان أوصلتاه إلى الحكم مقابل التأثير على سياسة بلاده والقضاء على آثار الديغولية، وهو أمر سيء من حاكم ولكنه معقول. فهو لم يبع فرنسا وشعبها واستقلالها ومصالحها القومية وكرامتها، ويدعو المارينز لاغتصاب نسائها وقتل أطفالها. فهذا لا يقبله العقل. وهو لن يقبل أن يرقص مع بوش بالسيف ليبرئه أمام العالم من جريرة قتل فرنسي واحد أو اغتصاب فرنسية واحدة أو إرعاب طفل فرنسي واحد ( تحياتي للسيدة رايس ). فهذا أمر لا يستسيغه العقل ولا هيبة الحكام. أي أنه كما قلنا أمر يتجاوز شرف العقل والموضوع. والمواطنون الفرنسيون لا يهمهم الولاء السياسي للحاكم على الحلبة الدولية ما دام مخلصا لشعبه وبلاده، فهم يعرفون أنهم انتخبوه وخولوه بإدارة الشؤون السياسية، دون أن يخولوه ببيع ثروة البلاد أو كرامتها أو سلامة مواطنيها. وهو أمر معقول في رأيي. هذا هو الحد الأدني من المعقول في علاقة الحاكم بالمواطنين. وكل ما يتجاوزه خللا هو غير معقول، ثم خيالي، ثم سوريالي.

فهل علاقة الحكام العرب بأوطانهم هي غير معقولة أم خيالية أم سوريالية؟

لا هذه ولا هاته ولا تلك. ألعلاقة غير موجودة على هذا المستوي النظامي أبدا. هي موجودة فقط في المستوى السيكيولوجي. الرابط الوحيد هو الخوف المتبادل. وفيما عدا ذلك فلكل عالمه المنفصل. ألحاكم يتوجس من كراهية المواطنين بحكم أنه عدو لهم، وأنه يعرف حقيقة دوره. وهو لا يعطي لهذه التوجسات أية أهمية غير سيكيولوجية ما دام يستند إلى حماية خارجية محكمة. والمواطنون موجودون أيضا في منطقة التجاهل الآمنة، أي في منطقة العزل التي التي حددتها لهم الحماية الأجنبية، منغمسين في الغياب الآمن، ويشكرون الله على كل لقمة يأكلونها، ويحاولون نسيان الحاكم. يعرفون كل شيء وينسونه، فيتحول إلى مرارة سيكيولوجية مطبوعة في النفس الخائفة مما هو أعظم. ثرواتهم منهوبة ويتجاهلون، عدوهم هو ولي أمرهم ويتجاهلون، أفقدهم الحاكم شرفهم الإنساني وحولهم إلى مهزلة بشرية محتقرة ومشجوبة عالميا، ليس في السياسة فقط وإنما في الإعلام والأدب والفن وكل وجوه النشاط البشري ويتجاهلون. لا يوجد أمة لا تفوق هيبتها هيبتهم، وعلمها علمهم، وصناعتها صناعتهم وزراعتها زراعتهم وأدبها أدبهم وفنها فنهم وإنسانيتها إنسانيتهم. سيقول البعض هنا بعض المبالغة. لا! الأصالة في الفن والأدب هي الفن والأدب، والنفاق والرخص والتفاهة والتقليد لا علاقة لها بالفن والأدب. والثبات والتنمية المتجددة والإستقرار وتعدد المصادر وحماية الثروة القومية من الهدر والنهب واستثمارها، والقوة السياسية والعسكرية هي الإقتصاد. فمن الأقوى؟ هل هو الأدب المجهول الهوية في شكله ومضمونه وتملق المضمون للغايات الفردية اللاهثة وراء الشهرة وجوائز السياسة، أم أدب الأصالة ومعاناة الإلتزام بحدود الصدق وعضوية الإنتماء للهم الجماعي؟ هل توفر سيولة بنكنوتية فائضة لدى بعض رؤساء الشركات الأمنية المحلية، التي تحرس الثروة الوطنية من النمو والتراكم، يخصمون منها عمولتهم، ويحولونها مرة أخرى إلى دورة الإقتصاد العالمي مقابل عطور وخدمات وأبراج فارغة من السكان وأسلحة متقاعدة تشترى من أجل تمويل إسرائيل ودعم صادراتها، يسمى اقتصادا؟ وهل الإقتصاد العربي سوى أكذوبة تضيف مخازيها الإستهلاكية الماجنة ندوبا جديدة إلى القبح العربي؟ لا نظم ولا حكام ولا مواطنين في أصقاع العروبة الممتدة عفويا في الغرابة. فراغ سياسي واجتماعي وحضاري وناس لا علاقات بينهم سوى المصاهرة، والتنافس على اللقمة، وصلاة الجمعة. يلف فراغ التجاهل العظيم الفضاء الخامل فينتج ناسا بدون وجود، عليهم حكام يمشون على دمهم ويبولون على إنسانيتهم ويديثون تاريخهم لترضى عنهم أمريكا وإسرائيل. هل هذا وضع غير معقول أم خيالي أم سوريالي؟ لا أحد منها. وضع غير مسبوق في التجربة!

لو اردت استيفاء الوصف، لكنت غير معقول. لذلك الخص فأقول : نحن ذاهبون إلى ما نريد تجاهله. ولكن هناك بحتم الصدفة والإدعاء والحذلقة من هم مثلى من نوادب الحال، يدّعون التورط في المعرفة. هناك حلقات ليست قليلة من هؤلاء بعضهم قوميون وبعضهم إخوان مسلمون وبعضهم مقاومون وبعضهم شيوعيون أو ليبراليون أو يسار أو يمين، وبعضهم بالصفة الشخصية مثلي، والكل يزعم أنه غير متجاهل. إذن دعونا نتساءل بنعومة تليق بدماثتنا:

هل قدمت لنا أمريكا والصهيونية والغربين عموما من الأدلة ما يكفي لنعرف أنهم يرفضون ويشجبون أي وجود للعرب خارج حق الإستباحة والتنكيل والسحق المعنوي؟ هل أثبتوا أنهم يعاملون دمنا كوسيط سياسي بينهم وبين ما يريدون أن نكون عليه. وباختصار هل ينسون في تعاملهم بنا أننا لا نشبه غيرنا من البشر؟ هل قالت السيدة رايس ( تصوروا مدى الدماثة في هذا الوصف ) أن فزع طفل في إسرائيل أهم من دماء أطفال العرب؟ استعملوا كل دماثتكم الفكرية والأكاديمية قبل أن تقولوا نعم أو لا؟

هل هناك لأحد منكم تحفظ على القول بأن (الحكام) (العرب) يشكلون أهم وسائل العدوان الأمريكي والصهيوني على المواطنين العرب، يعني على (الشعوب) العربية؟ هل هم وكالات محلية أجنبية مزروعة في كل الوطن العربي؟ ( لعن الله الدماثة! إنها تشبه المشي على المسامير ) لذلك، وبدماثة أقل، هل يشكل وجودهم تناقضنا الأعظم مع شرفنا الأنساني ومصلحتنا الإجتماعية والوطنية؟

هل هم مصدر استهتار العالم بنا واستهزائه بنموذجنا واحتقاره لنا؟

من أحق منطقيا وعمليا بالعداء الوطني، مبارك ونتنياهو والشابة الشقراء هيلاري كلينتون أم مبارك وعباس والطاقم الخليجي؟ المذكورون أولا يستطيعون أن يعيشوا بدون أن نموت. فالعلاقة بنا بالنسبة لهم فضية سيطرة واستثمار سياسي، وليس قضية حياة أو موت. المذكورون بعدهم شرط حياتنا وحياتهم موت الآخر. إما أن يموتوا أو نموت نحن. أما أن يعيش طرف بدون موت الآخر فهذا مستحيل. قانون الماء والنار. فمن أولى منهم بالعداء إذن؟

والعداء ليس فعلا. إنه محرض دينامي على الفعل فقط. الذي يخلق الفعل هو وعي الحاجة ووعي الحاجة يخلقه وعي المصلحة. وهي كلها أمور لا تتجاوز المعرفة العفوية لدى الكائنات الحية. ولنضع الحاجة في مفهومها الشامل. إنها تعبير عما يحفظ توفره شرط البقاء عند الحيوان، وشرط الوجود عند الإنسان. والذي يتجاهل يريد أن يبقى فقط، أما الذي يريد أن يوجد فلا يمكنه التمتع بمجرد البقاء. بل على العكس من ذلك، يصبح البقاء مكوثا في عذاب الرغبة في الوجود. هذه هي معادلة المصطلح الخاص بالإنسان. والتجاهل قد يفيد شرائح اللاوعي عندنا، ولكنه لا يفيد شريحة الوعي إلا بتجاهل الوعي ذاته، والتعلق بالعجز. ولهم في تجاهل الوعي طرق من وعي السلامة وتوجيهات العقل الباطن الشديد الإخلاص لحب البقاء. وعلى سبيل المثال فقط، هب معظمهم يصفق للصهيوني التركي المعتدل أردوغان لأنه جاد على البؤس الفلسطيني والعربي ببعض عبارات التعاطف الكلامي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. هذا الأردوغان هو أحدى وسائل أوباما الجديدة في نشر سلام التسوية وروح الإعتدال بين عرب وفلسطينيي الممانعة وكأنهم، واذلاه، متطرفون كما تقول عنهم تل أبيب. وهو أيضا يريد بلعبته تجنيد الشعب التركي المسلم إلى جانبه ضد العسكر والدستور العلماني. دور تفوح منه رائحة الدبلوماسية الأوبامية الكريهة في خلافه مع مستوى التشدد في حكومة نتنياهو التي مرغت أنفه البني في التراب، ورائحة اسثمار الدين في التحزب السياسي وصراعات الهيمنة الداخلية. وقد وفر ذلك لكثير من علب الإلتزام الفكرية على اختلاف مشاربها الأيديولوجية ( المتهمة بالتجاهل ) الفرصة للوفاء بحق الإلتزام مجانا. فتأييد الفلسطينيين بالكلام من باب تأييد أردوغان محبذ ( دستوريا ) في العالم العربي لأن التصفيق لآردوغان هو تصفيق للتسوية والإعتدال و(النظام) العربي. والدليل على ذلك أن النظام الإيراني وأحمدي نجاد على صدقهم العملي في دعم الفلسطينيين وحركات المقاومة العربية، لم يحظوا من أولئك الملتزمين ببعض ما حظي به أردوغان المخايل من احتفاء واحتفال. ونعود إلى صلب الموضوع!

إذا كان الجواب من جانب علب الإلتزام القومي والديني واليساري العام على التساؤلات المطروحة أعلاه بنعم، فمعنى ذلك أنهم يعترفون بأنهم يسيرون في طريق مسدود يعتبر السير فيه نوعا من العبث المقصود. وعليهم أن يعترفوا أيضا بأنهم يفضلون تجاهل وعيهم ومواصلة التواجد داخل علب الإلتزام الجوفاء بوعي معطل. وإذا أنكروا أو أنكر بعضهم واقع الحالة العربية كما هي، واعتبرها بالدماثة الفكرية أقل سوءا مما زعمنا، فمعنى ذلك أنه ليس لديه ما يقوله لنا أو نقوله له. فإما أن نكون نحن نهلوس أو هو كذاب. والحقيقة لا تكون بين الهلوسة والكذب.

ولكن دعونا نفترض أن الهلوسة لحقت بهم مثلنا، أو قبلوا بالدليل الماثل للوعي ما زعمنا، وفتشوا عن فعل يناسب حالة عجزنا وعجزهم للخروج من هذه الورطة بين الولاء للوعي والوفاء بالإلتزام، فما هو البديل سوى العنف الثوري ودعوة الناس إلى إنقاذ مستقبل وجودهم الإنساني بالفعل المواجه؟ أعترف أن هذا ليس خيارا للحاضر، فنحن غير مهيئين له حاليا، ولن نكون قريبا كذلك. ولدي اقتراح بسيط يجمع كما أظن بين السلامة وتحقيق الإلتزام بحدوده الدنيا، كما أنه خطوة منطقية على طريق التهيؤ للمستقبل. ماذا لو لجأت علب الإلتزام إلى إعلان حالة الطواريء فيما بينها، وقدمت ضرورات الإنقاذ على ضرورات الأيديولوجيا، وطرحت من وراء ستار سميك عديم الشفافية على المواطنين العرب الإعلان عن حكامهم أعداءا للأمة، ونزع ولائهم عن كل الأنظمة العربية عن طريق التصويت من خلال موقع شخصي للإنترنت في بلد أجنبي؟ ماذا بوسع الحكام العرب أو ملاكهم من الأمريكان والصهاينة أن يفعلوا؟ هل يسجنون عشرات الملايين من المشاركين في التصويت؟ ومن أراد من المصوتين أن ينقل ولاءه إلى إيران فليفعل بوصفها موقع ثوري يواجه أمريكا والصهيونية و(الأنظمة العربية). إن عملا ثوريا معنويا كهذا لا حدود لتداعياته على كل المستويات. سوف ينزع غطاء الشرعية السياسية الكاذبة عن تلك الأنظمة ويضع كل تداولاتها واستخداماتها الدولية في دائرة التحفظ السياسي والإقتصادي والمالي بوجه خاص. وسوف يحيل سيكيولجية السيادة الكاذبة لديهم إلى خوف، وانعدام للثقة بالنفس، وينقلهم من سياق الصعود إلى سياق الهبوط. وعلى صعيد المعنى فسوف يكون هذا لفعل مشروعا شعبيا لاستعادة الكرامة الضائعة لدى المواطنين العرب عموما، ووضعهم جماهيريا على طريق المواجهة الفعلية لأول مرة. وسوف يقوي هذا موقف جيوب المقاومة ويدفع إلى توحدها أو التنسيق بينها. وسيستفيد الموقف الإيراني الشجاع من زيادة رصيده الإقليمي من الدعم الشعبي وهبوط رصيد (الأنظمة) الخليجية إلى درجة قد تساعد على على إسقاطها فعليا أو تدمير نجاعتها الوظيفية إلى درجة دفع أمريكا إلى استبدالها وما ينجم عن ذلك من مناخ سياسي جديد لدى شعوب المنطقة. إيران شرق وحضارة امتزاج فارسي عربي وشريكة في العقيدة الدينية وعدو لأمريكا والصهيونية والنظام العربي التي تهدد معا وجودنا برمته وتدفعنا بكل الوسائل نحو سقوطنا الإجتماعي والثقافي والسياسي، فهل لنا خيار منطقي في وضعنا النادر من منحها ولاءنا المرحلي وتحالفنا معها لمواجهة مصيرنا المظلم؟

نحن الآن نعيش في فراغ جهنمي. لا هوية سياسية أو اجتماعية واضحة، ولا حقوق إنسانية معترف بها دوليا، ولا قومية ظاهرة في الفعل، ولا دين يحترمه أحد غيرنا، فما الذي أمامنا سوى التحالف مع المشروع السياسي والإجتماعي للنظام الإيراني الشقيق الوحيد لنا في المنطقة؟ هل هناك خيار آخر سوى استمرار التجاهل أننا نعيش في تحالف رسمي مع أمريكا والصهيونية من خلال ولائنا الشكلي لفروع شركة ( بلاك ووتر ) العربية؟