سوسن مروّة ـ الأراضي المحتلّة
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة العاشرة ـ العدد 2152 )
– ما ضرورة الحديث عن التطبيع ومناهضته في الوقت الذي يستقبل العرب إسرائيل بالأحضان ويقيمون معها مشاريعهم الاقتصادية وعلاقاتهم الثقافية المشتركة؟
* لكن هذه هي إسرائيل التي اغتصبت أرضنا منذ اتفاقيات سايكس ـ بيكو وهي تغتصب ذاكرتنا وتراثنا.
– “إي.. وشو عَليه؟ شو العيب طالما إنو إسرائيل بتمدّ إيديها للسلام وبدها تكون جزء من العرب..واللي صار صار؟
كان هذا مقطعاً صغيرا من حوار دار بيني وبين أحد المعارف في بيروت في سياق حديث حول المقاومة وجدواها..لقد قال ما قاله وكأن ذاكرته شريحة إلكترونية تم تفريغها وإعادة تعبئتها من جديد بمعلومات جديدة فباتت مسلوخة عن بيئتها وسياقها التاريخي.
كيف يمكن لمن عايش همجية المشروع الاستيطاني الصهيوني، سواءً بالتماسّ المباشر، أو من خلال متابعة ما ارتكبه الصهاينة، ابتداءً بإرهاب العصابات المجرمة قبل ال 48، أي الطرد الشامل لثلاثة أرباع مليون فلسطيني واغتصاب ثلاثة أرباع وطنهم، لإقامة دولة لمستوطنين مستجلبين على الأرض العربية الفلسطينية، مروراً بإرهاب الدولة المبرمج والمنظّم، الذي ارتكب آخر جرائمه في حرب تموز 2006 على لبنان وحرب 2008 على غزة وما زال يحاصر غزة مانعاً عنها الهواء والماء ولقمة الطعام.. إرهاب قام بتهويد مدينة القدس وخنق أهلها وطردهم بالتطهير العرقي الزاحف على منازلهم وما زال وما زال..كيف يمكن أن ينظر إلى إسرائيل بهذا النوع من التسامح اللا مبالي وأن يعتبرها جارة صديقة تنحو نحو السلام؟!
من المؤكد أنه لا يداخلنا الوهم، ولو للحظة، أن اعتبار العلاقة مع الكيان الصهيوني علاقةً طبيعية ليس مقطوعاً أو منفصلاً عن سياق مشروع صهيوني رأسمالي يعمل من ضمن ما يعمل على اختراق الوعي العربي وتشويهه.
إن تجربة استقبال الموسيقار بارنباوم (الذي أيّد مذبحة غزة وأعطى للصهاينة الحق بالدفاع عن أنفسهم) في القصر الثقافي في رام الله ودعوة القائمين على مسرح القصبة للمثقفين العرب ل “كسر الحصار” على الضفة الغربية والدخول أفواجا إلى الأراضي المحتلّة تحت مسمّى التضامن مع الشعب الفلسطيني، وآخر هذه الزيارات كانت من إلهام مدفعي الذي سيقيم أمسية في مدينة بيت لحم بالتعاون مع “وزارة السياحة؟ في سلطة الحكم الذاتي وبتمويل من الوكالة الدولية للتنمية (USAID). هذه وغيرها الكثير من الخطوات والمشاريع التي تنفّذها الكثير من المؤسسات “غير الحكومية” بتمويل من المانحين الداعمين للكيان الصهيوني..كل هذه المشاريع ليست بريئة ولا تأتي في سياق عفوي.
ويعرف الصهاينة أنه بعد تطويع الاقتصاد والسياسة للمشروع الصهيوني المرتبط بالمركز الرأسمالي قد تمّ فتح بوابة الثقافة كي تمارس مهمّتها في هندسة، وإعادة هندسة، الوعي العربي والفلسطيني وإعادة تشكيله بحيث يتقبّل الكيان الصهيوني ويعترف به، مما يعني التنازل عن حقوق الشعب الفلسطيني في العودة إلى وطنه.
مناهضة التطبيع أبعد من الكيان
لا بد من لفت الانتباه إلى المصطلحات والمفاهيم التي يتم تداولها وأوّلها مصطلح التطبيع.
فالتطبيع ليس محصورا في العلاقة المباشرة المحسوسة مع الكيان الصهيوني ولا يطال التطبيع العلاقات الاقتصادية والسياسية فقط، بل إنه يشمل طبقات الوعي ونمط الحياة…التطبيع هو ثقافة أيضاً؛ هو مشروع ممتد ليصبح نمط حياة لدى العرب والفلسطينيين.
فحين تستضيف القنصلة الأمريكية في القدس مجموعة من الفنانين التشكيليين الفلسطينيين في منزلها الخاص وتحتضن معرضاً للوحاتهم، ومن ثمّ تروّج لإمكانية فصل الثقافة والفنون عن السياسة، مع معرفة أن القنصلة تمثّل الإدارة الأمريكية بكل سياساتها العدوانية تاريخيا ضد شعوب العالم أجمع ابتداء بإبادة السكان الأصليين لأمريكا مرورا باليابان وفييتنام وشعوب أمريكا اللاتينية وانتهاء برعاية الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين واحتلال العراق، فإن هذا لَيشكّلُ أبرز مثال على الارتباط العضوي والأكيد ما بين الثقافة والسياسة.
من هنا، فجوهر التطبيع هو تطويع الوعي وتدجينه للوصول به إلى القبول بالكيان الصهيوني كأمر واقع، كحدث لا يمكن التعامل معه إلا في حدود حصر الأضرار نتيجة للشعور بالهزيمة واليأس من إمكانية الوقوف أمام مارد جبار تمّ تخيُّلُه في اللاوعي الذي يريد أن يستكين ويرتاح. ينتج عن ذلك انجرار الوعي وانسحابه إلى فضاء البحث عن وسائل التعاون مع هذا الكيان لإحلال السلام المزعوم وتوطيد أواصر العلاقات معه من موقع نفي الذات الغارقة في الدونية، وتمجيد قوة “الآخر” والإعجاب بنموذجه “الحضاري” إلى حد الترويج له.
وفي الحديث عن المفاهيم: ماذا يمكن أن نقول في الفلسطيني الذي يجلد ذاته الجماعية معتبراً أن الأرض هي لمن يستحقها ؛ وكأني به يقول أن الكيان الصهيوني يستحق أراضي ال48 لأنه عرف كيف يتعامل معها وحوّلها إلى جنّة[1] متساوقاً مع المقولة الجديدة للكيان الصهيوني “لنا أراضي ال48 ولكم ال67”. ويتناسى من يطرحون مثل هذه الفكرة أن احتلال الأراضي الفلسطينية وإعمارها من قِبل الصهاينة جاء في سياق مشروع استعماري إحلالي ذي مصالح مرتبطة بالرأسمالية العالمية ويغيب هذا السياق التاريخي الاقتصادي الاجتماعي عن وعي تلك الفئة من الناس التي تنكر حقّها في الأرض لأنها لا تستحقّها. هذا ناهيك عن أن “النجاح” الاقتصادي للعدو قام على أرض اقتنصها مجاناً ما أعفاه من كلفة المكان كعامل أساسي في نجاح أي مشروع اقتصادي[2]. من هذا الوعي المشوّه المنخور، من موقع دونيّ منبهر بالليبرالية الغربية وقشورها ومن شعور ساحق بالهزيمة، ينطلق المطبِّعون في مسارات تقبُّل “الآخر” (العدو المحتلّ الغاصب) والتماهي معه.
من هنا، فإن من اتخذ قرار التطبيع، سواءً عن قناعة بتفوّق “الآخر” الصهيوني أو دفاعا عن مصالحه المرتبطة بهذا الكيان بشكل مباشر أو غير مباشر، قد حسم أمره في اتجاه إنكار إحقاق الحقوق والدخول في لعبة المطالبة بما يسمح به ذلك الكيان ووكلاؤه من فتاتٍ يتساقط عن طاولة المفاوضات العقيمة.
فتحرّكات التطبيع التي جرت والجارية حتى اللحظة، بوتيرة أعلى وأكثر صفاقة، انطلقت وما زالت تنطلق من اعتبار العلاقة مع الكيان الصهيوني، بما هو “أمر واقع لا فكاك عنه”، علاقة بين جارين “ندّين”، حيث يسود الوهم بإمكانية حلّ الإشكالات و”النزاعات” بين “الجارين” بالحوار السلمي الحضاري!. ولنعترف أن التطبيع قد ضرب أطنابه ووصل لمستويات تزداد خطورتها في الآونة الأخيرة، سواءً في الأراضي المحتلّة أو في الدول العربية بمستويات متباينة.
إنه لمن المحزن أن نصل إلى زمن نحتاج فيه لتعريف التطبيع واجتراح الجمل واستحضار الشواهد كي نقنع الناس بماهيّته وأبعاده ومدى ارتباطه البنيوي بالمشروع الصهيوني.. وفي الواقع لا تحتاج المسألة لعبقرية فذّة أو تفلسف وتنظير فكل فرد يعرف ما إذا كان يمارس التطبيع أم لا..وما الحملات الهجومية على مناهضي التطبيع ومحاولات محاصرتهم وعزلهم باعتبارهم حالة شاذّة وتهديدهم بالمحاكمة، كما في مثال المفكر العربي الفلسطيني د.عادل سماره الذي كان أول من تصدّى لاستقبال بارنباوم في القصر الثقافي في رام الله وتحت رعاية وتشجيع، غالبية أعضاء مجلس بلدية رام الله والعديد من الأحزاب والفصائل الفلسطينية التي لا تملك موقفا حاسما وجذريا من التطبيع نتيجة لارتهانها لسلطة الحكم الذاتي.
عندما نتحدث عن الأراضي المحتلّة، لا يمكن إلا أن نربط مسلسل التطبيع بمحرّكه الأساسي وبوّابته المواربة، وهو سلطة الحكم الذاتي والتي أُطلِق عليها تسمية السلطة الوطنية الفلسطينية لتجذير وهم الدولة العتيدة والاستقلال والانخراط في بناء مؤسسات تعزّز وهم المجتمع المدني مع كل المصطلحات اللازمة لهذه المرحلة (عُدّة الشُّغل) من قبيل السلام، حلّ النزاعات، التسامح وقبول الآخر، إلى ما هنالك من مصطلحات قاموس المرحلة التي نُحِتت لتوفّر تربة خصبة لتدجين الوعي وتهيئته لقبول علاقات طبيعية متسامحة مع الغاصب الصهيوني على قاعدة:عفا لله عمّا مضى.
هنا تكمن إشكالية الموقف والعلاقة مع الكيان الصهيوني، حيث أصبحت سلطة الحكم الذاتي وكيلا وسيطاً ومسوِّقاً لهذا الكيان. وإذا كنا كمجموعات قد بدأنا بالتصدّي لمشاريع التطبيع متأخراً، إما لتقصير في المتابعة والتصدّي أو لضعف إمكانات تحريك الشارع بعد أن تم توجيه ضربة قاصمة لحركة التحرر العربية والفلسطينية وتفكيك الأحزاب التي كان من المفترض بها أن ترفع لواء التصدّي والاشتباك وتحوّلها إلى قطاعات موظَّفة لدى المؤسسات غير الحكومية والتي استقطبت معظم القيادات الحزبية من اليسار تحديداً. وفي السياق ذاته، تمّ خلق شريحة واسعة من الناس المرتبط عيشهم بهذه المؤسسات وبمؤسسات سلطة الحكم الذاتي فباتت إمكانية تحشيد الناس وتحريضهم للوقوف في مواجهة ذلك المشروع التذويبي مهمّة صعبة وعويصة في ظل تفشّي ثقافة الاستهلاك لدى فئة الشباب لا سيما وأنها هي رافعة التغيير والحراك السياسي والاجتماعي.
مناهضة التطبيع والدور العربي
بما أن الشباب هم القوة المحرّكة للتغيير، ولأن لهم احتياجاتهم النفسية والاجتماعية وكذلك الاقتصادية، فإن ماكينة التطبيع تضع كل ثقلها من أجل احتوائهم وتوظيف طاقاتهم وتلبية احتياجاتهم بتوفير مداخيل مالية لا تنتج عن العمل في مشاريع محلية إنتاجية. وأمام غياب، أو ندرة المشاريع البديلة، التي تحتضن الشباب وتؤمّن لهم إمكانات بناء الذات والتطور، أي مشاريع بديلة تحتضن الشباب/ات وتؤمن لهم فضاءات التطور. وفي السياق نفسه، تعمل الكثير من المنظمات والمؤسسات التطبيعية على دسّ سمّ مصطلحات المرحلة في عقول الفئة الشبابية ومن أكبر وأخطر تلك المنظمات منظمة بذور السلام التي تقود أوركسترا التطبيع بين الشباب الفلسطينيين بل والعرب ايضاً.
يمكن للشباب أن يقوموا بالكثير لمقاومة التطبيع بكل مستوياته وبناء ثقافة بديلة ولهذا نقترح التالي:
1) العمل على تشكيل جيوب مناهضة للتطبيع في الدول العربية لا تنحصر في دوائر ضيّقة من النخب ولا تقتصر على مجرّد التنظير، وإنما يتم وضع خطط عملية لتفعيل لجان مناهضة التطبيع وإيجاد آليات التواصل والتعاون في ما بينها كي تتمكن من حشد أكبر عدد ممكن من القواعد الشعبية، وتشكيل مجموعات ضاغطة على الحكومات العربية والمؤسسات في اتجاه القطْع مع ثقافة التطبيع.
في هذا السياق يجدر بنا التأكيد على دور تلك اللجان والهيئات في تعبئة الشارع في اتجاه تفعيل قرارات المقاطعة العربية لكل أشكال العلاقة مع الاحتلال الصهيوني ومع وسطائه من تجار الدم الفلسطيني والعربي القابعين تحت مظلة سيادة موهومة هي سلطة الحكم الذاتي. إن أية دعوة، تحت أيّ مسمّى كان، لدخول العرب، مثقفين وفنانين أو سياسيين، إلى الأراضي المحتلّة تحت مبرّر التضامن مع الشعب الفلسطيني هي دعوة صريحة للتطبيع وهي في الحقيقة تضرّ بالشعب الفلسطيني وبقضيّته التي هي قضيّة جميع العرب.
2) مقاطعة البضائع (الصهيونية الإسرائيلية) ما يتطلّب متابعةً لحركة تلك المنتجات من الكيان عبر المستوطنات وسلطة الحكم الذاتي إلى الأسواق العربية، وهذه المتابعة يمكن القيام بها بالتنسيق ما بين المناهضين للتطبيع في داخل الأراضي المحتلة وبين اللجان والهيئات الناشطة في هذا المجال في الدول العربية وفي الخارج. إن تفكيك بنية الكيان الصهيوني تتطلّب مقاومة المشروع الرأسمالي العالمي الداعم للصهيونية، وبالتالي فإن المقاطعة يجب أن تشمل كل المنتوجات التي تنتجها دول المركز الرأسمالي لاسيما تلك الداعمة للكيان الصهيوني.
3) تفكيك ثقافة الاستهلاك وتشجيع الاعتماد على الذات من خلال إنشاء مشاريع إنتاجية تُموَّل من خلال مساهمات المنخرطين في مشروع المقاومة ينخرط فيها الشباب وكل الفئات المعنيّة بمقاومة المشروع الصهيوني الرأسمالي.
تجدر الإشارة إلى أن هذه المقالة لم تتطرق إلى تفاصيل مشاريع التطبيع التي غزت، وما تزال تغزو، المجتمع العربي والفلسطيني وسنتطرق لها ولغيرها من الموضوعات في مقالات أخرى.
يبقى أن نقول أن قوة المثال لها أثر كبير في توسيع دائرة الناشطين ضد التطبيع والصامدين في مواقعهم؛ ومن هنا يتوجّب علينا التركيز بشكل دائم على النماذج المقاومة والتمثّل بها. إن في الأراضي المحتلة الكثيرون ممن هم في حالة رفض لمشاريع التسوية الرامية لتفكيك مقاومة المجتمع القادر على صياغة مشروع بديل للمشروع الصهيوني؛ لكن أصوات هؤلاء خافتة وغير منظّمة، ومحبطة في بعض الأحيان.من هنا فإن وجود جيوب مناهضة لتلك المشاريع، قادرة على رفع الصوت بحكمة وتنظيم وبشجاعة، هو كفيل باجتذاب تلك الأصوات ومساعدتها على تعزيز ثقتها بقدرتها على المواجهة وإعطائها دورها في بناء مجتمعها.
[1] يعود هذا الخطاب إلى مزاعم وتلاعبات المركز الرأسمالي الغربي بوعي الجماهير في العالم، بان للاستعمار دور إيجابي لأنه نقل “التقدم” إلى بلدان متخلفة، وهذا ما اسموه “الاستعمار الإيجابي”، وهي مزاعم تتغاضى عن ذيح سكان البلاد الأصليي، ناهيك عن أن الراسمالية لم تعمر البلدان التي استعمرتها، فكيف التي استوطنت فيها!
[2] من المعروف ان جميع المستوطنات البيضاء (اميركا، كندا، استراليا، جنوب إفريقيا، نيوزيلندا) أقيمت على أنقاض أمم أخرى وورثت ارضا وبنى تحتية جاهزة مما كان له دور اساس في نجاحها الاقتصادي.