د. عادل سمارة ـ رام الله المحتلة
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة العاشرة ـ العدد 2195 )
كل شيء تاريخي، التاريخ محتوى حي للحياة والأحداث. والإنسان تاريخاني بوعي أو بدونه. لكن سجل التاريخ مرهون دوماً بعاملين:
· حقيقة الحدث والفاعلين والحقيقيين
· ومناخ التسجيل ومصالح من قاموا به.
لذا، في ظروف معينة، لا نعرف بالضبط تاريخ مَنْ نقرأ. ولكن ما يسعف وعينا المعذَب أن التاريخ دوماً للأمام. فرغم وجود قوىً تزيد مغاليقه إلا أنه يعرض دوماً مفاتيحاً لها، والعبرة في مًنْ يلتقط المفاتيح كي يتمكن من فتح ما أُغلق عليه الباب. كيف لا، فلولا المفاتيح التي يعلقها التاريخ أحياناً في أعناقنا لما بقي بشر ولا تاريخ بالطبع. ففي كثير من لحظات التاريخ لا تعرف الناس ابطالها الحقيقيين لا سيما في الأزمات والهزائم وهي بالطبع لحظات قاسية الشروط.
قد يكون هذا حال الوضع الفلسطيني، الذي آل من التحرير إلى التسوية، ومن البعد القومي العربي إلى السيطرة/الهيمنة الأميركية، ومن السلام الحقيقي التاريخاني إلى سلام راس المال، ومن فلسطين من الناقورة إلى رفح إلى فلسطين الضفة والقطاع -“ناقص Minus”. وفي حال كهذا، يتوجب التدقيق في مختلف السجلات، وتحديداً البحث عن الأبطال الحقيقيين لهذا النضال الحامض/المرّْ.
في وضع كهذا يصبح من الأهمية والحتمية بمكان التناول والتعامل بدقة مع الإعلام بما هو سهل المشاهدة وحادّْ التأثير إلى المدى الذي بوسعه، اي الإعلام، خلق رموز للمرحلة كبدائل للرموز الحقيقيين، بل أوطان وهمية، في رموز شعرية بدل الأوطان التي لن تكون إلا تراباً!. ما اكثر ما قرأنا عن وطن الذاكرة، اغتراب الوطن في شخص، وطن المنفى…الخ وكلها إما تألمات صادقة أو تلاعبات بالوعي ونفاقاً، فمن الذي يحمل مبضع الاختبار ليعرف الفارق/الفالق بينهما؟
تتعدد الرموزية في كل مجتمع، وتتحدد أو يتم تبنيها طبقاً لللأهواء والمعتقدات والانتماءات وحتى المصالح. كيف لا، أليس فورد أو بيل جيتس رمزاً لمن يعبدون المال كَ “وّثّنْ”؟
لكي تعرف الرمز لأيٍّ كان، أنظر إلى الصور المعلقة في مكتبه أو منزله أو على شاشة حاسوبه.
لكن هذه هي الرموز الاختيارية لأناس في قطاع ما، ميلٍ ما، مهنة ما، وحتى كأفراد. أما في المستوى الوطني العام، فالرموز هي نضالية بوضوح. وهنا يحصل الخلط. ففي أحيان معينة، يطفو على السطح أُناس ويتحولوا إلى رموز دون جوهر رموزي حقيقي، وتتدحرج كرة الثلج فيصبحون رموزاً لا جدال فيها.
أما لحظة الانكسار النفسي فتكون حينما يصل الرمز إلى درجة ال وَثَنْ، فيغدو من الصعب ، في مرحلة معينة ومناخ معين، نقده أو إعادة تقييمه. في لحظات كهذه تندمج آليتان خطيرتان معاً تؤديان إلى إصابة الجمهور بهستيريا عشق الرمز أو /و بهلع نقده. والآليتان هما الهيمنة والسيطرة. تنخر الهيمنة وعي المستضعفين والبسطاء فيستدخلوا الرمز فيهم كي يعبدوه.
وبالسيطرة يخشى الجمهور أي الطبقات الشعبية نقد الرمز والخروج عليه، أساساً بسبب القمع الجسدي والقمع المعيشي والقمع الإعلامي…الخ. في هذه الحالة يكون المستفيدون من الرمز في وضع التحكم بالقوة والقسر والمال وماكينة الإعلام.
في مجتمعاتنا، يتم ترميز الرمز كحالة قيادية نضالية. وهذه هي البداية الأساسية، لكنها في حالة التشوه والسقوط تصبح مسألة خادعة وآلية هيمنة! ولأنها حالة نضالية يتكون الرموز الحقيقيية هم الأكثرية الساحقة من المناضلين والذين يُرمز لهم ب “الجندي المجهول”. فأي دجل طبقي وقومي هذا؟ فتسمية الجندي المجهول تعني فتح الباب على مصراعية ل توثين، القائد المعروف، او الشاعر أو الكاتب او الخطيب…الخ.
لحظة الانكسار النفسي
لا تشكل عملية التوثين سوى بداية الأزمة بل المأساة. فالوثَن هو حالة أخذ لا يتلوها إرجاع، مما يؤول بالحال إلى ذهاب الوثن باتجاه يتبعه فيه الناس لا يدرون ولا يُستشارون إلى اين؟ فالوثن ليس ديمقراطياً، الوثن نموذج ديكتاتوري يأخذ ولا يعطي، يأمر ولا يسمع!
ألم يقل معاوية ليزيد عن زعيم وقف في بلاط معاوية وهدده، قال معاوية: “هذا الرجل الذي إذا غضب يغضب معه مائة ألف من تميم لا يدرون فيمَ غضب”
وحين يصل الوثن بالناس إلى النهاية المسدودة يكونوا قد تعبوا في الأصل فلا يقوو على إعادة تقيييمه، فيبكون على جثته كالأيتام العجزة ويؤطروها على الجدران الداخلية والخارجية لأنه رُسمت على جدران القلب والوعي!.
هنا تكتمل المأساة. اي حين يسقط الرمز ويخون دون أن يفهم الناس ذلك، حين يكون قد سحب منهم بعملية جراحية مبضع النقد والتجريح، فيروا سقوطه في السياسة أو المنصب أو الرشوة أو التزوير أو اللق…الخ أمراً عادياً إما لأنهم لو يعودوا يقوون على المقاومة، أو لأن الهزيمة قد نالت منهم، فاستدخلوها. .
من هنا وجوب النقد الحامض الحارق لأي رمز يحيد حتى تحت أقسى الظروف. فطالما قبل الرموزية، فعليه احتمال المشقة أو كان عليه رفض الرموزية. ألم يكتب حكيمنا وصوفيِّنا أبا الطيِّب:
لولا المشقَّة ساد الناسُ كلِّهمُ الجود يُفقر والإقدام قتّاَلُ
بكلمة أخرى، إن الطرب من جانب الرمز على الترميز، والتطريب منه للناس هي جريمة كان يجب أن لا يمارسها لأنها تنتهي بهم إلى مأساة ضياع.
من هنا أهمية إعادة قراءة الرموز ونقدها، الإصرار على أن الرمز بشر لا نبي ولا إله. وبغير هذا المدخل سيلفنا ضياع أكبر وأخطر، وعلى مختلف الأصعدة. ولكن، لا يفعل هذه القراءة إلا صاحب الوعي الشقي، الوعي المشتبك، ومن هنا خطر الرخاوة والرخويات.
طالما قبل امرىء ـ رجل أو امرأة – رموزية ما، وخاصة طالما أغوى الناس يأن يوثنوه عليه احتمال الموقف حتى النهاية. عليه أن لا يساوم وأن لا يتراجع وأن لا ينحرف…الخ . فهل يتخيل القارىء رمزاً يساوم على موقفه العقيدي او الوطني أو التنظيمي؟ هل نتخيل رمزاً يهرب من مواجهة العدو بينما يحض جمهوره او حوارييه على احتمال السجون والتأبيدات. هل لأن جلودهم من معدن وجلده من زُبد، جلدهم أسود كالح وجلده أبيضاً، وكأن الإحساس في اللون والعنصر الفيزيائي مختلف من هذا إلى ذاك!. وهل نتخيل رمزاً يمارس التجارة والتزوير والمضاربات المالية والسياسية ويغطي ذلك بخطاب عالٍ!
لا تكمن الخطورة في موت الرمز، موتا جسدياً أو مواقفياً. تكمن الخطورة في تأثير سقوطه على مؤيديه وحوارييه. أما من يحاول نقد الرمز، أو إنزاله عن منصة “شرف الوعي المأزوم” إلى تراب الواقع فله الثبور وعظائم الأمور.
ذات يوم مرض أحد الرموز الذين اقصد وشارف الموت. جائني صديق، وقال دعنا نزور ابا…
قلت: لن أزوره.
قال: لماذا ؟
قلت: لأنه ذات يوم كان يقول عن مواقف القائد الفلاني وعن الرجل نفسه أنه مطلق سيء وبمطلق معنى لدرجة كنت اشعر إلى جانب خطابه انني معتدل ومساوم.
وحين عرض عليه السيىء منصبا ورِياشاً ورائهما قبول التسوية/أوسلو هرول إلى هناك! فهل تعلم اية طعنة وإهانة وجهها لحواريية الذين كان يثقفهم ويعبئهم كل يوم ضد من أنعم عليه بالمنصب!
قال: حينما تموت ماذا سيفعل بك الناس؟
قلت: الناس الطيبة سوف تقول كان مواطناً صالحاً. أما غيرهم، أقصد أوغاد المرحلة (وهذا المصطلح أدين به للرفيق أحمد حسين، لاحظوا اسمه كاسم المتنبي أحمد بن الحسين) فسأعطيك القروش القليلة التي وقعت في جيبي بالصدفة، لكنها ليست وسخة، لتشتري لهم شاحنتين ملأى بالحجارة[1] وليلقوها على حاملي جثماني حتى يرموه ويهربوا.
حين يُصبح المرء/أة رمزاً لا يحق له الخيانة ولا يحق له التقاعد، ولا يحق له المساومة. أو إن فعل اياً منها أن يعلن ذلك للناس ولهم حينها أن يختاروا ما يصنعون به. فعلى الأقل قد يقوموا حينها بالبحث عن الرموز الحقيقية وبهذا يقوموا بوضع لَبِنة في إعادة بناء البلد.
[1] مشهد الحجارة هذا زرع في ذاكرتي منذ يوم السبت 21 نيسان 1963 كنا نتظاهر في رام الله كطلبة كي ينضم الأردن إلى الوحدة الثلاثية مصر وسوريا والأردن، وكانت الحجارة قليلة في ميدان المنارة. مر بنا سائق شاحنة ملأى بالحجارة والطمم، لقبه “زُلَّيط”، وكان لصاً محترفا. كان يقضي يوماً في السجن ويوماً خارجه. تحمس الرجل وأفرغ القلاب على الدوار ومضى، فانتقمنا من الجيش.