آموس عوز: هيام الليبراليّين العرب بإسرائيل

أسعد أبو خليل *

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة العاشرة ـ العدد 2199 )

يريدون أن يجعلوا من آموس عوز صديقاً للعرب بالقوّة. يريدون أن يتوّجوه ملك سلام. الذين أدرجوا بنداً سريّاً في التطبيع مع إسرائيل في مبادرة توماس فريدمان ـــ عبد الله، يهرعون إلى محاولة التأثير العقيم في الثقافة السياسيّة للعالم العربي. ليبراليّو أمراء آل سعود يروّجون بحماسة لآموس عوز ونظرائه. هو في اعتقادهم رمز لمعسكر «السلام الإسرائيلي»: يحاولون إقناع الشعب العربي بصوابيّة الدعوة الصهيونيّة بين ظهرانيهم. هذا المُراد

آموس عوز كذبة. والكذبة هذه جزء من كذبة أكبر: عن «معسكر سلام إسرائيلي». اخترع الكذبة الفريق العرفاتي (بقيادة محمود عبّاس آنذاك) في السبعينات لتسويغ الهرولة وراء الدويلة الفلسطينيّة المسخ، وللاستسلام أمام العدوّ، ومن أجل رمي السلاح بعيداً جداً. كشفهم المعلّق الإسرائيلي جدعون ليفي أخيراً في «هآرتز» عندما قال: «إن معسكر السلام الإسرائيلي لم يَمت. إذ إنه لم يولد قط». لا وجود لمعسكر سلام إسرائيلي. كل ذلك كان اختلاق دعاية التطبيعيّين العرب، ومن أجل إقناع العرب بضرورة وقف المقاومة. وآموس عوز عزيز على قلب الليبراليّة الغربيّة. يكرّمونه إلى درجة يضيق بها أحياناً. يجول ويتأوّه أمام جمهور يرصد حركة جفونه. وهو يذكر المحرقة في جملة، ثم يذكر «الإرهاب» الفلسطيني في الجملة التي تليها.

أنا شاهدت آموس عوز عام 1992 في أميركا. كنت في بداية ممارستي لمهنة التعليم في جامعة «كليّة كولورادو». دُعي عوز لإلقاء محاضرة عامّة. جاؤوا من كل حدب وصوب في الولاية لمشاهدته. الليبراليّون والليبراليّات تقاطروا بالمئات. جلست في مقعد خلفي منزوٍ وكنت أسمع تأوّهاتهم، وأتألّم: كدت أتلمّس بلوغ النشوة عند الحضور. كم كانت غربتي ثقيلة في ذلك اليوم الطويل. أذكر أن تلميذة بريطانيّة وحدها فهمت معاناتي. جلست بجانبي وقالت مُتعاطفة حتى قبل أن يبدأ عوز بالحديث: ما الخطب؟ أنا أقرأ تعابير وجهك. قلت لها: لو أتى محمود درويش إلى هذه الجامعة لما دعا العرب إلى اعتبار إسرائيل كـ«مخيّم للاجئين» مثلها مثل صبرا وشاتيلا!

كان واحدٌ من هؤلاء سيأتي. قالت: لا تظلمني. ظلمتُها، تلك التلميذة. طفق عوز بحديث لا ينفكّ عن تكراره في مقالاته وفي محاضراته. ازداد ضيقي. شعرت بالاختناق. أذكر أنني كنت أردّد في نفسي ما أحفظ من أشعار عن فلسطين: حتى تلك القصيدة المزعجة للأخطل الصغير («ضجّت الصحراء تشكو عريَها، فكسوناها زئيراً ودخانا»، فيما كانت الجيوش العربيّة تتمنّع عن القتال، أو تطلق النار بعضها على بعض). أسر آموس عوز الحضور. كدت أنفجر. زها أنه لم يكن يوماً لاعنفيّاً، وانه فخور بقتاله في جيش العدو في حروب مختلفة. ثم أقحم المحرقة (كما يفعل الصهاينة دوماً، وكما يفعل أحمدي نجاد) في الحديث، وتحدّث عن علامات انهيار المجتمع (النازي)، وكيف أنه يبدأ بسوء استعمال اللغة. صفّقوا له طويلاً ووقوفاً.

جاء دوري، أو بالأحرى، سرقتُ دوراً. وقفت وتوجّهتُ للحضور (لا له، التزاماً بالمقاطعة القاطعة للعدوّ) دون دعوة من أحد، ما خلا أياد نور الدين المدوّر، شهيدي ورفيقي أنا: قلتُ، تحدّثَ إليكم هذا عن سوء استعمال اللغة ولم يدرِ أنني كنت أعدّ المرّات التي ألصق فيها كلمة فلسطيني بكلمة إرهابي في تسلسل جمله: أكثر من 27 مرّة بالتمام والكمال. ولماذا لا يُعتبر ذلك من المؤشّرات إلى انهيار المجتمع الإسرائيلي وإلى نيّاته العدوانيّة؟ وسألتهم عن الإرهاب: حدّثتهم عن إرهاب إسرائيل عام 1982 وعن مشاهداتي بأمّ عيني، وكيف أن جيش العدو قتل من الأطفال أكثر من أيّ تنظيم ممّا يُصنّف أميركيّاً بـ«الإرهابي»، ثم أفضتُ وختمتُ ساخراً من تكريم أمثاله في أميركا. تقدّم عوز نحوي وأتى ليحاول أن يصافحني ـــــ هذه بعض من ألاعيبهم كي يبدوا أمام الجمهور الغربي بمظهر الوادعين ـــــ فنهضتُ عن كرسيّي وخرجتُ. (هل يخدش موقفي هذا حياء الليبراليّين العرب، ويحرج أوامر بن سلطان وبن سلمان؟) قال لي تلاميذي في ما بعد إنهم لم يروني على هذه الشاكلة من قبل. قلت لهم: وهل شاهدتم شظايا غسان كنفاني ولميس، أنتم؟

ومنذ التسعينات وإعلام آل سعود يتبنّى منطق الاستسلام مع إسرائيل عبر المبالغة في حجم (مع أنني لا أعترف بوجوده) ما يُسمّى معسكر السلام. جريدة «الحياة» وغيرها نشرت مدائح في شمعون بيريز، وصار فوز حزب العمل في الانتخابات بمثابة تحقيق الأمل والظفر بالنصر. وإبراهيم العريس (الذي اعتبر قبل سنة أن «مبادرة» الملك عبد الله في الحوار بين الأديان وبين شمعون بيريز هي أعظم مبادرة في تاريخ البشريّة قاطبةً) دعا محطة «الجزيرة» والإعلام العربي عامّة إلى استضافة آموس عوز بسبب مواقفه الإيجابيّة (حسب رأيه). وصدور كتاب «قصة عن الحب والظلام» كان مناسبة لكي يطلق الإعلام السعودي حملة واسعة لحث العرب على الهيام والغرام بآموس عوز وغيره من الصهاينة (صار الإعلام السعودي والحريري يتحدّث عن ضغوط على نتنياهو من «اليمين» في حكومته، وأن ليكود أصبح وسطاً أو يساراً في مقياس الإعلام العربي، الذي يتعامل مع «كاديما» كأنه ينتمي إلى اليسار المتطرّف). وجريدة «نيويورك تايمز» نشرت مقالة طويلة عن النسخة العربيّة للكتاب، وضمّنتها استشهادات بعبده وازن وتعليقات صلفة لعوز، دعا فيها العرب لتقبّل إسرائيل كـ«مخيّم للاجئين» مثله مثل المخيّمات الفلسطينيّة. هذا التشبيه الغبي يريد لنا أن نقتنع بأن الدولة التي تلقّت أكثر من مئة مليار دولار من أميركا فقط منذ الستينات، والتي تملك ترسانة هائلة من أسلحة الدمار الشامل والتي قصفت في تاريخها تونس والسودان ومصر ولبنان وفلسطين والأردن وسوريا والعراق، والتي اجتاحت الدول العربيّة المُحيطة بفلسطين، هي صنو لمخيّم صبرا وشاتيلا. وعظ آموس عوز العرب، والعرب استمعوا مُنصتين (ومنصتات)

لكن عبده وازن طلب من العرب بمنطق العارف (دوماً) ضرورة قراءة عوز وجزم أن الرجل يساري. (ووازن يزلّ ويختلّ عندما يتحدّث عن الأدب غير العربي، إذ إننا نذكر أنه دعا العرب إلى قراءة الكتابات «الفكريّة» لسولجنتستين (لا كتابات فكريّة للرجل)، كما دعاهم لقراءة مذكّراته (وهو لم يكتب مذكّرات، إلا مقالة واحدة عن حياته). وزاد وازن، الذي لا يفقه العبريّة، كلاماً عن إسهامات عوز في «إحياء» اللغة العبريّة. لو أن موضوع إحياء اللغة العبريّة يشغل بال وازن لقرأ ما كتبه من أحيا بحق وحقيق اللغة العبريّة، أعني مؤسّس ما يُسمّى «الصهيونيّة الثقافيّة»، «أحد هاآم» الذي كتب نقداً للممارسات الصهيونيّة عام 1891 وقال إن الشعب الفلسطيني لم يترك أرضاً لم يزرعها، بخلاف الدعاية الصهيونيّة عن «تزهير الصحراء». كما أنه نشر مقالة عن اعتقاد اليهود المهاجرين في فلسطين بأن العرب هم «كالحمير»، ووصف كيف أن المهاجرين اليهود يضربون الفلسطينيّين لأتفه الأسباب. (راجع كتاباته السياسيّة في كتاب «مصارعة صهيون»). آموس عوز لم يقترب في نقده من درجة نقد «هاآم». وازن يقول إن عوز «معروف عنه إدانته الدائمة لأعمال إسرائيل العسكريّة (بالحرف في نص وازن) ضد الفلسطينيّين واللبنانيّين. («الحياة»، ا آذار، 2010). ليس هذا آموس عوز، ولم يقرأ وازن ما كتب عوز عبر السنوات. لا يمكن مَن قرأ آموس عوز أن يصدر الحكم الذي أصدره عبده وازن عنه. إلا إذا كان وازن قرأ مخطوطات غير منشورة للرجل، لكن الحكم يكون على ما نُشر.

لا، لم يدن عوز جرائم الحرب الإسرائيليّة ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني، إلا إذا اختلط الأمر على وازن وظن أن عوز هو الاسم الحركي لأبو ماهر اليماني (مع الاعتذار الشديد من الرفيق الحبيب أبو ماهر). عوز، كما كتب لي نورمان فنكلستين في رسالة عن موضوع عوز، «انتظر إلى اليومين اللذين سبقا انتهاء الحرب، قبل أن يبادر هو وغروسمان ويهوشا للدعوة إلى مؤتمر صحافي، مؤكدين أن الحرب هي بالتأكيد مُحقّة وأنه حان الأوان لوقف النار». لكن عوز لم يدن الحرب. هو يختلف فقط حول عدد الأطفال الذين يتوجّب قتلهم في جرائم حرب إسرائيل. وقد دان حزب الله وحمّله مسؤوليّة العدوان الإسرائيلي على لبنان (لاحظوا أن أبواق اللوبي الإسرائيلي في الإعلام السعودي الحريري يتحدّثون اليوم عن «حرب إسرائيل ضد حزب الله» كأن الكيان الغاصب يحيّد المدنيّين والمدنيّات). من أين استقى وازن معلوماته؟ هل تحتوي مكتبة خالد بن سلطان الخاصّة على مراجع غير منشورة عن عوز هذا؟ لا يحتاج الأمر إلى طلاسم أو إلى عقاقير «أمانا كير». لنعد إلى نصوص الرجل المُحتل (كل إسرائيلي هو مُحتلّ حكماً، حتى الأطفال والنساء، هذا من دون تسويغ قتل المدنيّين طبعا).

لنرجع إلى كتابه الأهم، «ميخائيل شلي». ظهر العربي في القصّة بصورة التوأمين، خليل وعزيز. وتصويرهما يتضمّن النمطيّة العنصريّة على أشدّها. فهما صامتان («لا يحبّان الكلمات» (ص. 28 من النسخة الإنكليزيّة)) وقذران. حتى بياض عين عزيز كان «قذراً» (ص. 47). وفي مشهد يُلخّص النظرة الصهيونيّة للعرب، يدبّ واحدهم كالبهيمة على أربع، ويغتصب هو وأخوه الضحيّة اليهوديّة التي تصرخ. (ص. 47) طبعاً، بالإضافة إلى الاغتصاب، يلهو التوأمان بالقنابل اليدويّة (ص. 105) ويستوي القتل والاغتصاب في تصوير العربي. حتى الأطفال يسألون عن قتل العرب العرضي في الكتاب. هذا هو آموس عوز. وفي كتابه المُترجم حديثاً إلى العربيّة («قصة عن الحب والظلام»)، يرد اسم «العرب اللئام» مقروناً بـ«الحيوانات البريّة» (ص. 10، من النسخة الإنكليزيّة). والعرب، عنده هذا، مثل النازيّين، على وشك ارتكاب «البوغروم» (ص. 11) ، مع أن الكلمة روسيّة واجترحت لتصوير أفعال غير العرب ضد اليهود في روسيا القرن التاسع عشر. ويسهل الكذب على عوز الذي يشير إلى أن العالم دعم العرب في حروبهم ضد إسرائيل (ص. 23)، فيما يقول إن العالم تخلّى عن إسرائيل. يريد أن يستدرّ دموعكم. وكأن القنابل النوويّة والجيش الصهيوني الحديث هم من عطايا السماء. ولن يلاحظ عبده وازن وغيره من المُروّجين لعوز في الإعلام السعودي أن الأخير تحدّث عن «كل أنواع الحشرات الآسيويّة والزواحف المُجنّحة المُقزّزة التي أتت مباشرة من القرى العربيّة أو أفريقيا». (ص. 78). لكن ما العجب في تستّر كتّاب عرب على عنصريّة الصهيونيّة، فيما هم امتهنوا التستّر على قمع المرأة وكل من هو «آخر» في مملكة القهر الوهّابيّة؟ هؤلاء الليبراليّون يصومون عن الكلام، فيما ينتظر رجل لبناني في السعوديّة (أدين بـ«الشعوذة») قطع رأسه في ساحة عامّة. لم يشر عبده وازن إلى عنصريّة الكتاب المُترجم حديثاً، فيما كان يدعونا إلى التلمظ ونحن نقرأ عوز بالعربيّة.

أما اليسار، فعلاقة عوز به مثل علاقة نصير الأسعد باليسار. عوز هذا اعتنق عنصريّة أوروبيّة دفينة ضد اليهود الشرقيّين، وحمّل هجرتهم هم من دون تردّد مسؤولية صعود اليمين في إسرائيل (راجع مقالته في مجلة «النيويورك تايمز»، 11 تموز، 1982). اليساريّة لهذا الرجل تتمثّل في صهيونيّة بن غوريون الذي سوّق الصهيونيّة يساريّةً في علاقته بالمسعكر الاشتراكي، وسوّقها غربيّةً «حرّة» في مؤتمر «بلتمور» عام 1942 في نيويورك من أجل كسب تأييد روزفلت. وعوز يقبل جرائم العصابات اليهوديّة في فلسطين لأنها كانت لحماية المهاجرين المُحتلّين من «اعتداءات العرب». ولا يتورّع عن استسهال تزوير التاريخ، وخصوصاً عندما يكتب لجمهور غربي. ها هو يقول إن حرب 1967 التي شارك فيها بفخر كانت «معركة مُبرّرة من أجل حماية إسرائيل الذاتيّة» (راجع ص 2 من كتاب «إسرائيل، فلسطين، السلام»). يختلق ظروف الحروب ويختلق ظروف بشاعة دولة إسرائيل ويعزو تلك البشاعة إلى «محاولة العرب الوحشيّة تدمير إسرائيل» (مقالة المجلّة المذكورة أعلاه). مَن من المؤرّخين يستطيع أن يوافق عوز في دعايته عندما يتحدّث عن «الروح الإنسانيّة والمُحبّة للسلام» التي رعت إنشاء إسرائيل؟ اسألوا ضحايا دير ياسين عن تلك الروح، ليتحدّثوا بإسهاب.

هذا الرجل الذي يكيل عبده وازن له المديح يعتبر في كل كتاباته أن الحركة الصهيونيّة هي «حركة تحرير وطني» (راجع مقالته في مجلّة «إنكاونتر» عام 1982). ولا يتورّع عوز عن ذم الشعب الفلسطيني كلّه لأنه لم «يظهر تعاطفاً لمعاناة اليهود». طبعاً، من الحسن أن تظهر كل الشعوب التعاطف بعضها نحو بعض، ولكن متى كان التعاطف شرطاً للتحرّر؟ لم يُطلب من الشعب الأسود في جنوب أفريقيا أن «يتفهّم» معاناة العنصرّيين البيض كشرط للتحرّر، على حسن التفهّم والحساسيّة البشريّة بصورة مبدئيّة. ثم، هناك من ضحايا الويلات من لا يبدون حساسيّة نحو الغير، وهذا ينطبق على بعض ضحايا المحرقة، مثل إيلي فيزيل الذي بكّر في مساواة الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة بـ«النازيّة». كما أن عوز في تحليلاته ينزع دوماً إلى تصوير نمطي مهين بحق كل العرب، مُطلقاً أوصافاً وعقداً عليهم، من نوع عقدة «صلاح الدين التدميريّة». لو أن عربيّاً أطلق أوصافاً من هذا النوع على اليهود، لثار ليبراليّو آل سعود (الذين لم يحرّكوا ساكناً للدفاع عن الرفيق سماح إدريس، فقط لأنه ليس من ديدنهم)، وطالبوا بقطع رأسه. عوز يجمّل الاحتلال ويصفه بـ«الإدارة العسكريّة» ويشيد بـ«عمق» الديموقراطيّة في إسرائيل (راجع مقالته في «فرنكفورتر ألغماينه تزايتنغ»، 3 أيار، 1990). ويهوّن عوز من وطأة الاحتلال (طبعاً، أمثال هؤلاء وأقرانه في الإعلام العربي لا يعتبرون الاحتلال الصهيوني لأراضي الـ48 احتلالاً)، ويلوم «الصراع» العربي الإسرائيلي في المطلق لنشوء احتلال الضفة والقطاع («الغارديان»، 23 و24 ديسمبر، 1989).

هذا الرجل لم يقرأه عبده وازن (وهذا أفضل من افتراض أنه قرأه ولم يلاحظ عنصريّته الدفينة)، الذي يبدو أنه قرأ ما كُتب عنه في الإعلام الغربي الصهيوني. آموس عوز تعاطف مع فلسطين ولبنان؟ أين، متى وكيف؟ هذا الذي قال إن منظمة التحرير هي «مستمرّة في التقليد الوحشي المقيت الذي (بدأته) القيادة الفلسطينيّة المتعصّبة التي جلبت الويلات تلو الأخرى على شعبها». («منحدرات لبنان»، ص. 28). هل يختلف كلامه عن كلام نتنياهو؟ وهو واضح في أنه ينصح لـ«أنصار سلامه هو» في جيش المحتل بأن ينفّذوا ما يُطلب منهم من أوامر في غزو بيروت حتى لو كانت «لقطع الكهرباء عن بيروت». (ص. 38) أي «تواصل» إنساني يرومون مع هذا الرجل؟ يجرؤ مؤيّد كل حروب إسرائيل هذا أن يتهم حركة المقاومة الفلسطينيّة بـ«الإبادة الجماعيّة»؟ (ص. 86). يريدون من الشعب العربي أن يُترجم وأن يقرأ (وأن يموّل) الكلام العنصري ضدّه. هذا المسالم الذي يصيب ليبراليّي العرب بتأوّهات إنسانيّة يقول إن المسؤوليّة «الأساسيّة (للصراع) تتحمّلها الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة ومؤيّدوها في الدول العربيّة وسائر العالم. إن الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة هي، أنا أعتقد، واحدة من أكثر الحركات تعصّباً وشرّاً وغباوة». (ص. 236 من كتاب «منحدرات لبنان»).

هؤلاء الليبراليّون العرب (الاسم الحركي لأبواق آل سعود وآل الحريري وآل نهيان)، ماذا يريدون؟ صفاقتهم لا حدود لها. يريدون من الشعب الفلسطيني أن يقتطع للحركة الصهيونيّة نحو 78% من أرض فلسطين الغالية، ثم يطالبون هذا الشعب بأن ينحني أمام أحذية جيش الاحتلال. ثم يطالبونه بأن يقرأ ويطالع ما يكتب صهيونيّو الكيان الغاصب آه، كم تطربني عبارات اللغة الخشبيّة، وكم تصيبني بالنشوة ؟ ثم، نسأل عبده وازن وغيره، لماذا يشدّدون على ضرورة أن يقرأ الشعب الفلسطيني كتابات إسرائيليّة؟ لماذا لا يطالبون العربي بقراءة الأدب الأفريقي أو اللاتيني مثلاً؟ الهدف السياسي لا يخفى من كلامهم المخضّب بحبر تطبيع مبادرة الملك عبد الله للانحناء أمام إسرائيل. إلياس خوري يرى أن ترجمة الأدب العبري إلى العربيّة «ضرورة ملحّة» وذلك «من أجل أن نتواصل على المستوى الإنساني العميق»! ضرورة ملحّة؟ لماذا؟ ضرورة تفوق ضرورة المقاومة العسكريّة للاحتلال؟ على الشعب الفلسطيني أن يُقتل على يد الإسرائيلي (وعلى يد آموس عوز وغيره ممن خدم في جيش العدو وقتل لنا وجرح إخوة وأخوات)، وأن يقابله الفرد الفلسطيني بقراءة أدبه؟ ولماذا تكون ترجمة الأدب العبري أكثر

الليبراليّون العرب هو الاسم الحركي لأبواق آل سعود وآل الحريري وآل نهيان

إلحاحاً من ترجمة الأدب الإسباني، مثلاً؟ افهمونا، أرجوكم. ثم، ما هو هذا «المستوى الإنساني العميق» الذي يتحدّث عنه خوري؟ أنا وجدت نفسي وأنا أعيد قراءة كتابات عوز لكتابة هذه المقالة، أشعر بالحنق والغضب ضد عوز ومَن لفّ لفّه من كتّاب «السلام» في إسرائيل (أي كتّاب الحرب في المحصّلة النهائيّة) وليس بـ«التواصل الإنساني العميق». لعلّي أفتقر إلى المذاق الليبرالي الذي يتيح لهم، لا لي، التواصل على المستوى الإنساني العميق.

طبعاً، القراءة مفيدة مهما تكن، وبأيّ لغة وعن أيّ كان. والجماليات (الموسيقّية أو الفنيّة أو الفلسفيّة) قد تأتي من أعداء في السياسة (فاغنر، أو بوب ديلن أو حنة أرندت أو مارتن بوبر أو فرانك سيناترا). والكاتب الفذّ ألبير كامو الذي لا يمكن تجاهله كان متعاطفاً مع الاحتلال الفرنسي في الجزائر (لن ينقذ سمعة الرجل كتاب ديفيد كارول الجديد، «ألبير كامو الجزائري»، الصادر عن جامعة كولومبيا). لكن هناك مبدأ المقاطعة القاطعة. ترجمة عوز في دار الجمل أو نشر كتاب لأبا إيبان في دار الساقي يعنيان المساهمة الماليّة في دعم جنود الكيان الغاصب ومؤسّساته. هؤلاء يتلقّون ريعاً عن كتبهم. أنا شاهدت، مثلاً، فيلم «فلتز مع بشير»، لكني حرصت على اقتناء نسخة مُقرصنة (اطلبوا الفيلمَ ولو في الصين) حتى لا أسهم بدعم موازنة الكيان (مع أن ضرائبي هنا في أميركا تذهب، يا لألمي، لدعم الكيان). يمكن قرصنة الكتب المذكورة أو نشرها على الإنترنت، إذا تعطّشتم لقراءة عوز. أنا سأقتني نسخاً من الأدب العبري وسأقرأها على شرفة في بيت قرية في الجليل على فراش أحمر وأخضر، ولكن بعد تحرير كل فلسطين، لا قبله. عندها، سأطلب من السكان اليهود في دولة كل فلسطين أن يقرأوا إذا أرادوا أدب الأكثريّة من السكان. لن أفرض ذلك فرضاً، ولن أجعل من ذلك مقياساً للإنسانيّة.

::::
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com

“ألاخبار”، ٢٠ آذار ٢٠١٠

http://www.al-akhbar.com/ar/node/182047