قصة قصيرة: سجادةُ الصلاة

كلاديس مطر

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة العاشرة ـ العدد 2207 )


عندما طوى سجادةَ الصلاةِ في هدأةِ الفجرِ. كان البوليسُ الفدراليُّ الأميركيُّ يقرعُ بابَهُ بشيءٍ من الحِدّة. كان ذلك في إحدى أحياءِ مدينةِ اناهيم، احدِ المناطقِ المعروفةِ في مدينةِ لوس انجيلس. ولأن القرعَ كان شديداً و مُلحاً، وفي هذا الوقتِ بالتحديدِ فقد استدعتْ الضجةُ اشتعالَ بعضِ الاضواءِ في البيوتِ المجاورةِ، واستيقاظِ الزوجةِ. وعندما فتحَ السيدُ احمد عبدلله بابَ منزلهِ الذي يتألفُ من طابقينِ وحديقةٍ وملعبٍ خلفيٍ للصغارِ، وجدَ رجالاً ببذّاتٍ سوداءَ أنيقةٍ امامهُ يُعلنوا عن أنفسهمْ ويسألونهُ الدخولْ.

اليومُ بالذاتْ انْهى أحمد عبدلله سنيَّهُ الثلاثينَ في هذهِ البلدْ. انهُ مواطنٌ عربيٌ اميركيٌ يتمتعُ بكاملِ الحقوقِ المدنيةِ والقانوينةِ كأيِّ مواطنٍ آخرَ من الدرجةِ الأولى.. حتى ولديهِ لهما الحقُّ أن يترشّحا إلى رئاسةِ الجمهوريةِ من دونِ أن يُنغصَ هذا الحلمَ أيُّ شيىءٍ. أما كونهُ مسلماً فأمر لم يتأثر لا بطرقاتِ البلدِ السريعةِ اللانهائيةِ ولا ناطحاتِ السحابِ، وإن كان قد عانى الأمرّينِ لدى تربيةِ طفليهِ الذينِ لم يستطيعا أن يحققا هذا التوازنَ بين عالمٍ شديدِ الانتماءِ لقوانينهِ المدنيةِ، شحيحِ الروحانيةِ وبين مبادىءِ العائلةِ الاسلاميةِ، فتطرفَ الأولُ في ايمانهِ بينما لم يلتزمْ الآخرُ بشيىءٍ، فبقيَ لا معلقاً ولا مطلّقاً كأغلبِ جيلِ الشبابِ من الاميركيينَ العربْ.

– تفضلوا (رد أحمد على طلبِ أحدهمْ بالدخولْ).

– شكراً.. (باقتضاب)

– نعم، ما الأمر؟!

– أولاً نحنُ آسفينَ لمجيئِنا في هذا الوقتِ، وللإزعاجِ ولكنكَ تعرفُ، كونُكَ تعيشُ هنا، كم هي مُلحةٌ الأمورُ المتعلقةُ بالأمنِ القوميِّ وسلامةِ البلاد …

– طبعاً، أعرفُ هذا الأمرَ وخصوصاً الآن …ولكنْ اريدُ ان اعرفَ لماذا انتمْ هنا وما دخلي أنا بكل هذا.

– الحقيقةُ، كما تعلمْ، أن أيِّ عربيٍّ هو اليومَ تحتَ المراقبةِ سواءُ كانَ حاملاً لجوازِ السفرِ الأميركيِّ أم لا … ونحنُ لدينا مستنداتٌ تثبتُ انكَ على علاقةٍ بمنظماتٍ غيرِ مقبولةٍ من حكومةِ أميركا ولها نشاطاتٌ ارهابيةٌ.

– ولكن..

– اسمح لنا ان نطلعكَ على الحقيقةِ كاملةً … من دونِ مُقاطعةٍ..

– أيِّ حقيقةٍ !! انتم مخطئونَ في العنوانْ … انا ليسَ لي علاقةٌ باحدٍ وانتم تعرفونَ ذلك وإذا كانت تهمتي كوني مسلماً فقط، فأنا مسلمٌ وسأبقى.

– اهدأ يا سيد عبدلله. ان لدينا وثقائقٌ مكتوبةٌ وشرائطٌ مسجلةٌ بصوتكَ ومراسلاتٌ بينكَ وبينهمْ.

– انا برىءٌ من كلِّ هذا وأقولها مُقدماً.

– انك فوقَ هذا مواظبٌ على شعائرِ دينكَ وهذا أمر يزيدُ الطينَ بلّةً …

– ماذا …؟!

– علاوةً على ذلكَ لم تستطِعْ هذهِ البلد يا سيد عبدلله ان تتركَ اثرها المدنيِّ على شخصكَ … نحنُ نعرفُ ان احدَ اولادِكَ مسلمٌ ملتزمٌ كما نعرفُ انهُ يذهبُ كلَّ يومٍ ليستمعَ إلى خطبةِ الجمعةِ في جامع مدينةِ أناهيمْ. ونحن نعرفُ ماذا يعني أن يُطلقَ شعرَ لحيتِهِ بِهذه الطريقةِ ويصرُّ على ارتداءِ الأقمصةِ من غيرِ ربطةِ عنقْ.

– ماذا … ولكن …!

– ونعرفُ ايضاً ان بريدَكَ يحملُ اليكَ كلَّ يومٍ المنشوراتِ الاسلاميةِ والكتبَ

والنسخَ الجديدةَ من القرآنْ.

– ولكنها حريتي الشخصيةِ..وانا لا اؤذي احداً ولا اتدخلً بشيء !

– على كلِّ حالٍ.. نحنُ نريدكَ ان تاتي معنا لتتعرفَ على صوتِكَ على الشرائطِ، وترى بأمِّ عينكَ المراسلاتِ التي اعتبرناها مُهدِّدّةً لأمننِا القوميِّ. وارجو ان لا تخلطَ الاشياءَ بعضَها ببعضٍ، فنحنُ لا نتحاملُ على الإسلام بذاتهِ ….

يصمتُ السيد احمد عبدلله مفكراً، ثم يطلبُ منهم بصوتٍ خفيضٍ مستسلمٍ ان يمهلوهُ لكي يرتديَ ملابسَهُ ويذهبَ معهمْ.

خرجَ الجميعُ قبلَ ان تبزغَ شمسُ لوس انجيلس، بعد ان تركَ احمد عبدلله زوجتَهُ بينَ القلقِ الشديدِ والذهولِ، اما ولديهِ اللذينِ غادرا المنزلَ منذُ ان بلغا العشرينَ من عمريهِما، فقد علما للتوِّ بأمرِ القاءِ القبضِ على والدِهما من امهما التي استدعتهما على عجلْ.

اليوم يكتملُ وجعُ الغربةِ ويصلُ الى مداهُ متمطياً. رصيدٌ ضحلٌ من الوهمِ عمرهُ ثلاثونَ عامًا. مواطنةٌ خياليةٌ وديمقراطيةٌ مزيفةٌ خارجُها القانونُ المدنيُّ وباطنُها الترهيبُ باسمِ هذا القانونِ بالذاتْ.

وفي الطريقِ الى (هناك) اخذَ احمد عبدلله يلعنُ ساعةَ قدومهِ الى هذهِ البلد ويلومُ وطنهُ معاتباً كيفَ تركهُ(يخرج) من رحمهِ و يُيممَ وجههُ شطرَ احلامِ اليقظةِ. لقد انكسرَ وطنهُ الثاني الافتراضي كآنيةِ الزجاجِ امامهُ وتطايرَ الى ذراتٍ امامَ عينيهِ بلمحِ البصرْ. لو اعتُقِلَ في بلدهِ لظلَّ مُعلقاً فيهِ، لبقيَ في قلبهِ ولناضلَ من اجلِ حريتهِ، اما هنا فقد تحولتْ الدنيا حولهُ الى غربةٍ مكثفةٍ مجسدةٍ. انه حتى توقفَ عن فهمِ الانكليزيةِ واخذتْ كلماتُ رجالِ الشرطةِ في الطريقِ تصلُ الى مسامعهِ متآكلة مبتورة. ولوهلةٍ شعرَ ان عقدةَ حلتْ على لسانِهِ وتركَ نفسَهَ للذهولِ كأبكمٍ.

ومن جديدٍ اعادوا عليهِ النغمةَ نفسَها عندَ وصولهِ واعلموهُ انهُ سيمكثُ قليلاً قبلَ ان تبدأَ الجولةُ الثانيةُ من التحقيقاتِ، وأنه ليس مسموحٌ لهُ ان يطلبَ محامياً للدفاعِ عنهُ، وأن عليهِ الانتظارْ. الأمرُ الذي كان منافياً لقوانينَ البلدِ المدنيةِ ولحقوقِ الانسانْ.

وابتسمَ اخيراً وهو في الغرفةِ شبهِ المظلمةِ التي تركوه فيها، وأخذ يقارنُ ديمقراطيةَ العالمِ الثالثِ بالعالمِ الأولِ، وكلما أمعنَ في ذلك كلما اشتدتْ ابتسامتُهُ الى أن سقطَ على الارضِ من شدةِ الضحكْ. ولم يسترعِ صخبُهُ قدومَ احدٍ، ولم تحركْ ذبذباتُ صداه، السكونَ في المبنى، او يدفعْ احداً ما لكي يسترقَ السمعَ. فكل من يدخلُ هنا يدخلُ مذهولاً ويخرجُ نصفَ مجنونْ. وهذهِ هي القاعدةُ.. القاعدةُ !! اعوذُ باللهِ من هذهِ الكلمةِ التي اصبحتْ من مرادفاتِ الشيطانِ او اللعنة !

وبقي احمد عبدلله على هذهِ الحالةِ لمدةِ شهرينِ لم يستطعْ خلالها ان يلتقيَ بولديهِ او زوجتهِ ولم يكنْ يُسمحُ لهُ ان يطلبَ محامياً او يقومَ بأيِّ اتصالٍ مع العالمِ في الخارجِ. ومع ذلكَ لم تبدأ الجولةُ الثانيةُ من التحقيقِ خلالَ هذينِ الشهرينِ، ولم يسمعوهُ أياً من الشرائطِ التي تحدثوا عنها، ولم يطلعوهُ على أي مستندٍ. وكان الانتظارُ سيدَهُ والحاكمُ بأمرهِ! حتى اوشكَ مرةً على الانتحارِ بسكينٍ بلاستيكيةٍ صغيرةٍ كانت تُقدمُ مع اطباق الطعامِ لولا تذكرهُ ربُّهُ في آخر لحظة.

لقد كاد أن يُفقدَهُ عقلَه طولُ الانتظارِ، وهدهُ الشوقُ لرؤيةِ عائلتهِ وقضّتْ مضجَعهُ الافكارُ والتكهناتُ والحساباتُ التي كانت تدورُ في رأسهِ وهو قابعٌ في المجهولْ.

واخيراً فُتحَ بابُ غرفتهِ في الثامنةِ من صباح أحدِ الايامْ. وبعد أن دخلَ عليهِ رجلٌ بالإفطارِ، ظهرَ اخرٌ وراءهُ وطلبَ منهُ بلهجةٍ معتدلةٍ ان يرتدي لباسَهُ العاديَّ بعدَ الانتهاءِ من تناولِ طعامهِ وأن ينتظرْ.

وانتظرَ احمد عبدلله بعدَ أن صلى ركعتينِ مسلماً روحَهُ الى اللهِ تاركاً كلَّ شيىءٍ على عاتقهِ. وعند منتصفِ النهارِ، دخلَ من جديدٍ ضوءُ الممرِّ الكبيرِ في مبنى الاعتقالِ الى غرفتهِ وطلب منهُ رجلٌ آخرٌ ان ياتيَ معهُ. ومشى الرجلانِ زهاءَ ربعَ ساعةٍ في ممراتِ المبنى صعوداً وهبوطاً إلى أن دخلا اخيراً غرفةَ مكتبِ كبيرٍ. وهناكَ وجدَ جنرالاً عسكرياً اميركيّاً برتبٍ ونياشينَ، يحييهِ ويطلبُ منهُ الجلوسَ. وعندما التقى نظرُ الرجلينٍ عرفَ احمد عبدلله، انهُ سوف يلتقي زوجتهُ و الولدينِ قريباً جداً، وأن هذا الاعتقالَ الغريبَ واصلٌ الى نهايتِهِ. فكرَ (اذا سوف يبدأُ التحقيقُ وسوفَ يسمحوا لي بلقاءِ محامٍ ….يارب !!!).

لكن المفاجأةَ كانت أقوى مما توقّعَ، فلقد اعتذرَ الجنرالُ من احمد عبدلله قائلاً “… لقد كان هناك سوءُ فهمٍ، على شكل التباسٍ في الأسماء!. لقد اكدت تحرياتُنا المستفيضةُ ان لا علاقةَ لك بهذهِ الاشرطةِ والملفاتِ. نحن نعتذرُ عما حصلَ، واعتقدُ انك متفهِمٌ كمواطنٍ اميركيٍّ مدى الاهميةِ التي نعلقُها على الأمنِ القوميِّ، خصوصاً هذه الأيام. اننا أيضاً نتطلعُ الى تعاونكَ معنا ومساعدتنا في ضربِ الارهابْ. ولا تنسى ميزةَ وجودِكَ كمواطنٍ في بلدِ الحرياتِ وحقوقِ الانسانْ.”

خرجَ احمد عبدلله من بابِ المبنى وتطلعَ الى ساعتهِ فوجدها الخامسةَ بعد الظهرِ.ولم يكن قد اتصلَ بزوجتهِ ولا بولديهِ ولم يكن لديهِ سيارةُ لتقلهُ الى المنزلِ الذي يبعدُ ساعتينِ ونيفْ. وتطلعَ المسكينُ الى الافقِ امامهُ فوجدَهُ مسدوداً بالمباني المرتفعةِ والطرقِ السريعةِ و الجسورِ الضخمةِ المعلقةِ. وتمنى لثوانٍ ان يدلفَ بابَ بيتِ اهلهِ في البلدْ. هناك حيثُ هو دائماً، في آخر الزقاقْ. شوارعٌ ضيقةٌ كانت فيها الأبوابُ تقابلُ الأبوابَ. والشبابيكُ القريبةُ تسمحُ لنظراتِ الحبِّ و الولهِ من الاقترابِ و التغلغلِ، ولروائحِ القهوةِ الهاربةِ من المطابخِ المطلةِ ان تدلفَ الى حيثما تشاءُ من دونِ استئذانْ، ولعطورِ المراهقاتِ الصغيراتِ ان تعبقَ المكانْ. كيف يمكنُ له وهو يجتازُ شارعَ المبنى الذي خرجَ منهُ ان يخطوَ بقدرةِ قادرٍ الى عتبةِ البيتِ الترابيةِ القديمةِ وأن يتجهَ الى حيثُ والدتُهُ في وسطِ غرفةِ الجلوسِ و يقبلُ يدَها ويرمي بجسدِهِ المتعبِ على اريكةِ العائلةِ المغلفةِ بالكتانِ المورّدِ، اريكةِ الحبّ.

ولوهلةٍ وجدَ نفسَهُ يَهذي صُراخاً من شرفةِ بيتِ اهلهِ (يا ايتها المسافةُ، وانتم يا رجالَ الـ ( اف بي آي)، وانتَ ايها الامنُ القوميِّ المقدسِ، ويا ايها الاقتصادُ والبورصةُ والدعايةُ و الصحافةُ و السينما و معاملُ البوبْ كورنْ الاميركيةُ اليكم جميعاً اقولُ، اليومَ بل الانَ فقط يَتساوى لديَّ الصالحُ بالطالحِ في هذا البلدْ، اليومَ بالذات قامَ بلدي من بينِ الامواتْ في داخلي، ليس فقط بقفارِ الوجدِ والحبِّ الذينِ الفتُهما فيهِ وانما بمعتقلاتهِ وقناصيِّ منتصفِ الليلِ وحتى بفسادِهِ.)