إضاءات على فكره الاقتصادي ورؤيتة المبكرة للانهيار السوفييتي (الحلقة الاولى)
مسعد عربيد
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة العاشرة ـ العدد 2246)
مقدمة
في راهنية فكر تشى غيفارا
ربما يَخال المرء، لكثرة ما كتب عنه وقيل فيه، انه لم يعد هناك ما يسطره القلم في تشى غيفارا او ما يمكن اضافته الى ذلك الكم الهائل. إلا ان حقيقة الامر، ان إرث عيفارا ما زالت تتنازعه، بعد اربعة عقود على إستشهاده، تيارات عديدة: فالبعض يرى فيه الثائر الاممي والرومانسي الذي إستشهد ليصبح مثالاً للتضحية والإيثار، في حين وجد بعض آخر أن القيمة الكبرى لإرثه تكمن في كونها منهل للثورية الاممية وحرب العصابات وثورات العالم الثالث والشعوب المضطًهدة. إلا ان هذه التصورات، على أهيمتها، وحسن نواياها لم تفِ غيفارا قدره وموقعه كمفكر ماركسي لان أغلبها عالج، أكثر ما عالج، جوانب إرثه الفكري وسيرته وكفاحه كمناضل ثوري وأممي. وقد غلبت على الكثير من هذه الاعمال نزعة النوستالجيا التي، وإن كانت ثورية وتحريضية في جوهرها وطبيعتها، فانها تحوّل الثائر والمفكر الى ايقونة تحجب فكرة السياسي والاقتصادي وقلما تمهد لوعي نقدي بل هي كثيرا ما تكون حجرة عثرة في تجديد الفكر الثوري.
بالمقابل، أخذت قلة من الكتابات على عاتقها مهمة الدراسة الرصينة لفكر تشى غيفار السياسي والاقتصادي، إلا ان أرشيف غيفارا في العاصمة الكوبية ـ هافانا ما زال يحتوى مخطوطات لم ترَ النور بعد، ولا ندري متى سيشهد مستقبل الايام “إطلاق” سراحها. فبدون دراسة مساهمات غيفارا الاقتصادية والسياسية والفكرية، تتعذر مقاربة فكره ونضاله مع واقع الشعوب وراهنيته في هذا النضال وفي هذه الحقبة، ويظل غيفارا أسيراً للرومانسية والايقونية، وهما ألد أعداء الفكر الثوري الخلاّق وهو ما يهدف اليه الخطاب الاعلامي الراسمالي الغربي.
* * *
نقف اليوم أمام واحدة من هذه المخطوطات، “ملاحظات نقدية في الاقتصاد السياسي”([1])، لنتناول ما كتبه غيفارا في نقد الاقتصاد السياسي والنموذج السوفييتيين، والتي تعتبر من أهم مساهماته في النظرية الاشتراكية بالرغم من انها ظلت حبيسة وبعيدة عن متناول الايدي لاربعة عقود، وحجبت فرصة التعرف على غيفارا كمفكر اقتصادي ماركسي. وسوف أحاول في هذه الدراسة تقصي واحد من أهم أبعاد فكرتشى غيفارا: الاقتصاد السياسي ونقده للاقتصاد السوفييتي، والذي لم يصلنا منه سوى القليل من التحليلات الصحفية والكثير من الترويج الدعاوي.
(1)
نقد غيفارا في سياق الثورة والتنمية في كوبا
لماذا كتب غيفارا ولِمَنْ؟
في الخلفية التاريخية والسياسية
تصدت الثورة الكوبية، بعد إنتصارها في مطلع يناير 1959 والاطاحة بنظام الدكتاتور باتيستا، لمهام التنمية الاجتماعية والاقتصادية. وربما كان تشى غيفارا المبادر بين قادة تلك الثورة الذي رأى ان الطريق الوحيد لهذه التنمية هو الدرب الاشتراكي([2])، وهو الدرب الذي تبنته تلك الثورة لاحقاً.
من هذا المنطلق تصدى غيفارا لإشكاليات وتحديات البناء الاشتراكي في كوبا من منطلق فهمه لظروف هذا البلد المستعمَر/المتخلف والذي عانى قرونا من الاستعمار الاسباني تلتها عقودٌ من النهب الامبريالي والتبعية للراسمالية الاميركية[3]. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، إنخرط غيفارا في نضال يومي إستحوذ على طاقته وجهده طيلة حياته السياسية في كوبا التي تولي خلالها إدارة البنك المركزي ووزارة الصناعة وغيرها من المسؤوليات الحكومية والحزبية من يناير 1959 الى يوم مغادرته كوبا عام 1965 وإنطلاقه نحو النضال الاممي في الكونغو ومن ثَم في بوليفيا حيث إستشهد في 9 اكتوبر 1967.
أخذ غيفارا يتلمس، من خلال ممارسته العملية وعلى نحو مبكر، مخاطر النمط السوفييتي في الادارة الاقتصادية وإستنساخ هذا النمط وسحبه على البناء الاشتراكي في كوبا وغيرها من البلدان النامية وبلدان المنظومة الاشتراكية في اوروبا الشرقية، بنفس القدر الذي أدرك فيه مخاطر ذلك النموذج على مستقبل الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي والعالم بأسره.
لذا تجدر الاشارة الى أن نقد غيفارا للنمط السوفييتي جاء في سياق محاولته لصياغة نهج جديد في بناء الاشتراكية والذي لم يتوانى عن شرحه في مساهماته العديدة فيما عُرفَ ب “الجدل الكبير” الذي احتدم في كوبا بين عامي 1963 ـ 1965، وشهد الكثير من النقاشات الحادة حول معضلات التنمية وحلولها في كوبا. وقد تمثل هذا الجدل في إستقطاب حاد بين تيارين متناقضين من مسائل البناء الاشتراكي:
1) تيار مؤيدي النموذج السوفييتي الذين دعوا الى “اشتراكية السوق” المتبعة في الاقتصاد السوفييتي؛
2) وتيار غيفارا الذي تصدى بحزم ووضوح لمحاكاة النموذج السوفييتي ورأى فيه نمطاً يذهب باتجاه التواشج مع مكونات رأسمالية ـ الحوافز المادية، دور المدراء…الخ ـ وينحدر بالتالي إلى التخلي عن التخطيط المركزي الذي تبناه غيفارا ودافع عنه مستنداً الى فهمه للماركسية وأسسها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والاخلاقية والى فهمه للواقع القائم وتغييره.
مناهضة المحاكاة الايديولوجية
دعا غيفارا للحفاظ على الاستقلالية الفكرية للتجربة الكوبية والتمسك بحق الكوبيين بالمبادرة والاجتهاد الكوبي في بناء الاشتراكية، أي حقهم في صياغة تجربتهم دون تبعية صنمية للنمط السوفييتي، كما استدعى منه مناهضة تيارات الدوغما في الماركسية التاريخية وكافة أشكال التخوف من أو التردد في تقديم المساهمات في كافة الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ففي رسالة بعث بها عام 1965 الى صديقه أرماندو هارت Armando Hart (والذي كان وزيرا للثقافة في كوبا آنذاك)، إنتقد غيفارا “المحاكاة الايديولوجية” التي تجلت في كوبا من خلال نشر “الكتيبات السوفييتية” للتثقيف بالماركسية، والادق ان نقول تلقينها للجماهير الكوبية. وقد شاركه هذا الرأي العديد من الساسة والمفكرين والقادة الحزبيين الكوبيين. هذه الكتيبات، قال غيفارا، “ضارة لانها لا تترك لك فرصة التفكير: لان الحزب قد قام بذلك بالنيابة عنك وما عليك بعد ذلك إلاّ ان تهضمه”. ودعا بالمقابل الى نشر امهات الادبيات الماركسيةالاصلية من أعمال ماركس وانجلز ولينين وستالين وغيرهم من مفكري وقادة الحركة الشيوعية العالمية. ([4])
وقد نأى غيفارا بنفسه، في سنواته الاخيرة، عن النموذج السوفييتي وابتعد عنه بقدر الامكان رافضاً محاكاة وإستنساخ “الاشتراكية المحققةً” في اوروبا الشرقية. إلا انه لم يدخر ستالين من نقده حين قال:”إن جريمة ستالين الفظيعة والتاريخية تكمن في انه سخر من التثقيف الشيوعي ومأسس بقدر كبير لعبادة السلطة/الفرد”. (Yaffe 2009, 75)
في هذا السياق يستقيم فهم نقد غيفارا للاقتصاد السياسي السوفييتي، على صراحته وقسوته، فهماً موضوعياً وأمينا ويتم تجليسه من باب ولائه والتزامه بالمشروع الاشتراكي والشيوعي.
سمات نقد غيفارا
أهم ما ميّز نقد غيفارا للاتحاد السوفييتي انه كان ماركسياً اصيلاً ينبع من فمهه لمبادئ الماركسية ورؤيتها في بناء الاشتراكية والشيوعية، وأنه كان خلاّقا في فكره وممارسته منطلقاً من فهمه للواقع الكوبي (وواقع شعوب العالم الثالث) وقراءة مادية للظروف الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية لذلك البلد دون إغفال الاوضاع الاقليمية والدولية العصيبة في تلك الحقبة.
أما سمته الثانية، فقد تجلت في انه لم يتوقف عند النقد بل تعداه الى طرح بديل أصيل للبناء الاشتراكي ينطلق من خصوصيات كوبا والتشكيلة الاقتصادية والاجتماعية وطور النمو الاقتصادي الذي كانت تمر به آنذاك. وكان غيفارا يرى ان بديله يكفل التنمية الاشتراكية في بلده ويقيم التحول الاشتراكي على أسس ماركسية صحيحة تضمن بناء “الانسان الجديد” والمجتمع الاشتراكي وصولاً الى الشيوعية. ولعل أهمية هذا البديل تكمن في انه سلّط الضوء على أصالة مشروع غيفارا في البناء الاشتراكي في بلده وفي البدان النامية في مرحلة شهدت إنتصار حركات التحرر في العالم الثالث وشروعها في بناء مجتمعاتها الجديدة.
أمّا ما ميّز غيفارا عن الكثيرين ممن إنتقدوا الاتحاد السوفييتي وسياساته في تلك الآونه أو بعد إنهياره، أنه عمد الى الغوص في تحليل الاسباب الجذرية التي أدت، في نهاية الامر، الى إنهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي واوروبا الشرقية.([5])
قد تعيننا قراءة غيفارا من خلال هذا المنظور على إزالة الشوائب التي علقت بمواقفه وتوظيفاتها المتعددة في تلك الحقبة والتي عمدت الى تجيير تلك المواقف في خدمة مصالح إطراف معنية (كما رأينا في النزاع الصيني ـ السوفييتي، على سبيل المثال)، أو لتسويق المصالح السوفييتية وتبرير سياساتها في مهادنة المعسكر الراسمالي ـ الامبريالي فيما أسموه آنذاك ب”التعايش السلمي”. كما تعيننا على تبيان الدوافع وراء الاتهامات التي ألصقها به خصومه، من سوفييت وجهات اخرى في الحركة الشيوعية العالمية والتي تراوحت بين إتهامه “بالماوية” حيناً، و”التروتسكية” حيناً آخر، والمغامرة والتهور والانتحارية أحيانا كثيرة، ناهيك عن إتهامات أعدائه الرئيسيين في معسكر الامبريالية والغرب الراسمالي.
[1] نشرت للمرة الاولى بالاسبانية عام 2006 في كتاب بعنوان: Apuntos Criticos a La Economia Politica (Critical Notes on Political Economy)، عن مركز غيفارا للدراسات في هافانا ـ كوبا. وما زالت ترجمتها الى الانكليزية (وربما الى لغات اخرى) قيد الاعداد.
[2] أعلنت الثورة الكوبية على لسان زعيمها فيدل كاسنرو عن إختيارها للدرب الاشتراكية للمرة الاولى في خطابه (بتاريخ 16 ابريل 1961)، في أعقاب الغزو الامبريالي الاميركي على خليج الخنازير. غير أن غيفارا كان قد تحدث علناً عن الماركسية والاشتراكية قبل ذلك.
[3] يشكل احتجاز رأس المال الاميركي للاقتصاد الكوبي على مدى الخمسة عقود الاولى من القرن العشرين، وهمينة الشركات الاميركية على اقتصاد ذلك البلد، يشكلان السمة الرئيسية لاوضاع وظروف ذلك البلد عشية انتصار الثورة الكوبية في مطلع يناير 1959. وعليه، فان فهم التجربة الكوبية (ثورتها، وكفاحها لتحقيق الاستقلال والسيادة الوطنيين، وانجاز التنمية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الكوبي)، لا يتسنى خارج هذا السياق. ولا يقل اهمية، وهو ما تجدر الاشارة اليه، ان الحصار الامبريالي الغاشم ,الذي لم يتوقف منذ انتصار تلك الثورة وحتى يومنا هذا، يشكل شرطا اساسيا لفهم تطور كوبا على كافة المستويات في العقود الخمسة التي تلت، اي منذ عام 1959 الى يومنا هذا.
[4] Che Guevara, Letter to Armando Hart Dávalos published in Contracorriente, Havana, September 1997, No. 9.
[5] من الملفت للنظر ان تحليل غيفارا للحالة السوفيتية هذا أخذ يستعيد بعض الاهتمام لدى الكوبيين، رسمياً وشعبياً، في منتصف الثمانينيات للقرن الماضي عند وصول جوربيتشيف للسلطة في الاتحاد السوفييتي وإستشعار الكوبيين بان الانهيار قادم وأن عليهم اخذ الحيطة وإستدراك الموقف للحفاظ على ذاتهم وإنجازاتهم.