قصيدة
أحمد حسين
تستبدل الأرض التراب َ
فلا مناص من الرجوع ِ
إلى الترابْ .
لا تتركوا جسد الزيارة ِ
يرتدي جسد الرجوع ِ
يعيد ترتيب الحقول على الحقول ،
يعلم الزيتون عادات الصنوبرِ ،
ثم يبحث في جيوب الطين
عن اٍسراره الأولى
لكي يستبدل الأسرار بالأسرار ِ
يلتبس التراب على الشجرْ .
من قال أن الأرض َ
ليس لها كتاب ٌمن حروف الطين ِ
تكتبه جذور ِ السنديان ِ
ورشفة العشب الرقيقةَ ِ
والمواعيد التي حانتْ مواسمها
وزخات المطرْ ؟
وتعيد رسم العائدين إلى موائدها
إذا عادوا ،
ورسم الغائبين على الظلال ِ
لأنها لون السفرْ.
بالأمس أوصد بابه النعناع ُ
في وجهي وقال َ:
أنا هنا حزنٌ أخيرٌ
فوق أضرحة الحقول ِ
فهل أتيت تزور حزنك َ
بعد أن شاهدتَ حيفا
وهي تخلع في الأزقة حزنها ؟
أنا لست أغنية عن امرأة ٍ
تزورك في النبيذ ِ
لكي تنادم في خيالك هجرها .
أنا لست من سقطت على المرآةِ
من جيب الحكاية ِ
وهي تمشط للسكارى عظمها .
قد أُشبه الموال َ
لكني أنا حزن الحكاية كلها ،
من أول امرأة بكت ْ
لم تدر ما يعني البكاء ُ
لآخر امرأة بكت ْ
تبكي وتشرح للحجارة وجدها :
أنا ميتونَ وراحلون َوعاشقون َ
وصامدونَ وساقطونَ وكاذبون
وخائنون َوثاكلونَ وخائفونَ
وقادمونَ وهاربون َوعائدون ْ.
وأنا هنا حطب لناري
كلما خمدت سأشعلها لتحرقني
وينتصر الرماد على الجنونْ .
( كتبتْ بمخلبها الحكاية نصّها ،
لن يولد الإنسان من ذئب ٍ
وفي الغابة قطعان ظباءٍ وأرانب ْ
لم نمتْ طوعا ولكن لم نعش ْ
لم يكن بد من الموتِ
لماذا لم نحاربْ ؟ )
أنا لست حماماً لقامتك النبيلة ِ
حين تعبر في الكلام إلى الكلامْ .
كم مرة ستعانقون دم الشهيد ِ
كأنه شبحٌ لسيدة الهيامْ ؟
لو كان يعجبه المديح لما غضبْ
ولظل يسهر في الحكاية ِ
كي يطارحك المديح َ
وكي يطارحها الغرامْ .
أنا لست حماما لقامتك النبيلة ْ !
أنا حرقة عطرية في ليل ثاكلة ٍ
تحاول أن تنام ْ .
وأنا على حيفا السلام ْ
وعلى الذين تسللوا
منها إلى صيدا السلام ْ
وعلى الحقول وأهلها
ومواسم القمح السلامْ .
ستعلقون على الصدى أسماءكم
فيقول : منْ ؟
وتحاولون وجوهكم عبثا
فلا مرآة للنسيان ِ ،
والتاريخ وجهٌ لا زمنْ .
أنا لست إلا قهوة الشهداء ِ
أطفال أقاموا في طفولتهم قليلاً
ثم عادوا صاخبين إلى الغيابْ .
وأنا صباح عابرٌ للحزن ِ
تسقيني المرارة عطرها
حقلا من آلأهات يكتسح الحقولَ
كأنه طيفٌ أخير ٌ
في أساطير الشعوب البائدة ْ .
لا أرضَ في هذا التراب ولا وطن ْ
زمنٌ على وقت الصلاة ِ
يزوره وقت الوضوء ْ .
والناس مثل زمانها
تمضي على وقت الصلاةِ
ولا تعود ْ.
( عاتب ْ سطوح منازل
سقطت بلا سبب ٍ على أصحابها
كي يدفعوا ثمن الحقيقة ْ.
كم أسمع النعناع فيَّ
لآنه وجدي القديم ُ
قرأته في أوجه المدن ِ
التي فقدتْ شواطئها
ونامت تحت سطح الماءِ
كالسفن الغريقة ْ .
كنا نغادر دون أن ندري
لأن المشي في النسيان ِ
قافلة ستلفظها الخطى يوما
ليقتلها العبثْ .
لم ندخل الأسباب من أبوابها
أو ندخل الأبواب من أسبابها
نمشي لنأكل َ
في انتظار سفينة القرصان ِ
تُبحر في الطريق لجوعنا .
يا أيها النعناعُ
أنت الشاعر الأعمى
تسير مع السفينة كالشراع ِ
ولا تراها .
هل كنت تعرف كيف أن اللهَ
كان حصاننا الخشبيَّ
لم يترك لنا الكهان من سببٍ
لنسأل َ عن حقيقته ِ ،
وكيف بنى لنا مدناً مفخخة ً
ليصطاد الحمام عن السطوح ِ
وحينما اصطاد الحمام َ جناحُه ُ
اصطاد السطوحَ عن الحمام ِ
وقالَ :
يغتال الرواية من رواها .
يا أيها النعناعُ
حزني خالص لا نفع فيه ِ
فنحن نولد ميتين ْ .
لكنني أبكي لآن يدي تلاحقني
وسيف أبي على عنقي
وكلب الدار ينبحني
فماذا ظل غير الشعر ِ
أسقط فيه أحيانا
ليحملني وراء مزاعم النسيان ِ؟
لن أنسى !
أنا مازلت أعشق وهم طلعتها الجميلة ْ.
ما زلت أحسب أن في كنعان َ
أياماً مخبأة ًعلى زمن الطفولة ْ .
لا بد من سبب ٍ
لتحملني الحكاية في الصدود ِ
يظل ينكرني الصدى ويقول : منْ ؟
فأقول لا أدري
ولكني أنا،،،،،
أنظر إلى هذي الجراح ِ
وذا دمي فوق القميص ِ
وأكتب الشعر السخيفَ
ولي إسمٌ ينادي نفسه بمديحهِ
وتظل تنبحه الكلاب لأنه قمر ٌ
على شباك ليلتها المليئة بالعظام ْ .
وعشقت مراتٍ ككل الناسِ
ثم عشقت نافرة َ
أود لو أنها ظبي تطارده الذئابُ
كما تطاردني كلاب الصيدِ
في حقل لشيء إسمه الجودار ُ
في مرج ابن عامر ْ.
وأزور حيفا كلما سنحتْ
وأسمع مرة في الشهرِ
أغنية البنفسج ِلا ،
كيف تنكرني إذن وتقول : من ْ؟
هل أنت غير صدى ً
تحمّله محاريب الدسائس صوتها ؟
أنا صفحة عربية في سفر هذه الكون ِ
ترجمها الغراب إلى اللغات الميتة ْ .
وأنا هو النهر العظيم ُ
تزاحمت حولي الضفافُ
وآلهات الفنّ ِ
والمدن الجميلة ْ .
وأنا الذي بدّدت وحشة َ
ذلك القرد الجنوبي المشرد ِ
بين كثبان الجليدْ .
والأن تأتيني القرود تقول : منْ ؟
من أنت يا ملك النهاية ْ؟
هل كنت غير حماقة التاريخ ِ
حين رمى أمانته إليك فخنتها ؟
هل أنت إلا الساحر الهمجي ّ ُ
تهدم ما بنى الإنسان ُ
تفتتح المواسم بالدماء ِ
وتقتل الوهم الجميل َ
لكي تعيش على هرُاء الطائرة .
وتعيد للأيام وحشتها
وتصطاد الكوارث كالظباءِ
أأنت حقا عالمٌ أم ساحرة ْ؟
لو كان يُضحكني الخراب ضحكت ُ
من عرسٍ يراود مأتما ً
في عقلك الخشبيّ ِ
تحمله الغريزة بين ساقيها
وتدعوه الحضارة ْ.
هل أنت قرد المعرفة ْ؟
لوكنت تعرف ، كنت تعرف ُ
أن في الإنسان لا في الذاتِ
نور المعرفة ْ.
والعقل ليس هو الحقيقة كلها ،
فالأرض تُنبت زهرة الوجدان ِ
من صخر الحقيقة كي نحب جمالها ،
ونحب تجربة الوجود كأنها امرأة الأمومة ْ .
ماذا سنفعل بالحقيقة وهي صخرتنا
إذا لم نغتنم وهم الحقيقة ْ.
ولسوف أضحك منكَ يوم تموت ُ،
أنت تفاهة الكون العظيمة ُ
متْ على أقدام مرثيتي ،
نموت معا وأضحك منكْ. )
يا كرمليّة ُ ! أنعمي حزنا ً
سأحزن عن بيوتك ِ
عن شوارعك الجديدة في شوارعك القديمةِ
عن أزقتك التي بقيت ْ،
مساء الخير ايتها العجوز الصامتة ْ!
ما زال لون نعاسك الحجري ّ ِ
سندسة ً لذاكرتي ،
ووجدي حين أعشق ُ ،
حين أحزن ، حين أبكي .
لون ٌهي الأشياء حين تغيب ُ
والأيام تترك لونها فينا وتمضي .
دافئات كالخدود على الخدود ِ
حجارة ٌ ، لكنها تدنو إلى حد التوهم ِ
في دماثتها ،
و تتلوها رسائل صمتها شعرا ً ،
فليس الشعر غير عَراقة ٍ
تغتالها الكلمات حين تقولها .
خوفٌ مسائيّ ٌ يداهم لحظة النسيان ِ
تمنحه نبوءات المكان هديلها ،
أو لحظة لو كان يتسع الزمان لها
ذهبتُ ولم أعُد ْ.
لكن حزنا واحدا في حارة النعناع ِ
أجمل من جنان مدينة النسيان ِ
تفتح للقرود زحامها .
حظي بنفسجة الفراشة ِ
حين ترقص في انفضاض اللون ِ
قبل رحيلها .
وحظوظهم صخب ٌ من الألوان ِ
تعشقه القرود على عروس الزُط ّ
حين تُحيلُ زينتها إلى طرطورها .
نوع من الرُوّاد محمول ٌعلى حرفين ِ
حرفٌ للصعودِ
ونصف حرفٍ للسجود ِ ،
ونصف حرفٍ للثقافة ْ.
لا بأسَ ،
بعض الناس تحيا بالسقوط ِ
على الطعام أو الورق ْ،
لكن بعض الناس ، مثل العشبِ والأزهار ِ
تحيا بالنّحافة ْ.
( ياكرمليّة ُ ليتني لم أقترفْ هذا الكلام َ
وأنت طيفٌ لابتسام الحزن ِ
تحمله الرهافة ْ .
لو كان ينصفنا سوى هذا الكلام ِ
لقلت غيره ْ .
لكنهم سلكوا فجاج الصيد ِ
والصياد يتبع أثرهم ْ
فتهرّأ الماشي على الأقدام
واحترف المُقِلّون السّكافة ,
قد كان يكفي أن أظلّ أنا تعاستهم ْ
يعرّيهم صدودي عن موائدهم ْ
ويكشفهم سكوتي .
لكنهم بعد انصرافك ِ
يوقدون الشمع باسمك ِ
في كهوف السحر ِ
يلقون الخيانة في صناديق الغياب ِ
وينبحون الساحرة ْ.
سقطوا كما شاء السقوط ُ
ويصعدون الآن نحوك بالنشيد ِ
فقد تخون الذاكرة ْ،
وسيصبح المأبون قديساً
ويشهر سيفه العنّينُ
والدّيوث يجلد نفسه ندما ً
ويصبح عاهرة ْ. )
إني أتيت هنا ازور أزقة النعناع ِ
قبل رحيل وجهي عن ملاءات الحجارة ِ
كل عصفورٍ له غصن يفارقه ُ
ليعرفه التراب بغصنه ِ
ويراه وهم الروح ِ
حين تعود في وهم الزيارة ْ.
ولسوف يغمد نصله النعناع في صدري
ويوصد بابه ُ:
لا ترجعوا !
أنا لا أحب العائدين إلى هنا برحيلهمْ
فكأنهم لم يرحلوا .
سيظل باب البحر مفتوحا على الغزواتِ ،
إن لم ترجعوا بحكايةٍ أخرى
رحلتم مرة أخرى .
متى كان الصدى وطنا لغير الريح ِ
أو كان التراب تميمة ً أو مبخرة ْ؟
سيروا بعكس الذاكرة !
بلغت نهايتها القصيدة ْ!
لن يعرف النعناع سر الناسِ
كيف يضمدون جراحهم بجراحهم ْ
ويتابعون السير في وجع المصير ِ
وهم وقوفٌ في القصيدة ْ.
هي كل شيء في حكايتنا
يضمّد طائر العمر الجريح جناحه ُ ،
ينسى ويذكرُ،
كي يؤلف ومضة الفرح الحزينة ِ
من شجون الملحمة ْ.
ويدور حول حذائه الإنسان ُ
ينظر في فضاء الوهم ِ
كي يتوهم الطرق البعيدة ْ.
( يا كرملية ُكم أخاف من الجَمال ِ
لأنه حُزن المصير ِ
نموت حين تموتُ
ذاكرة المواويل القديمة والسفوح ِ
ولحظةُ العشق التي مرّت ْ
ونذبل مع ذبول الزهر ِ
تنفضُّ النبوءات الجميلة ُ
في غياب الشعر ِ
تقلقنا الرهافة في مساءات النوافذ ِ
حين يخدشها جناح الطائرة ْ .
لا شيء أجمل منك ِ
ماذا سوف أفعل عندما …. )