ألمشادّة

أحمد حسين

وصلت المشادة السياسية بين إسرائيل وأوباما ذروة نوعية من خلال بالون الإختبار المتمثل في حادثة قافلة الحرية. أشكال الضغط الرهيفة والحذرة من جانب أوباما على نتنياهو وحكومته تثير اشمئزاز السياسة الإسرائيلية وقلقها معا. فهي لا يمكنها أن تتصور إجراء أية تعديلات على سياستها أو نواياها الإستراتيجية أو شكل علاقتها بالولايات المتحدة، علاوة على التعامل مع رئيس مهجن سياسيا يحاول تعديل سياسات سلفه في السياسة الخارجية. وخطيئة أوباما في نظر السياسة الإسرائيلية هي تجاهله، أو عدم إدراكه، أن العلاقة مع إسرائيل يجب أن تظل استثناء حتى ولو تناقضت أحيانا، من وجهة نظره، مع مصالح أمريكا. والتزامه بأمن إسرائيل لا يكفي، فالتزامه بالسياسات الإسرائيلية كما تراها مؤسسة الأمن الإسرائيلية، هي المحك الحقيقي لولائه للصهيونية. لذلك فإن قافلة الحرية التركية كانت هي بالون الضغط غير المباشر الذي أطلقه أوباما بمساهمة أردوغانية، بينما كان الرد الإسرائيلي رسالة وبالون اختبار في وقت واحد. مفاد الرسالة هو أن إسرائيل ترى نفسها صاحب القرار الوحيد على الأرض الفلسطينية، ولا يمكن أن تحتمل أي تدخل من أية أطراف دولية في هذا الشأن. أما مسألة الإختبار فهي معرفة حدود قدرتها على تحدي الجميع بشكل مباشر. لذلك كان قرارها بشأن القافلة، الذي أسفر عن مجموعة من انتهاكات القانون والسيادات الإقليمية والدولية والحياة البشرية، قرارا اتخذ بدم بارد كمعظم أو كل القرارات الإسرائيلية. أما نتائج الإختبار فقد قالت أنه لا حدود لما يمكن أن تقوم به إسرائيل دون أن تخشى عقابا أو مساءلة دولية. وقد ترتب على ذلك سلسلة من الفضائح أهمها فضيحة أوباما وأردوغان بوصفهما طرفا مباشرا في المشهد. فقد ثبت أن الذي لا يزال يحكم السياسة الخارجية لأمريكا هم المحافظون الجدد والسيدة كلينتون. وأن أوباما لا يملك الكثير بهذا الشأن. وأن أقصى ما يستطيعه هو المناورة بمساعدة من أصدقاء أمريكا غير الأوروبيين في العالم مثل أردوغان. ولكن أوباما تجاهل أن كل صديق لأمريكا هو بالعفوية صديق للصهيونية أو تابع لها. وأن أردوغان هو في النهاية هو رجل أمريكا التي تمثلها كلينتون، وتعاطفه مع أوباما في بعض الأمور التي لتركيا مصلحة مباشرة فيها، هو مزاج سياسي أكثر منه التزاما سياسيا. ومع ذلك فقد كانت تكلفة هذا التعاطف عالية جدا كلفته فضيحة مركبة سياسية وشخصية. لقد تعمدت إسرائيل أن تهين أردوغان وتركيا شخصيا. وظهر الرجل بكل إمكاناته الذاتية والسيادية المتواضعة وكأنه حاكم عربي. وجرح الشعب التركي جرحا عميقا بدأ يحيله على رصيد اردوغان الشعبي منذ الآن بسبب موقفه المتخاذل. ولم يستطع أوباما مساعدته، لأنه استبعد من أمام الكاميرا بأمر من كلينتون، التي قدمت إليه تصريحا مكتوبا يطلع به على المشهد، يبدي فيه أسفه على الضحايا البريئة ويعتبر المسؤولية عنه نتيجة لتراكمات الوضع الذي أدى إليه متهما بذلك الفن والمواد الغذائية والأدوية أيضا.

لم تخرج إسرائيل منتصرة على أعدائها وأصدقائها ومريديها السياسيين فقط. خرجت منتصرة على أي عرف سياسي، مما سيفتح أمامها حرية الفعل خارج أية مساءلة. إنها تبدو وكأنها افتتحت العالم وأصبحت إمبراطوريته السياسية. وعلى لبنان وسوريا وربما إيران الإستعداد الآن لم يخبؤه لها قدرها الإسرائيلي. ولن تسمح الآن أية دولة لمواطنيها ومؤسساتها المدنية بالمشاركة في قوافل الحرية المتوجهة إلى أرض إسرائيل. كما أثبتت إسرائيل أنها الدولة الوحيدة المسقلة استقلالا مطلقا وليس نسبيا في العالم. وإذا كنا سنفسر ذلك بالإقدام المغامر والمستهتر من جانب قوة نسبية صغيرة ومتفوقة إقليميا، فمن سيفسر لنا خضوع كل القوى العالمية لذلك؟ لا أحد بالطبع؟ فنابليون كان أكثر تواضعا في تقييمه لذاته من ساركوزي، ومع ذللك ففرنسا المتوسطية تتنازل عن جزء من استقلالها وسيادتها لإسرائيل وتتجاهل انتهاك إسرائيل لشرف المياه الإقليمية المتوسطية. ويتحول ساركوزي راضيا إلى مجرد رئيس متواضع ومصاب بمرض مزمن.

نحن نعيش في عالم آيل إلى السقوط. هناك أحداث وظواهر كثيرة غير عادية تحدث فيه دون أن تقابل بأي استهجان. وهذا تسليم من جانبه بتجاهل قوانين التاريخ. أصبح الغموض هو سيد المواقف جميعا. ولا أعني بذلك الغموض الذي تشير إليه عادة كلمة ” من وكيف وماذا؟ ” فهذا غموض شرعي وضمن قانون التداول الوجودي والتاريخي. إنه محاولة لاكتشاف ما هو غامض معرفيا. أعني ذلك الغموض الذي تشير لوجوده كلمة ” لماذا؟ ” الشديدة الخطورة. فهي تشير إلى غموض سلوكي وأخلاقي غير متوقع، أصبح يتكرر بوضوح في المشهد العالمي. لماذا يقتلون الناس العزل في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال وغيرها؟ لماذا يقتلون الأطفال الرضع بشكل خاص؟ لماذا يحاصرون الناس في غزة؟ لماذا يهدمون المنازل على رؤوس أصحابها؟ لماذا يسلبون أوطان الناس ويشردونهم؟ لماذا يعاني الناس من المجاعات والأوبئة والحروب الأهلية المدبرة؟ لماذا بلغ النهب أوجه بفارق دولار إلى مليارد بين الغني والفقير؟ لماذا ينتهكون المياه الإقليمية؟ لماذا هاجموا قافلة الحرية؟ لماذا لا يسأل أحد ” لماذا؟ “؟

لا يمكن أن يعيش العالم على الجنون. على غموض المصير. على انعدام القانون. على التجاهل. والأهم لا يمكن لهذا أن يستمر طويلا، ولا بد من كارثة محققة. الحمد لله أن العرب سيكونون أقل الناس تضررا من هذه النهاية.