المرأة العربية وثقافة “رضى التماثيل”

كلاديس مطر


في عام 1968 سمحت الرقابة على المصنفات السورية لمطابع وزارة الثقافة والسياحة والارشاد القومي بنشر الكتاب المترجم (حضارة الانسان) لرينيه ماهو. واقول سمحت لما في هذا الكتاب الفذ من فكر متفتح وجرأة في الطرح اثنارتني لدرجة الاعجاب الشديد. لقد كان ملفتا بالنسبة لي ان تقدم افكار بالغة الشمول وعميقة الدلالة لا تتناول الانسان العربي فقط وحقه في الوجود الانساني و المجتمعي الكامل و انما تتناول الشعوب كلها. ان الكتاب يطرح خطة كلية معدة لعالم روحي بالدرجة الاولى فكل شيىء كمايقول ماهو (يخلق بالانسان ومن اجل الانسان) والحق لقد اختصر قناعاته في العمل في ثلاثة بنود:

اولا، ان استقلال الدول في العالم المعاصر لا يعني مجرد التوكيد على السيادة الكلاسيكية المعروفة و انما يتجاوزه الى استقلال النمو القومي هذا النمو المؤسس على التربية و العلم و الثقافة …. والنمو هو نمو الانسان بالانسان ومن اجل الانسان.. وما يطلق عليه القرن العشرين اسم النمو بتعابير اقتصادية – اجتماعية، هو ما يطلق عليه القرن الثامن عشر، بتعابير اشد التصاقا بالسياسة، اسم حرية.

ثانيا، ان مفهوم النمو يتضمن التعاون الدولي. ولا يعنى هنا مساعدة الدول الغنية للدول النامية، وانما يعني تنظيم حياة جميع الناس على الارض.

ثالثا، ان الانسانية تسير نحو حضارة عالمية وانها مدفوعة الى ذلك بقوتين اولاهما التقدم المستمر للتكنولوجيا وثانيهما الطموح الاخلاقي الذي لا يقل عن ذلك قوة وهو حاجة الانسان الى الاطلالة على الانسانية.

ان هذه القناعات الثلاثة في فكر ماهو وهو في قمة هرم منظمة الاينسكو لم يكن ممكن تحقيقها لولا وجود الاعلان العالمي لحقوق الانسان باسم الجماعة الدولية.

والحق ان نص هذا الاعلان ليس تركه من تركات الاجداد، ولا ميراثا تناقلناه من جيل الى جيل وانما هو حاجة فرضتها تطورات معاصرة في القرن الماضي على كل الاصعدة. انه ليس قصيدة شعر وانما اوامر فرضها التعسف الانساني الطويل الامد.

فالمنظمات العالمية والعربية لحقوق الانسان كانت ولا تزال في هاجس طرح افكارها لدى كل محك انساني و كل انتهاك حقوقي يثقل على كاهل الفرد – الانسان. وفي بنود هذا الاعلان لم تذكرمرة واحدة كلمة (امراءة) وانما (فرد) بينما تم ذكر كلمة

(امومة) في البند القائل: (للامومة والطفولة حق في رعاية ومساعدة خاصين، ولجميع الاطفال حق التمتع بذات الحماية الاجتماعية سواء ولدوا في اطار الزواج او خارج هذا الاطار.)

اعترف ان دهشتي امتدت الى غلاف الكتاب وما كتب عليه من تعليق. ان عقلي المثقل اليوم بالخطابات الدينية و السياسية الموجهة وما هو محلل ومحرم لا بالنسبة للمراة فقط وانما للفرد العربي ككل قد اثارته هذه العبارات البديعة التي كانت تستقر فوق رفوف المكتبات السورية والعربية في يوم من الايام. وساورد للقارىء النص كما ورد على غلاف الكتاب:

(الكتاب مجموعة (دروب) تتجه نحو نقطة واحدة تتلاقى فيها: الانسان بما هو انسان،

الانسان في انسانيته الخالصة، كيف ننشئه، او بالاحرى كيف ينشىء ذاته.

المرض، الجهل، الامية، الفقر، الظلم، الاضطهاد، الحرب تلك هي الامراض التي عانت منها الانسانية و ما تزال …..

الشباب، المراة، الجماهير تسعى الى النور، الشعوب في طريقها الى التحرر، هؤلاء هم امل المستقبل.

المدرسة، الكتاب، الجامعة، منظمات الشباب، الاعلام، تنظيم اللهو و الفراغ، اليونسكو، تلك هي بعض المؤسسات التي يضع الانسان فيها امله.

العلم و التقنية… الشعر و الرياضة … الفن والفكر …التربية والثقافة..تلك هي وسائل التحرر.

دانتي، شكسبير، كيركجارد، آينشتاين، تياردي شاردان وامثالهم هم قادة الانسانية.

وفوق هذا و ذاك …. قبله وبعده …الحرية منطلقا وغاية.

ان رينيه ماهو المدير العام لمنظمة اليونيسكو هو مرب وفيلسوف وفنان اكثر مما هو مدير. انه يعيد الى الكلمة المكانة التي كانت لها عند العرب والاغريق. ومعها يعيد للحرية مقاما تكاد تفقده في عالم يقوم على التنظيم الصارم.

في البدء كانت الكلمة الحرة)

لقد وقفت امام هذه الفقرة متأملة. لو قدر لاي كاتب او مفكر عربي معاصر اليوم ان يعلق على هذا الكلام اليوم، كيف سيكون خطابه او طرحه! هل سيشدد كثيرا على كلمة الحرية من دون ان يذكر اطار هذه الحرية! هل سيشدد على نفس وسائل التحرر أي الفن والفكر والعلم والتقنية!! ام انه سوف يرى في الخطاب الديني ومرجعيته و حقوقيته الملاذ الجديد للحرية العربية المعاصرة واطارها الوحيد الشرعي في وجه مد عولمة لا يستطيع ان يتكهن لا بمقدماتها ولا بنتائجها؟ هل سوف يرى في آنشتاين او الاب تيارد دوشاردان قادة للانسانية مثلا، ام انه من المستحيل ان يحتلا هؤلاء أية مساحة من عقله في وجود المرجعيات الدينية و الشرعية و السلطوية المعاصرة الاخرى! وهل فعلا، يعتقد اليوم انه في البدء كانت الكلمة (الحرة)! وهل يمكن لعالمية حقوق الانسان ان تتجاور اليوم مع النسبية الثقافية للمجتمعات!!!! صحيح ان هذه الحقوق ليست قانونية بمعنى ان الانسان يملكها اصلا ومصدرها تماما طبيعته الاخلاقية واحساسه بكرامته المتأصل في شخصيته الا انها تتقاطع بحدة مع النسبية الثقافية للمجتمعات والدول. واذا ظننا ان هذه الحقوق انبثقت من الغرب وهي بالضبط ماانتهى اليه الفكر الاوروبي الراسمالي خلال تطوره التاريخي، اذن، اين الرؤية العربية و الاسلامية لحقوق الانسان لدينا! هكذا برز هذا التقاطع بين المعايير العالمية لحقوق الانسان والاعراف والممارسات الاجتماعية المحلية المؤسسة على مفاهيم بديلة عن الكرامة الانسانية ومفهوم (الحق)!

لا يتضمن الاسلام على اللفظة المعاصرة (حقوق الانسان) لكنه يؤسس حق الانسان المسلم على فكرة العدل! ان حقوق الانسان في الرؤية الغربية تعني الحقوق الطبيعية المرتبطة بجوانية الانسان و ذاتيته من الناحية الطبيعية وهكذا فانها عالمية بهذا المعنى بغض النظر عن أي اعتبار اخر طالما انه يرتبط بطبيعة الانسان، بينما تبنى حقوق الانسان في الاسلام على مبدأ التكريم الالهي ومقدار التقوى تجاه الذات العليا وعلى مفهوم العدل.

لكن المطلع على انتهاكات حقوق الانسان و خصوصا المراة في بعض دول العالم العربي يشعر بضرورة الاسراع في تفعيل الميثاق العربي لحقوق الانسان، هذا الميثاق الذي تمت صياغته في مؤتمر في مدينة سيراكوزا الايطالية عام 1986.

لكن هذا الميثاق بحاجة الى تكييفه اليوم بما ينسجم و المعايير الدولية، كما دعا البيان الصادر عن مؤتمر الدار البيضاء عام 1999. فهذا الميثاق الذي ولد وهو لا يتمتع بمقومات الحياة، لم يحظى بتصديق دولة عربية واحدة رغم مرور وقت طويل على صدوره،كان فيها محل تجاهل الراي العام و محل نقد حاد من منظمات حقوق الانسان التي تحفظت عليه جملة و تفصيلا.

ولقد اعلن المؤتمر المنعقد في بيروت رفضه للمنهج الاعتذاري التبريري الناظم لفلسفة هذا الميثاق بما ينطوي عليه من تبرير لعدم التزامه بمساواة الشعوب في العالم العربي في الحقوق مع شعوب البلدان الاخرى، وذلك بدعاوي الخصوصية الدينية واعتبر المؤتمر ذلك بمثابة نظرة تسيىء الى جوهر الاديان وتغولا على حقوق الانسان في العالم العربي.

اذا، من يجرؤ اليوم على تذييل كتاب بهكذا مقدمة!!!

وكيف يمكن لا للمراة فحسب وانما للانسان العربي ان يكمل بناء ذاته و حضارته وثقافته وهو لا يملك (وثيقة) تحمي حقوقه ليخر ج من اسر الفقر و التخلف والتبعية وتحرير كامل طاقاته من اجل النهوض باي مشروع مجتمعي مفترض!

وقبل ان ندير رؤوسنا باتجاه تلك الزاوية المظلمة التي تركن فيها المراءة العربية اما بقرار من ذاتها في وأد انوثتها الوجدانية او بقرار من القانون المجتمعي او الديني او الذكوري السائد، فاننا نتجه بخشوع المؤمن و مثابرة المجتهد وصبر ايوب الى تبني برامج فعالة من اجل الاصلاح السياسي و الدستوري وتفعيل حقوق الانسان عمليا واعتماد التعددية السياسية والفكرية والثقافية و العرقية والدينية في المجتمعات العربية.

وحين نتطلع بعين الفاحص الى مكمن الخلل فاننا نميز لا محالة عدة عناصر اساسية تفتك في التنمية البشرية في البلدان العربية: اولها النقص المهول في تنمية قدرات المراة وعدم السماح لها بالمشاركة الفعلية بسبب طبيعة المجتمع الثقافية وحالة المراة ذاتها و انوثتها غير المتحققة. ثانيا، النقص المعرفي الكبير بالنسبة لحجم المعرفة المتاحة عالميا، واخيرا وقبل كل شيىء، النقص المرضي في الحرية.

الحق ان الضغط الكبير الذي يمارس على حركة المجتمع المدني هو بالذات ما جعل الشارع العربي يبدو بشكله الباهت النضالي ليس فقط لتحرير ذاتية الفرد العربي وانما ايضا من اجل التضامن الفعلي مع الشعب الفلسطيني والعراقي و كل اشكال القمع في الحياة العربية. فالنضال من اجل حق مشروع او فكرة مشروعة بالنسبة للمراة هي وجه من اوجه الانوثة المتحققة لانها تعبر عن وجدانية هذه الانوثة باقصى وابعد طاقاتها. انها الانوثة الحامية والمدافعة والمؤسسة لجدران المجتمع السوي. اما النضال فهو يعطي للذكورة صفتها الكاملة لانه يحدد مسيرة الطاقة المتجمعة فيها (المنتظرة غير الابداعية) ويدفعها باتجاهها العملي الابداعي الفعال.

ان المساواة في فعل النضال يدفع بقطبي الذكورة والانوثة الى اقصى مداهما من التحقق، وهذا التحقق يتجلى في تكريس اسس المجتمع السوي الحر.

اننا نفخر باننا وطنيون دائما و نردد مع الجميع ان (حب الوطن سوسة)، لكن الوطنية من دون ديمقراطية مجرد اضغاث احلام لانها في طريق ثابت باتجاه التعسف ان لم نقل الديكتاتورية وبالتالي فانها مقدمة لاي تدخل اجنبي محتمل.

حين يترك المجال للمراة العربية لكي تناضل من اجل قضايا الامة فانه يفسح لها المجال لكي تحقق انوثتها لا بشكلها المزيف الحالي وانما بشكلها العملي المجتمعي والوطني الفعال. ان الانوثة النضالية المتحققة هي الدرع المتين امام سقوط القيم الاخلاقية والدينية في المجتمع و ليس العكس. انها ايضا السور العالي الراسخ الذي يلتف حول جدران الاسرة – الخلية الاساسية في المجتمع، ويمنعها من السقوط. الانوثة المتحققة ليست وقتا يهدر هنا وهناك وراء المنابر … انها وعي بالدرجة الاولى وسلوك ووجهة نظر.

فالنضال المجتمعي للانوثة يبدا من الخلية الاولى – الاسرة لينتهي في المجتمع في ارحب مجالاته. ولكنه يبدأ هناك اولا بين الاطفال الذين يترعرعون في كنف الاعراف المحلية والقيم المثيرة للجدل ورجل مثقف لا يلهيه البحث عن لقمة العيش عن مبادئه وحقوقه وكرامته.

اذا ان المراة العربية في موقع لا تحسد عليه. ولهذا لا يجب عليها اليوم ان تنتظر الرجل لكي (يتركها) تحقق هذه الانوثة الوجدانية. انها هناك في داخلها في متناول يدها، كل ما عليها هو ان تفردجناحيها و تستعد للطيران.

اننا نصنع زمننا و نحيكه بصبر ايوب. اننا نعطي للفترة طابعها، وللساعات التي تمر نبضها الخاص. اننا صانعوا الفترة، التاريخ، اللحظة ….!

اليوم وبعد ست و ثلاثين عاما على ظهور هذه المقدمة البديعة، تعيد الرقابة على المصنفات في كل ارجاء الوطن العربي حساباتها الابداعية بكل تؤدة و انتباه فلا تنزلق قدم في جنة الحرية غير المؤطرة، ولا يزل لسان باسماء لا تجد موافقة لها في الخطاب الديني او السياسي للامة.

اذا نحن نصنع ما يدورحولنا، نغزله، نعيد صياغته ونستعمله بعد ذلك كقانون او كمقصلة ونشنق انفسنا به.

والمطلوب من المراة العربية اليوم ان تغزل هذه الانوثة، ان تبعثها من جديد، ان تحييها وتعمل على تفعيلها وان تصنعها كل لحظة و أن تفلت من ثقافة “رضى التمائيل” المقيتة. قد تخسر بعض المعارك و لكن الحرب يجب ان تكسبها لا لكي تحقق وجودا مماثلااو مساويا لقطب الذكورة وانما وجودا تكامليا معه.

اليوم، تخرج امرأة العالم والمرأة العربية ايضا من بنود حقوق الانسان. انها دين المراة المعاصرة ووثيقة حقوقها. ومتى حان الوقت لتشكيل لجان مشتركة من خبراء حكوميين و ممثلين عن منظمات حقوق الانسان لاعداد وثيقة اقليمية لتعزيز حقوق الانسان العربي، يجب ان يكون هناك بند يشدد على حق المراة في تحقيق انوثتها من خلال نضالها المجتمعي وممارسة حقوقها المدنية والسياسية كاملة لا من خلال رؤية تماثلية وانما تكاملية مع الرجل.

:::::
موقع الاديبة كلاديس مطر

www.gladysmatar.net