قراءة في كتاب: “الفوضى الرتيبة للوجود”

(مجموعة قصصية لهشام البستاني)

إيمان مرزوق

«إلى ذلك الواقف في المرآة يبحث عن عريه خلف الأسئلة».

لم أدرك وقع هذه الكلمات إلا بعد أن أتممت القراءة.. وما أن طويت صفحات الكتاب حتى وجدتني أُطوى في زوبعة من الأسئلة الزئبقية التي لا أدري كيف تسأل أو كيف تجاب!

إنها «الفوضى الرتيبة للوجود» المجموعة القصصية الثانية للكاتب والقاص «الشجاع» هشام البستاني والتي أُفرج عنها قبل أسابيع لتميط الغربال عن وجه الشمس!

في هذه المجموعة الصادرة عن دار الفارابي ببيروت يقدم البستاني شيئا مختلفا عن مجموعته الأولى «عن الحب والموت» والتي صدرت عن ذات الدار قبل عامين، فالأولى نصوص رومانسية حالمة لا تخلو من النقد والتهكم، قصص خلفياتها تراوح بين صور من الواقع والأسطورة، والخيال.

أما في الثانية فيخلع البستاني رومانسيته جانبا ويستل كل شجاعته ليسمي الأشياء بمسمياتها دون رتوش أو أقنعة، ويعلو بموجه غير آبه بصخور «التابوهات».. ليكتب حكاياتنا ويلامس جرحنا ويفشي بوح الشارع بفجاجته، وبشجاعة يتناول قضايا ومواضيع حساسة لم يجرؤ كاتب قبله على إفشائها على هذا النحو من الوضوح!
في قصة «المثقفون» كتب البستاني:

«منذ أن أطلق شعره ولحيته، كان يعرف أن فيه-لابد- قطعة من فنان لذلك عاش الدور كله. ترك منزل العائلة واستأجر غرفة حقيرة ملأها برماد السجائر وقطط الحاويات. صام وصام حتى كاد مروره لا يحرك ذرات الهواء، وحين خربش خطوطاً متقاطعة على شاشة الكمبيوتر أو القماش أو ورق الرسم (لا فرق)، لم يبق قبله ولا بعده، لذلك كان لابد له من الانتقال إلى فروع الفن الأخرى: التصوير الضوئي، والإخراج السينمائي، والمؤامرات الصغيرة القذرة المحسوبة.(كله فن..) كان يقول، والفنان يمر بتجارب ويخوض معارك ويعاين انتقالات واكتشافات ومخاضات «هكذا انتقل صاحبنا من اليسار إلى اليمين إلى الوسط خلال أيام سبعة لم يسترح خلالها…».

يلمس القارئ بسهولة الأرضية الثقافية المتينة للكاتب الذي يكتب من الشارع وللشارع، خلافا لمن يتمترسون فوق أبراجهم الصدئة!

وبعيدا عن النصوص والقصص المغرقة في الغموض والتجريب «الخنفشاري» التي درج العديد من الكتاب على اقترافها ظنا منهم أن النص كلما كان مبهما عصيا على الفهم كان فذا وفريدا أكثر؛ نجد البستاني يشد القارئ إليه ليفهمه بروية ما يريد دون أن يضيع عليه التمتع بسحر اللغة ورشاقتها.

نصوص البستاني تعكس علاقته الحميمة مع المكان بشكل عام ومع عمان بشكل خاص، ارتباط حقيقي وغصة غير مفتعلة على وجع عمان وأنينها الذي لا يسمعه إلا عماني خالص!

يقول في قصة «كوابيس المدينة»:

«أولاد عمان الأشقياء كانوا (في زمن راح وانتهى) يُدحدلون الأحجار الكبيرة والصخور من فوق جبل اللويبدة إلى عمق وادي صقرة، يبحثون تحتها عن حيايا وعقارب وحراذين، يتعالى صراخهم الفرِح حين يجدون صديقا جديدا لهم تحت الحجارة فيلاحقونه بأقدامهم الصغيرة.

اليوم، صارت الحجارة وكتل الكونكريت هي التي تدحدل الناس من فوق جبل اللويبدة لتتحطم ذكرياتهم وتاريخهم وصورهم في القاع، وما أن تُقلب العمارات القديمة حتى يُسحق ما تحتها بقدم عملاقة تترك خلفها علامة بعمق عشرات الأمتار».
تكاد لا تخلو صفحة من الصفحات من هوامش وذيول يوضح فيها ما قد يستعصي على الفهم من كلمات أو مصطلحات أو رموز أو أحداث أو حتى أسماء شخصيات وردت في نص القصة.

وفي الهامش تلمح إخلاص الكاتب فهو لا يتوانى عن ذكر اسم من أوحى له بفكرة قصة ما.

ويعترف بالجميل ويذكر بالاسم أيضا من وجد نفسه مدينا لهم لدورهم في إخراج ما بجعبته من قصص وحكايا وأوجاع!

إلا أنه أوغل في بعض المواقع في فجاجة الواقع فأورد على ألسنة أبطاله عبارات وكلمات وجدتها صافعة وجثومها على المسامع لم يكن مبررا دائما!

وفي نهاية الكتاب يدلي البستاني بكلمة اعتراف يقول فيها:

«الكاتب ليس إلها يخلق من العدم، فليس ثمة عدم موجود أصلا، وهو كما العالِم، يقف على أكتاف الكثيرين ليصل إلى لفكرة والمعنى، الألوان والموسيقى، الماء والنار. كاذب هو من لا قبله ولابعده. طاووس منزوع الريش هو الذي يظن أنه اخترع الصوت والكلمة، وأن ما يخطه قلمه هو محض وحي شياطينه الذاتية. الكون والعالم والتاريخ والبشر، جميعها تحشر نفسها كل لحظة في أدمغة الكتاب ووعيهم: يتصادمون، يندمجون ويتفتتون، ثم يخرجون على الورق بكامل قيافتهم. لهذا أنا مدين أبدا إلى هذا الكون اللامتناهي الروعة، بكل تفاصيله وتعقيداته، كل ألوانه وأصواته وروائحه، كل موجوداته الحية وغير الحية، وكل ناسه: خصوصا من سمعت موسيقاهم وشاهدت أفلامهم وقرأت شعرهم وسردهم وفتحوا وعيي بأفكارهم، لم أكن لأكن لولاه ولولاهم، وياليتنا جميعا نعي انتماءنا الكوني هذا ونعترف بفضله».

في «الفوضى الرتيبة للوجود» أسئلة ومواقف وقناعات تحاورك.. قد تجذبك وتقنعك، وقد تثير امتعاضك وغضبك وتنفرك!

لكنها على أية حال ستحرجك أمام إلحاح السؤال!

هشام البستاني طبيب أسنان وكاتب وقاص، ولد عام 1975 في عمان ويعيش فيها.

::::::

“الرأي”، 15 تمّوز 2010

الرابط:

http://alrai.com/pages.php?news_id=346672