نصر شمالي
يعرضون على العرب في قطاع غزّة أحد خيارين: إمّا الفناء بالخضوع طوعاً لإرادة وهيمنة الصهاينة اليهود وغير اليهود، من دون قتال ولا نزال، وإمّا الفناء تحت الحصار، بالعطش والجوع والتلوّث والمرض، وأيضاً بالأسلحة المحرّمة كقنابل النابالم والفوسفور واليورانيوم المنضّب..الخ!
غير أنّ ما يستدعي لفت النظر والتنبيه هو أنّ ما تتعرّض له غزّة ليس جديداً ولا فريداً، فقد تعرّضت لمثله جميع المدن والقرى الفلسطينية بلا استثناء وبلا انقطاع، بهذا القدر أو ذاك وبهذه الطريقة أو تلك، فلماذا تستغرقنا تماماً مأساة غزّة الراهنة على تميّزها، ولماذا يبلغ بنا الاستغراق حدّ التعامل معها كأنّما هي أول المصائب وينبغي أن تكون آخرها، علماً أنّ مثل هذا الاستغراق في الحادثة الواحدة المحدّدة والموقع الواحد المحدّد هو الذي يسمح للعدو بالتكرار ويمكّنه من النجاح!
إنّ عرب فلسطين خارج قطاع غزّة محاصرون اليوم جميعهم مثل أهله، وهم أيضاً بدورهم تحت مطرقة الإبادة والإفناء بناءً على دخولهم خانة الخيار الأول، أي خيار الخضوع من دون قتال ولا نزال، الذي قبلت به سلطتهم الرسمية بقبولها خيار الدولة الموعودة المزعومة والتعايش مع الصهاينة بشروطهم. إنّه القبول الرسمي الذي لا يعني نجاحه سوى طيّ صفحة القضية الفلسطينية، أي زوال فلسطين الحقيقية وشعبها الحقيقي من الوجود، وتحوّلها إلى فلسطين وهمية تلعب دور المصيدة لقنص أخواتها! فهل يغيب عن بالنا ذلك كلّه، ويقتصر خطابنا وأداؤنا عموماً (بغضّ النظر عن الاستثناءات المحدودة) على السعي من أجل رفع الحصار عن غزّة، كأنّما هو قمّة مطالبنا وأقصى أهدافنا؟
بل إنّ الأمر يغدو أبعد من ذلك بكثير، وأخطر من ذلك بكثير، عندما نلتفت إلى ما أصاب العراق على مدى السنوات الست الماضية. صحيح أنّ عملية إخضاع العراق المقاوم كانت عظيمة التكلفة، وأنّها أودت بالهيبة العسكرية والسياسية للولايات المتحدة، وأحدثت تطوّراً نوعياً في موازين القوى الدولية، ووضعت حدّاً لهيمنة القطب الواحد، غير أنّ العراق اليوم، واقعياً وعملياً، في قبضة الولايات المتحدة والصهيونية اليهودية وغير اليهودية، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، بينما تلاشى إلى حدّ كبير جدّاً ذلك الاهتمام العربي الميداني وذلك الخطاب العربي الحارّ بصدده! فهل السبب يعود إلى توهّمنا أنّ العدو أخفق في انتزاع ما أراد انتزاعه من العراق؟ أي أنّ العراق نجا؟ أم أننا سلّمنا بإخضاعه، وأدرنا ظهرنا لقضيته، وانتهى الأمر؟
وجدير بالذكر أنّ العراق تعرّض على أيدي الأميركيين وحلفائهم لكلً ما تعرّضت له فلسطين على أيدي الإسرائيليين وحلفائهم، والعكس بالعكس. ويكاد مصير البلدين الشقيقين يبدو اليوم واحداً في المحصلة، إن استمرّت الحال على ما هي عليه، ولن يغيّر في جوهر الأمر أنّ للعراق سلطته الوطنية، فهذه السلطة لن تملك من أمرها الشيء الكثير حتى بوجود المخلصين لوطنهم فيها، فهي لن يسمح لها بأن تكون أكثر من سلطة شكلية، مثلها مثل السلطة الوطنية الفلسطينية مع بعض الفوارق الظاهرية. أي أنّ العراقيين حقّقوا بسهولة عين ما يسعى الفلسطينيون إلى تحقيقه بصعوبة شديدة، ويا للعجب العجاب!
بل إنّنا نستطيع الذهاب أبعد من ذلك بكثير، فنقارن بين استهداف رئيس العراق صدّام حسين شخصياً وإعدامه، وبين استهداف رئيس فلسطين ياسر عرفات شخصياً واغتياله! لقد فعل الإسرائيليون في رام الله ما فعله الأميركيون في بغداد، أو العكس لا فرق! وقد ترتّبت على غياب الرئيسين النتائج نفسها تقريباً. فمثلما أمعن الأميركيون في اجتياحهم واختراقهم وإخضاعهم لجميع جنبات العراق، وفرضوا الواقع الذي أرادوه، أمعن الإسرائيليون أيضاً، بالتناغم والتزامن، في اجتياح واختراق وإخضاع جميع جنبات فلسطين. ولا يغيّر في صحّة المقارنة أنّ الإسرائيليين انسحبوا من غزّة ليضعوها تحت الحصار المحكم، بل إنّ الأميركيين، في الواقع، تعاملوا مع بعض المناطق والمدن العراقية بالطريقة نفسها، كمدينة الفلّوجة مثلاً!
مثلما حدث لغزّة لاحقاً، وربّما أكثر، أقدم الأميركيون على تدمير مدينة الفلّوجة العراقية الثائرة، فقصفوها بقنابل النابالم وبالقنابل الانشطارية والفسفورية وقذائف اليورانيوم المنضّب، ومارسوا عمليات اصطياد النساء والأطفال الهائمين الجوعى برصاص القناصة، كذلك أقدموا على قتل الأطباء والمرضى في المستشفيات، وسحقوا الجرحى المدنيين في الشوارع تحت عجلات الدبابات..الخ، وبعد ذلك أحكموا الحصار ضدّ المدينة الباسلة. ويقول العلماء أنّ ما أصاب الفلّوجة من قذائف اليورانيوم يفوق أضعافاً ما أصاب هيروشيما، وأنّ آثاره الكارثية ستشمل أجيالاً عديدة قادمة، غير أنّ أحداً من العرب لا يبدو مهتمّاً بذلك!
ولكن، مثل فصل من مسرحية غرائبية، أو رواية هوليودية، قرّر البنتاغون تحويل بقايا أنقاض الفلّوجة إلى معسكر اعتقال، وقرّر تحويل سكّانها المدنيين إلى معتقلين يعيدون تحت الإشراف العسكري بناء الحطام بصورة هندسية غريبة لا مثيل لها في العالم! وكان قائد الهجوم على الفلّوجة الميجر جنرال ريتشارد ناتونسكي يقول: “إنّ الحكومة العراقية المؤقتة هي التي اقترحت علينا مثل هذه الإجراءات”! وهو كاذب بالطبع، لأنّه لا يحتاج لمن يعرض عليه ذلك!
الخلاصة، وكي لا تضحك من جهلنا الأمم، ينبغي أن نرى القضية ونتعامل معها بجميع جوانبها وأبعادها ومواقعها، وبالمقدار نفسه من التركيز والاهتمام، فلا ننسى العراق ولا الفلّوجة، ولا ننسى فلسطين ولا غزّة..الخ، فالذي ينسى هذه ويهملها ينسى تلك ويهملها، وفي النهاية يخسر كلّ شيء!
:::::