العميد الركن أمين حطيط
عندما فجّرت المقاومة الفلسطينية فندق الملك داوود في فلسطين المحتلة قبل نيف و35 عاماً سئل احد مسؤولي العدو الصهيوني عن طبيعة الرد على العملية الجريئة تلك فأجاب: “اننا سنختار اسلوب رد لم يحلم به الشيطان”، وبالفعل كان الرد في بيروت بعد اشهر باطلاق النار على سيارة نقل جماعي فلسطيني، بعدها اشتعلت الحرب الداخلية وطورت ضد الفلسطينيين وغذّتها “اسرائيل” بالسلاح والتدريب بعد ان خططت لها، وساهم الخارج بالمال، وانتهت الفتنة المتبوعة بحربين “اسرائيليتين” الى تدمير لبنان في اكثر من مستوى ومجال، والاخطر من كل ما دمر هو المناعة الوطنية تجاه العدو، حيث ان سنوات الحرب شهدت قيام المؤسسات العميلة والقوى العميلة والاحزاب العميلة…”لاسرائيل”.. جهات يخفت صوتها او يعلو حسب الظروف.
وعندما اطلق لبنان مقاومته وحرر معظم ارضه وحاول تطهير ذاته من العملاء شهد امناً حسد عليه حتى العام 2004، لكن ذلك لم يرق لدعاة “التغريب” والاستتباع و”لعناصر البيئة العميلة” فاقدموا على هدمه بجريمة اودت بحياة رئيس الحكومة رفيق الحريري، الجريمة التي اتخذت مدخلاً لتنفيذ خطة تدمير الوطن بفتنة داخلية حبكت، تلتها حرب “اسرائيلية” اميركية حضّرت لتكون الطريق الى تغيير وجه المنطقة كما كانوا يخططون. لكن الوعي لدى الوطنيين في الداخل وثبات المقاومة في وجه “اسرائيل” عطلا الخطة وانقذا لبنان.
بعدها بدأت “اسرائيل” تعد لحرب الانتقام والثأر، ولكنها ايقنت ان مقاومة كالتي يقودها حزب الله محتضنة من شرائح شعبية بحجم جمهور المقاومة في لبنان تستحيل هزيمتها، فكانت الخطة عوداً الى بدء…. اي الى خطة 20042005، باثارة فتنة داخلية تشغل المقاومة، تتبعها حرب “اسرائيلية” تجتثها، وهذه المرة كانت “المحكمة الدولية” التي انتجت كثمرة من ثمار جريمة الـ 2005، هي الاداة، عبر خطة تتمثل باتهام المقاومة بالقتل، تتبعها نار طائفية سنية – شيعية كما يبتغون، وكلها ترتكز على قرار اتهامي صنع كما يبدو مسبقاً باليد “الاسرائيلية” ـ الاميركية، واستخدمت في التصنيع ادوات لبنانية عميلة هي في الاصل من مخلفات بيئة الـ 1975 المطورة بما استجد بعد العام 2005، والممتدة الى كل الطبقات والفئات من سياسيين وعسكريين ومدنيين ورجال يدعون انهم رجال دين، وموظفين من القطاعين الخاص والعام كان اخطرهم على الاطلاق عميل شركة الخلوي “الفا” شربل قزي وقرينه في الخيانة طارق الربعة. لكن مخابرات الجيش اللبناني الحريصة حقاً على لبنان قد كشفت هذين العميلين مع زميل ثالث لهما وفي الوقت القاتل، قبل شهرين من ساعة الصفر لتنفيذ الخطة المرسومة، وكان لاكتشافهم اثر مباشر في كل ما خطط وحضّر من باب القرار الاتهامي.
وحيث ان هذا القرار كان بحاجة الى الدليل والقرينة الحسية التي يستند اليها الاتهام، وبعد سقوط شهود الزور وتلفيقاتهم سابقاً، فقد حصر القرينة والدليل بمسألة الاتصالات وتبادل المعلومات عبر الهاتف. هنا يبدو الدور “الاسرائيلي” المركزي، حيث ان امساك “اسرائيل” عبر عملائها وجواسيسها المكتشفين، في كل ما يتعلق بقطاع الاتصالات في لبنان. مكنها من اعطاء المحقق الدولي ما يمكّنه من توجيه الاتهام بحسب ما تريده الجهات المخططة للفتنة، لكن الكارثة التي لحقت بالخطة العدوة واصحابها تمثلت بافتضاح امر الجواسيس، ما يعني سقوط كل ما يمت الى الاتصالات بصلة، وحيث ان ظهور الدور “الاسرائيلي” قد اسقط صدقية قاعدة المعلومات واعدم الدليل الوحيد – كما يبدو- الذي يرتكز عليه القرار الاتهامي.. فقد سقط القرار الاتهامي قبل ان يولد، فسقطت الفتنة،… وفقدت “اسرائيل” مرة اخرى فرصة شن الحرب الانتقامية ضد لبنان… وهنا علا صوت العملاء في الداخل الان، خاصة من الطبقة السياسية التي هالها ضياع الفرصة ضد المقاومة، لان الاخيرة وبعد ان افتضح امر الخطة لن تكون كما يريدون طيعة لهم تستجيب لمكرهم وزورهم.
لقد انقذت المخابرات في الجيش اللبناني، لبنان، من فتنة يحضّر لها، فاستحقت شكر كل وطني شريف وتقديره. نقول هذا وهو حقها مع علمنا انها لا تنتظر ذلك لانها من نسيج يعمل على قاعدة القيام بالواجب كما هو القسم. لكن… هل ان هذا الانجاز يكفي؟
نقول لا، لا يكفي، لأن في لبنان بيئة منتجة للعملاء، واذا كشف عميل او جاسوس فانها قادرة على انتاج البديل فورا، لان “اسرائيل” استطاعت في الماضي وخاصة في السنوات الخمس الاخيرة انشاء 3 طبقات من شبكات العملاء والجواسيس، العملاء الناشطين، والعملاء الخامدين والمستعدين للتحريك، والعملاء قيد التحضير. واجهزة الامن تلقى صعوبة كبيرة في كشف النوعين الاخيرين، فاذا كشفت النوع الاول فان “اسرائيل” تعوّض عنه بمن هم محضّرون مسبقا.
لهذا نرى ان اكتشاف 154 عميلاً وجاسوساً حتى الان لا يعني ان الجسم اللبناني قد تطهّر وسلم، وان الخطر قد زال. ان مكافحة هذه الظاهرة الخيانية تستوجب عملاً متكاملا من كل الدولة والوطن. يبدأ بتشريع يشدد العقوبة والحسم في تنفيذها، وبتوسيع دائرة المسؤولين عن جريمة العمالة ليدخل فيها كل من حرّض او سهّل او غطى او دافع او نظّر لحسن العلاقة مع “اسرائيل”، وصولاً الى قضاء لا يتردد في الحكم باشد العقوبات مهما كان وضع المدعى عليه من انتماء، يترافق ذلك مع حملة توعية ونشر ثقافة وطنية تلتزم بها وسائل الاعلام كافة.