كلاديس مطر
يكتب الفنان بيكاسو الرسام الكبير لأحد أصدقائه فيقول: (ليس ما يفعله الفنان هو ما يؤخذ بعين الاعتبار و إنما ما يكون عليه هذا الفنان. لم يكن (سيزان) ليثير اهتمامي لو عاش و فكر مثل (جاك إميل بلانش)* حتى ولو كانت التفاحة التي رسمها أجمل بألف مرة. إن ما يهمني في سيزان هو القلق و المعرفة كما أن الآلام هي ما تهمني في فان غوغ، و اقصد هنا مأساة الإنسان، أما الباقي فهو خاطىء عديم القيمة.)
ربما كانت هذه هي الحقيقة بعينها.
الحق، تتوافر في الفنان الأصيل، هذه العوامل الإنسانية التي لا ترحم: القلق وإحساس لا لبس فيه بالتقوى تجاه شيء ما. قلق، لأنه جزء من هذا القلق الإلهي الأولي الذي لولاه لفقدت الحياة نبضها الخاص. فكل شيء – ربما هذا هو تقدير الفنان – مرتبك ومتوتر وذلك ضمن منظومة حياتية بيولوجية متماسكة ومتوازنة تؤمن بقاءها بذاتها ولذاتها، ولهذا فهي موجودة أبدا بفضل تناقض أقطابها المتضاربة.
انه قلق أصيل و ذلك بسبب هذا الافتراض القائم: ماذا لو اختل توازن منظومة الحياة!
وهل لوجود هذه المنظومة بشكلها الحالي أي مبرر!! وما معنى استمراريتها! وأين هو دور الإنسان وخصوصا الفنان وعمله في الحفاظ على هذا التوازن الطبيعي فيها!
إن هذه التساؤلات التي تراود الفنان هي التي تكشف إحساسه المتجدد و لكن الحقيقي بالشك، ولهذا فهو يبدو – معنويا على الاقل – غير قادر على الثقة المطلقة بأمر ما من الممكن أن يكون محورا وموضوعا لتقواه على مدى سنين عديدة!
انه يمعن النظر، نظر الفنان، في هذه المهازل البشرية فيرى عبثا هائلا يقف فاردا جناحيه، عبثا يشبه القدر ولكنه ليس بالقدر، ويشبه الافتراض ولكنه ليس بافتراض، ويشبه الحقيقة ولكنه لا يمت لها بصلة. ثم تطالعه أفكار أخرى كأن توعز له إن الحياة نفسها أضغاث أحلام تأخذ شكلا ماديا في بعض الأحيان، أو ربما هي افتراض أو حتى اعتبار، وأن الله وكل الخواطر الفلسفية والدينية والفكرية والفنية الأخرى تقع في قلب هذه الأحلام إن لم نقل تكللها. لكن يحدث أيضا ان يكون الفنان على الضفة الاخرى للنهر فيرى العالم مضاءا بأنوار ازلية لا يعرفها – ربما هكذا يعتقد – ولا يراها احد سواه. وفي الحالتين هو عازل نفسه في تطرف افتراضاته وتوترها. لكنه لا يقع في خانة عدم التوازن الوجداني بالضرورة لكونه فنانا فحسب، كما لا يمكن اعتبار طبيعته الفنية والنفسية منطوية على بذور جنون أو اختلال نفسي أو ما شابهه. والحقيقة انه يبدو على هذه الحال لانه يفاجىء الحياة على حين غرة وهي متلبسة بتناقضاتها ومهازلها أو حين يراها وقد اخذت، في لحظات ياسها، تتمختر على طرف هاوية.
ان الفنان، بنظره المجهري الباطني، قادر على ان يرى اغلب القيم التي نعشقها متلبسة في لحظات الضعف ومنهارة تحت سياط القيم (الأخرى)، لكنه الوحيد، ربما، القادر على ان يقيم هذه القيم من بين الأموات وان يحيي عظامها وهي رميم، وان يربت على كتف الحياة كأب واع وان يقنعها بالعدول عن الانتحار. وهكذا فهو يتحلى بصفات معينة تشبه الرحمة والقدرة المتواصلة على غفران خطاياها – الحياة – المميتة و ذلك عندما يحلو لها ان تكون (عبثية) بدرجة تفوق تصور أو احتمال مطلق (إنسان).
الفنان قوَام من بين الأموات وربما هو الوحيد المخول لان يقيم النفوس المائتة وجدانيا والأرواح المحتضرة وهو المرشح المثالي، برفقة رجل العلم طبعا، لان يعيد تأهيل الحضارات المنهارة وان يرمم هذه الشروخ العاطفية في جسد البشرية ومؤسساتها. ولهذا فاننا نفترضه قائما من بين الاموات قبل الاخرين لانه مدرك لتفاصيل هذه اللعبة وحيثياتها. انه انسان – صدقنا ام لم نصدق – قام من بين ركام الضعف والارهاق غير المبررين، من بين ركام الشك المطلق واليقين المطلق والعدوانية و التكالب ونفض عن ذاته مراهقة مر زمانها، أو شيخوخة مستعجلة، أو طفولة متأخرة.
انه فنان ايجابي باكثر ما تحمله هذه الكلمة من معنى. انه بالتاكيد كذلك والا فما معنى ان نوكل اليه ولو ضميريا مثل هذه الوظائف الحيوية ليقوم بها.
ولكن مهلا.. انني لا اتحدث هنا ولا بشكل من الاشكال عن مشروع اله وانما عن فنان حقيقي قدر الامكان. كما انني لا اسهب مزاجيته المعروفة ولا لحظات ضعفه أو تلك القصص التي تروى عن الطقوس التي ترافق ابداعه الفني ولا عن نزعته التشاؤمية الاصيلة ولا عن زلاته الكبرى وانحرافاته لكني اصر بالتاكيد على ان المآثر الشكلية وربما النفسية لا تصنع فنانا بالضرورة ولا هي دليل على وجود منجم فني مجهول، على حين تغدو ذات قيمة حتما وذلك عندما تسبغ عليها الموهبة الفنية أو الادبية معنى معينا بذاته.
يقول الروائي السوري حنا مينة واصفا حالته عندما يهم في الكتابة: (عندما اكتب تعتريني حالتان من التوتر والاندماج: التوتر، لان جهازي العصبي برغم ست حبات من المهدئ كل يوم يتحفز وكأنني في معركة ضد نفسي. منذ الكلمات الأولى والسيكارة الأولى وفنجان القهوة الأول تبدأ أعصابي لعبتها الجهنمية معي، فيرتفع منسوب تشنجها شيئا فشيئا كما يرتفع منسوب نهر في فصل الربيع. تنس في البدء ثم تشتعل، تحترق تتلف وعندئذ يتصبب العرق البارد من جبهتي و يتسمم دمي وأحس بغثيان والدوار أو أتوقف عن الكتابة، فأستريح على مقعد أو استلقي على سرير بعد ان اشرب كوبا من النعناع المغلي بانتظار ان تزول النوبة واعود الى وضعي الطبيعي خلال ساعة أو ساعتين.)
الحق، ان هذه العوارض التي ظهرت على الكاتب كان يمكن ان نرجعها الى مجرد – وذلك اذا ما اردنا ان نتحدث بلغة طبية بحته – وهط دوراني نتيجة الانفعال والتوتر الزائدين الأمر الذي قد يؤدي الى هبوط في ضغط الدم أو الى مثل هذا الإحساس بالغثيان والدوار.
لكن هذه العوارض قد أخذت قيمة ودلالات أخرى وذلك لأنها نتيجة لهذه العملية الإبداعية النفسية – الجسدية – الفنية المركبة. انها عوارض الولادة الإبداعية تحديدا عند حنا مينه وربما لدى كتاب آخرين، و لهذا لا يمكن أن تعتبر عوارض مرضية أو (مجرد) عوارض مرضية كغيرها من العوارض التي تتبدى على أفراد آخرين. أما كوب النعناع المغلي الذي يتناوله الكاتب للتخلص من هذه الأعراض فلا ينطوي ضمنيا على قيمة علاجية بحتة وإنما من الممكن أن يكون طلبا لبداية مرحلة إبداعية لاحقة اكثر استقرارا.
طقوس و ابداع لا شخصي
الواقع إنني اميل للاعتقاد بان الفنان يرتاح في التعبير عن فنه من خلال طقوس بعينها احيانا. ان افلامنا وأدابنا مليئة بفنانين ذوي شعور منفوشة وذقون غير حليقة يدخنون البايب ولا يأبهون كثيرا لملابسهم وأناقتهم ولا حتى لترتيب المكان الذي يقيمون فيه، بل غالبا ما تكون غرفهم فوضى كاملة تتداخل فيها الأوراق والمخطوطات والمنافض المليئة بأعقاب السجائر وأحيانا اللوحات المختلفة أو المناشير العقائدية و الفكرية. ربما تكون هذه هي بالفعل المواصفات التي يتمتع بها (بعض) فناني العالم لكنها ليست قاعدة بالتأكيد. وذلك لان الفنان غير قادر دائما على قياس ردود أفعاله ومواقفه بمسطرة مخططة تزينها الأرقام. انه رجل العموميات والخطط الشاملة والنظرة الكلية للأمور.
صحيح انه يعرف – ربما ضمنيا – بان هذه نقيصة في زمن برع في فرز الاختصاصات لكنه يبدو عاجزا مع ذلك أمام هذه الرغبة التي لا تقاوم في تلخيص معنى الحياة بكلمتين و إطلاق أحكام شاملة عليها.
ولكن، و بعد كل شيء، ما قيمة العمل الإبداعي بذاته وهو توق لا سيطرة للفنان عليه يتطلع للخروج ؟! الحق، إننا نخطئ حين نظن أن هذا التوق المتوثب في روح الفنان لخلق عمل ما هو توق شخصي من اجل الخلق. الواقع انه هذا الشيء اللاشخصي الطامح للوجود. وهذه ميزة العمل الإبداعي الحقيقي؛ انه عمل لا شخصي، عمل مخلوق بفعل عوامل منفصلة خاصة بذاتها لا يمكن أن تكون أو توجد أصلا إذا كانت تحت رحمة الظلال الشخصية جدا في تركيبة الفنان – الانسان. وبالمقابل تتلون هذه العوامل النفسية – الجسدية التي تساعد على الإبداع بشخصية الفنان الحاضنة لها. لكنها حاضنة فقط وذلك بالضبط كما هو الحال في عملية احتضان أو حمل جنين في رحم المرأة. ان هذا الجنين المحتضن لا يمكن ان يكون نتيجة لعمل (شخصي) – بالمعنى الحصري لكلمة شخصي – قامت به الأم والا كانت العملية قد اختلفت من أم لأخرى. صحيح أن الوليد قد يأخذ من صفات والديه (الشخصية) والوراثية وربما يأتي صورة طبق الأصل عنهما لكنه مع ذلك كائن مختلف من رأسه حتى أخمص قدميه وبهذا المعنى فهو عمل إبداعي (متكرر لا شخصي).
انه لا شخصي لان طريقة تكونه تخضع في كل الظروف لمجموعة العوامل الجسدية والنفسية نفسها وبالتالي فان الأم هي حاضنة لمولود يشبهها ولكنه منفصل عنها. إن المرأة والرجل لا يتفننان أو يبدعان في الطريقة التي يستخدمانها في الحصول على كائن آخر منها. انهما في الحقيقة (ينفذان) خطوات ترضيهما وتتناسب مع طبيعتهما النفسية والجسدية. انهما يقومان بما يقوم به كل امرأة ورجل منذ بدء الخليقة وذلك للحصول على النتيجة نفسها بدقة. انهما قد يبدعان في الطريقة التي يتحابان فيها وهذا هو الجزء الشخصي في العملية كلها، وهو جزء لا يقدم أو يؤخر في طريقة تكون الجنين – الكائن أو خروجه على ما اعتقد.
وهنا بالضبط يكمن الفارق الجوهري بين ولادة طفل وولادة عمل فني إبداعي. فالعملية الأولى هي إبداعية طبيعية، متكررة أوجدتها هذه النزعة البقائية في الطبيعة. انها عملية لا يمكن التفنن بها أو تغيير طريقة حدوثها وتبديل خطواتها أو تحريفها. اما عملية الخلق الفني فانها تتم بطرق لا تعد و لا تحصى وهي تختلف من إنسان – فرد لاخر، و بالتالي فانها تتم بما يتناسب مع قناعات الفرد و نظرته للأمور واحساسه الخاص بالدنيا حوله وبهذا المعنى فقط فانها أيضا عملية تعتبر اكثر شخصية وحميمية من العملية الأولى.
الحق، مهما كانت درجة التحصيل العلمي للشريكين أو مركزهما الاجتماعي أو افكارهما أو عقائدهما أو حتى لون بشرتيهما أو موقفهما من الحياة أو السياسة أو الاقتصاد …..الخ فان العملية الجنسية إذا سارت بمراحلها المعتادة من شأنها ان تؤدي الى امكانية الحمل. أما عملية الإبداع الفني وولادته فهي اكثر تعقيدا وطرق حدوثها متنوعة وهي تتأثر فعلا بخلفية الانسان وثقافته وبيئته و نظرته للحياة ولهذا فان أفكارنا التي (نولدها) هي اقرب إلينا من أولادنا الذين (ننجبهم)، و ذلك لان أفكارنا هي نحن تماما على حين أن أولادنا هم أقرباؤنا. هل تبدو هذه النتيجة غريبة!!! ربما!
انا واهرامات الجيزة
ولان الحياة بجزء كبير منها – وأحب أن افترض هذا – أفكارنا المبدعة المتجسدة في مختلف المجالات فان أي إحساس باللانتماء لهذه الحياة يمكن أن يشعره الفرد، يرجع في جزء كبير منه لكونه لم يساهم (إبداعيا و مباشرة) في صنع حياته الخاصة التي هي بالطبع جزء من الحياة ككل. وهذه هي بالضبط مشكلة العديد من أبطال رواياتنا في النصف الثاني من القرن الماضي – وهم أبطال لهم أقرانهم في الواقع المعاش بالتأكيد، الذين وجدوا الحياة طفحا لا يلبث أن يزول ووجودا بيولوجيا عارضا. انها عوارض اللانتماء وهذا الإحساس المدمر الرهيب بعبثية ما يحدث ولا جدواه. إن فرد هذا القرن يقاوم وجودا فقد معناه بالنسبة له على الأقل وشعورا مريعا بالضآلة أمام آلة الحضارة الهائلة التي تزحف دون توقف. ولكن، متى يقف إنسان ما أمام هرم من اهرامات الجيزة، مثلا، ولا يشعر بالضآلة واللانتماء! الحق، انه لا يشعر بضآلته وذلك عندما يكون واحدا من الذين بنوا هذا الهرم. انه قادر حينذاك ان يحدثك عن تفاصيل البناء وعن حجم كل حجر ومساحة الهرم الكلية وان يصور لك من دون كلل الظروف التي تمت فيها العملية كلها. انك ترى في عينيه هذه (العلاقة) بينه وبين هذا الجزء من الحياة = العالم. ربما تكون علاقة حب أو حتى نفور … لا يهم، المهم ان هناك موضوعا لهذه العلاقة مع الحياة وهذا بالضبط نفي لكل إحساس بالاقتلاع والضآلة واختفاء المعنى.
إن هذا البنًاء يملك موقفا محددا من الهرم ولا يمكن في حال من الأحوال ان لا يكون شاعرا بعدم الانتماء إليه أو بوجوده الفعلي في الواقع. وإذا افترضنا (أن اللاعلاقة مع الحياة هي علاقة من نوع آخر فانه يمكن تصنيفها باعتبارها اخطر أنواع العلاقات قاطبة، وذلك لأنه لا رجاء ولا قيامة ولا بصيص أمل في عدميتها.)
وبالمنطق نفسه نقول ان الفنان المبدع لا يمكن ان يكون إنسانا لا منتميا أو مثقلا بإحساس مدمر باللاجدوى والضآلة ويبقى فنانا، وذلك لأنه إنسان متورط مع الحياة بشكل استثنائي. انه مجبول بها، متفاعل معها بكليته. صحيح انه غير موافق مبدئيا على الحياة كما هي وانه في قرار نفسه ربما غير متيقن من شيء فيها بشكل كلي أو مطلق ولهذا فانه ضمنيا لا يمكن ان يكون (ملتزما) بالمعنى المعروف والعميق للكلمة. اقول بالرغم من هذا كله، الا انه معني بترميم هذا النقص فيها وتطويرها ودفعها في طريق تحسين بقائها الخام. عموما، يبدو الفن نقيضا للحياة كما هي. حتى أقصى درجات الواقعية في الفن هي محاولة لإظهار الحياة كما هي لا (كما هي).
اخلق الحياة….. كل لحظة
مهما يكن، يبدو أن الإبداع والخلق (العمل) هي أمور ذات قيمة علاجية حقيقية لهذا الإحساس بالاقتلاع من الحياة. فإذا لم يساهم الفنان – الإنسان وحتى رجل الشارع العادي في خلق الحياة كل لحظة ويعمل على إيجادها، فانه يفقد تلقائيا الانتماء لمواضيع فنه وهذه هي الضربة الوحيدة القاضية. وكل حديث نطالعه في نصوص المدارس الفنية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين حول تمجيد فن (اللاشيء) فخ لا طائل منه. ولهذا، أجد نفسي مجبرة على الاقتناع أن اتساع الحضارات المهول والمتسرع في هذه الفترة الزمنية من التاريخ – وهو اتساع تراكمي وليس فجائي – كان على حساب هذا الإحساس بالألفة تجاه هذه الحضارات بالذات. هكذا الإنسان، غير قادر على الوثوق بأمر لم تباركه يداه أو يثني عليه منطقه الخاص.
ان هذا الامتداد الحضاري المترامي نما بشكل أسرع من طاقة الإنسان على المساهمة فيه فبدا مريبا و كأن كائنات غير آدمية هي التي أوجدته. انه يتأمل بقلق هذه الحضارات التي تنطوي على بعض من ملامحه الفردية الخاصة ويعمل ذهنه ليستشف تلك الروح التي تتغلغل في طياتها إلا انه لا يطالع سوى الخيبة ذلك ان هذه الحضارات كانت تنمو بطريقة مختلفة، وليست فقط أسرع، عن الطريقة التي كان ينمو بها روحيا ونفسيا. وهنا تكمن غرابة الفخ الطبيعي المذهل.
يأتي دور الفنان الآن. انه في الحقيقة يعمل على مستويين مختلفين: من جهة، يحاول ان يطور هذا النمو النفسي والوجداني والأخلاقي للإنسان بما يتناسب وسرعة حضارته ولكن دون مسايرة لهذه الحضارات على حساب أمور إنسانية أخرى مهما كلف الأمر، ومن جهة ثانية، يعمل على (تنقية) هذه الحضارات من شوائب إسفافها وقشورها الزائفة ومشانق الشكليات التي تطالع الإنسان – الفرد كل ثانية، مظهرا على أن هذا التسارع الحضاري انما هو دون أية مدلولات أخلاقية ان لم يتناسب مع قيم الإنسان. لكن الفنان، مع ذلك، لا يتوقع ان تعود البشرية الى طفولتها الطاهرة الساذجة حيث الإنسان لا يعرف الخداع ولا المكر وانما يتمنى عليه ان يقوم من بين ركام أخطائه مكللا بهذا التفهم العميق للسبب الأصلي الذي يدفعه لكي يخطىء.
ان الفنان الحقيقي يؤمن بان البشرية لم تعرف فجرا أو طفولة نقية طاهرة. والحق انه يدرك ان ليس هذا هو هم البشرية (لتبقى)، ذلك ان الفن العظيم، برأيي، لا يمكن ان يتغنى بهذه الحالة الطوباوية للحياة و يبقى عظيما. انه كموجده تماما يجب ان يكون فنا بقائيا بالدرجة الأولى. يجب ان يكون على صورة الحياة ومثالها. فناً يرى في الواقع ميلا هائلا للتبدل والتنوع والتذبذب، لكنه ميل يتحرك في اتجاه واحد يصحح مساره بشكل متواصل وبلا انقطاع. وعليه فان الفنان الاصيل لا يبحث عن هندسة مختلفة لنسيج الحياة وانما يحاول ان يظهر نسيج الحياة الحقيقي للعيان وعلى الملأ، وهي مهمة ليست سهلة على الإطلاق وهي وقف على الموهوبين ولهذا نقول ان الفنان بسبب طبيعته معطى ان يرى هذه الخيوط المتداخلة في هذا النسيج وان يعمل على حلها.
حائك زاده الفضيحة
اما سؤالنا فهو: كيف يحل الفنان الخيوط المتداخلة في نسيج الحياة ؟ كيف يمكن لرسام مثلا أن يستل ريشته ويفكك هذه الخيوط و يعيد نسجها في لوحة ذات مساحة معينة ؟ أو كيف يمكن لممثل ان يجسد دورا ما بشكل يظهر هذه الحركة التبادلية بين طباع الشخصية المجسدة و إيقاع الحدث ؟ وهو هنا يظهر هذا النسيج وخيوطه.
الواقع، للرد على هذا السؤال اقول انه في مثال الرسام نجد أن الكشف يتم من خلال تجميد موقف ما بتفاصيله الى الأبد ضمن لوحة محددة الأطراف. في هذا الموقف او المشهد الجامد، اللامتحرك فيزيائيا يعري الفنان اللحظة التي اختارها بغية إزالة هذه الحواجز التي تحجب هذا النسيج عن الرؤية. فمنظر حي مثلا مأهول بالسكان أو طبيعة مشجرة أو حتى لوحة الصلب لسلفادور دالي هي مشاهد نراها في الواقع المعاش من خلال حركتها اللامتوقفة وبالتالي فنحن غير قادرين بسبب هذه الحركة السريعة على التأمل فيها أو الكشف عن هذا المعنى الشعري الكامن في غزارتها. يأتي الفن ليحجز هذه الحركة والى الأبد تاركا بذلك المجال لعملية التعرية العقلية ان تتم بهدوء.
أما في المثال الثاني، فالتعرية تتم من خلال هذا (الفضح المتواصل والمكثف) لطباع الشخصية من خلال الكلمة الكاشفة المدروسة وحركة الممثل. صحيح ان عاملي الإثارة والمتعة يدخلان في حساب الكاتب أو المخرج الا ان هذا لا يمنع من ان الحصول عليهما يتم من خلال (فضح الحياة) وهي في قمة حشمتها. هذا هو الفن: تعرية الحياة من ورقة التوت وكشف عورتها لكنها ليست تعرية فحسب أو تعرية للتعرية، وانما هي تعرية صادمة غرضها التعرف أولا على (الحياة بكليتها) ثم التعامل معها انطلاقا من موقف معين يتناسب وشرط كل إنسان النفسي والمادي. ان العلاقة مع الحياة تكون افضل وذلك عندما يتم التعامل معها انطلاقا من هذه المعرفة شبه الكاملة لطبيعتها. ان الفنان معني بهذا التعريف المتواصل بالحياة (كما هي). انه معني بكشف بشاعتها وملامح جمالها و لماذا هي موجودة اصلا. ولكن قد يقول قائل: ان هذا الجهد الفني المتواصل لم يسفر عن اية نتيجة فعلية. فهو لم يلغ حربا على وشك الاندلاع ولم يثن يدا عن ارتكاب جريمة، ولم يردع ميلا للتزوير والخداع والظلم و لم يساهم في تحرير قانون او كسر آخر. ربما كان هذا صحيحا بدرجة ما، لكن الحياة لم تنقرض مع ذلك وهي لم تفعل وذلك بفضل هؤلاء الذين استوعبوا حتى الأخير تلك الدروس النادرة التي قدمها البعض عنها والذين يصرون حتى آخر لحظة في حياتهم على التعريف بها وكشفها بكل طاقتهم على الحب.
الحق ان قطار الحياة يندفع بقوة بفضل هذا الإيمان المذهل للبعض بوجوب الإبقاء عليها وذلك اثر اكتشافهم المدهش بان هناك (معنى) في مجرد الوجود فيها. معنى يقول ان هناك لذة وهدفا حقيقيين قائمين بذاتهما بسبب هذا الوجود البحت. هذا هو الفن: الإيمان بان هناك معنى هائلا للحياة فيها.
ومن هو اقدر على إيجاد هذا المعنى فيها الا ذاك الذي ينظر اليها ليس نظرة كاشفة فحسب وانما نظرة متورطة فيها الى أقصى درجات التورط والحب.
ربحي الكبير
ان في الفن سبيل حقيقي لإدراك ما نجحت العادة في تغيبنا عنه، سبيل الى رؤية الأشياء التي جهدت الحياة اليومية والروتين في تمويهها وتغيير صورتها الفعلية، سبيل الى هذه الصدمة التي نحتاجها من وقت لآخر وذلك متى افقدنا الملل الصواب وأضاع الإحباط رشدنا ونقاء بصيرتنا، سبيل الى الحب الذي غيرت السنون من صورته وشوه النضج ملامحه وعبثت الحكمة المملة في وهجه فأطفأته …
اننا نكبر في الحياة ومع الزمن، لكننا نفقد في هذا الفخ أهم عناصر سعادتنا لنربح نضجا تباركه الأنظمة الاجتماعية وحكمة تتغنى بها المراسيم غير المكتوبة.
* جاك اميل بلانش: ناقد فني.
:::::
كلاديس مطر