عبد اللطيف فاخوري
حددت الكنيسة يوم 25 آذار عيداً لبشارة الملاك جبريل لمريم العذراء بابنها المسيح عليه السلام. وذلك بعد ستة اشهر من تبشير الملاك زكريا بيحيى عليه السلام (لو/ 1. 36). وكانت بعض اعياد النصارى مواسم عامة يشهدها النصارى وغيرهم من اهل الملل الأخرى. وفي زمن الخلافة العباسية ببغداد والخلافة الفاطمية بالقاهرة كان المسلمون يحتفلون بأعياد النصارى كاحتفالهم بأعيادهم (المواسم 1/61). ومن هذه الاعياد عيد الميلاد وعيد الفصح وعيد البشارة وعيد الغطاس الذي يسمى عند النصارى عيد الظهور الالهي، ويقال ان من سهر ليلته كلها او غطس فيها طال عمره. ومن النسطورية من كان يقول بالقدر خيره وشره الى غير ذلك من اقوال تسرّب منها الى المسلمين الكثير.
كان للنصرانية ثقافة دينية اهمها الانجيل وما احاط به من شروح وزيد عليه من قصص وأخبار. وقد تسرب ذلك الى المسلمين من طرق اهمها نصارى العرب لاسيما تغلب ونجران. فالطبري في تفسير سورة مريم ينقل شروحاً كثيرة من الانجيل وتفسيراته. نقل احمد امين عن جولد زيهر حديث ابي داود عن ابي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “من اشتكى منكم شيئا او اشتكى اخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، امرك في السماء والارض. كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الارض. اغفر لنا حوبنا وخطايانا انت رب الطيبين. انزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرؤ”. وعلّق الناقل على ذلك بأنه دعاء نصراني مشهور (“ضحى الاسلام” 1/ 349 و341).
وقد كرّم الاسلام السيد المسيح اكراماً لم يحظ بمثله اي نبي من انبياء الله. كما ان مريم هي المرأة الوحيدة التي ذكرت باسمها في القرآن الكريم وقال عنها “يا مريم ان الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين” (آل عمران 42) ووصف القرآن مريم والمسيح بأنهما “آية للعالمين” (الانبياء 91). وقال عن المسيح: “انما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته القاها الى مريم وروح منه” (النساء 171). فقد اختار الله تعالى مريم لكي تكون اماً للمسيح الانسان وكلمة الله، وفي الكلمة كن فيكون يكمن سر الخلق والايجاد والظهور. ولمريم في قلوب المسلمين محبة وتقدير بالغان واذا ذكرتها جداتنا قلن: ستنا مريم. وقد مثلت في الضمير الشعبي نموذج المرأة الطاهرة الصابرة. وعندما وصل تمثال العذراء الى مرفأ بيروت حرص العاملون في المرفأ لاسيما المسلمين على الحفاظ على التمثال وتأمين وصوله الى حريصا وكان الحاج رهج رمضان على رأس الذين واكبوا التمثال.
كرّس ابو الفرج الاصفهاني صفحات من كتابه الاغاني للصداقة التي جمعت بين الوليد بن عقبة المسلم وابي زبيد الطائي المسيحي قال: لما اعتزل الوليد في الرقة صار ابو زبيد اليه فكان ينادمه وكان يحمل في كل احد الى الكنيسة مع النصارى، ولما حضرت الوليد الوفاة اوصى أن يدفن الى جنب ابي زبيد. كما روي ان الوليد اوصى لما احتضر لأبي زبيد بما يصلحه في عيد فصحه وأعياده من الخمر ولحوم الخنزير وما اشبه، فقال بنوه لأبي زبيد قد علمت انه لا يحل لنا هذا وانما فعله ابونا اكراماً لك وتعظيماً لحضرتك فقدّره لنفسك ما شئت ان تعيش وقوّم ما اوصى به لك حتى معطيك قيمته. ففعل ابو زبيد ذلك وقبل منهم (اغاني 12/ 163). وجمعت مثل هذه الصداقة بين كثير من البيارتة كما بين نخله العربانية (الأسمر) واحمد البواب.
كانت شراكة س.س. اي سنو وسلوم مثالاً يحتذى. فقد تعرف التاجر المسلم احمد حمزة سنو على التاجر المسيحي الياس سلوم وتصادقا وتشاركا في التجارة وضرب فيهما المثل في التعاون والأخوّة وتملكا حمامات وعقارات ودكاكين وربحا اموالا طائلة. وحدث ان سرقت خزينة السلطة سنة 1878 واعتقل ابن الياس سلوم وكان اميناً للصندوق وطلب من احمد سنو باعتباره كفيلا تسديد المبالغ المطلوبة، فأرسل احمد منادياً في الاسواق ليعلم الحاضر فيه الغائب عنه بأن كل من له دين ليحضر ويقبضه والكفيل حطاط، فباع املاكه وسدد ما تكفل به. وكانت شراكة ب ب اي بيهم وبسترس سبيلاً لانشاء اجمل سوق في بيروت هو السوق الجميل.
وروى عبد القادر قباني في مذكراته ان مسلمي بيروت كانوا يستعيرون دار ابي عسكر الفسيحة الواقعة في محلة الشيخ رسلان الى الشمال من الجامع العمري الكبير وذلك من اجل اقامة اجتماعاتهم في مناسبات افراحهم واعراسهم ويتلون الموالد ويسرجون القناديل وينشدون المواويل. وابو عسكر هو يونس نقولا الجبيلي الذي تولى جمرك بيروت سنة 1782م وكان كما روى الاب حنانيا المنيّر محباً للجميع محبوباً منهم معتبراً عندهم يمر من داره الى الديوان في الاسواق، فتقوم اليه الناس من المسلمين والنصارى تحييه ومنهم من يقبّل يده فلا يملك الا ان يرد التحية لهم.
كان الشيخان محمد الحوت وعبدالله خالد صاحبي دكان حرير في سوق البازركان يوم كان الحرير المورد الرئيسي لبيروت والجبل وكان اهل القرى يأتون بحريرهم الى مستودع الشيخين ليبيعاه لهم بالامانة فكانا كلما باعا حملاً ذكرا ثمنه في ورقة “كدش” واسم صاحبه ووضعاها على الرف فيأتي القروي آخر الموسم فيتسلم ثمن حريره ويشكر الشيخين ويقول “الدنيا امانة الله يعوضكم البركة” وينصرف الى السوق ليبتاع ما تحتاجه اسرته.
ظلت بيروت بفعل وعي اهلها بمنأى عن فتنة سنة 1860 الطائفية واكد خليل الخوري سنتها ان فقراء النصارى الذين التجأوا الى بيروت صادفوا كل مرحمة ومجابرة من اهالي المدينة ولاسيما المسلمين الذين قدموا لهم اماكن السكن والخبز والحسنات، واثنى على الشيخين محمد الحوت وعبد الله خالد والسيدين عبد الله بيهم ومحمد البربير وغيرهم من وجهاء المسلمين كما تولى مفتي بيروت الشيخ محمد المفتي الطرابلسي الأشرفي ادارة دار الشفقة في الكرنتينا. وعندما تأخر نزول المطر سنة 1861م خرج اهالي بيروت الى سهلات البرج للاستسقاء فاجتمع فيها المشايخ والعلماء ومفتي المدينة وبطريرك الروم وقسوس الموارنة وحاخام اليهود وضجوا بالاستغاثة والدعاء بالرحمة والصلاة والادعية. وكانت التراتيل تتردد في الكنائس، والمدائح تنشد في الزوايا الصوفية بالمقامات السريانية الشرقية كالراست والنوى والصبا والسياه والحسيني.
الدين المعاملة ومكارم الاخلاق لا دين لها وليست حكراً على طائفة او مذهب. تأخرت تجارة محمد مصباح قريطم فأعلن افلاسه سنة 1871م ثم تخالص مع دائنيه بدفع عشرين بالماية من ديونهم ومرابحة أموالهم (فائدتها). وكان خليل تقلا والد سليم قد تعاطى التجارة فتأخر عن سداد ديونه فدفع ما يملكه بما فيه بيته فكان معدل ما سدده مخالصة ربع الدين ولكنه بما فطر عليه من التقوى والصلاح اوصى اولاده بدفع رصيد الديون لاصحابها وفي سنة 1880م حضر ابنه بشارة الى بيروت وتفقد ارباب الديون واحدا واحدا ودفع لكل منهم مطلوبه كاملا.
عندما نشبت الحرب سند 1897م بسبب كريت ترك بعض التجار المسيحيين بيروت تداركا من اية ردود فعل وسلموا مفاتيح بيوتهم ومخازنهم الى معارفهم من المسلمين. وعندما قصف الاسطول الايطالي بيروت سنة 1913م وما نتج عنه من قتل وتخريب اذاع مطران بيروت اصالة ونيابة عن رؤساء الطوائف المسيحية بيانا اعلن فيه ان اديرة النصارى وبيوتهم في جبل لبنان مفتوحة للاولاد والنساء من المسلمين” الذين نحن معهم في السراء والضراء فان حريمهم حريمنا واولادهم ينزلون عندنا على السعة والرحب ويكونون مصونين محترمين، فان شبعنا يشبعون قبلنا وان جعنا فلا يجوعون إلا بعدنا”.
وبعد انتصار الثورة العربية سنة 1919م القى الخوري نعمة الله ملكي قصيدة انهاها بالبيت:
للبس عباءة وتقر عيني احبّ إليّ من لبس الشفوف
روى المؤرخ جوزف نعمة (“النهار” 18/7/1985) من المتناقل في اسرته ان بشارة فرعون نعمة الماروني من دير القمر وكان نافذ الكلمة عند السلطات، لما شعر بدنو اجله عهد الى المفتي عبد الباسط الفاخوري صديقه، ان يكون وصيا على اولاده لما كان يكنّ له من المحية والثقة والتقدير. وان المفتي رجل علم وتقى وتسامح ما وفر له كثيرين من الاصدقاء والاصحاب مسلمين ومسيحيين.
وليس بمستغرب ان يلج البيارتة كلما مروا في سوق سرسق الى غرفة صغير علقت فيها ايقونة لسيدة النورية فيلصقون عليها القرش المبخوش تبركاً او وفاءً او رجاء. وان يقدروا ما قامت به الام جيلاس وراهبات المحبة في دير العازارية، وما قدمته الأم بولين شارل ادوار ديغو في دير الناصرة، ومساهمات مسز طمسن وشقيقاتها. واذا مروا في الخندق الغميق زاروا الأم كاترين بنت نعمة الكركبي. وأحيوا ذكرى اربعاء ايوب التي تصادف الاربعاء التي تسبق الجمعة العظيمة وعيد الفصح.
والنفس لا تزال تحن الى تلك الممارسات التي كانت تسد فراغاً روحياً لا تسده اللذائذ المادية، ممارسات كنا نشعر فيها بتحقيق التعاليم الروحية ونجد فيها شيئاً من حقيقة الايمان وطهر التقوى وقوة الرابطة الوطنية مع الآخر وسعادة التعاون، وحسن المعاملة التي هي باب الأمان والاطمئنان والطريق الى الدين الحقيقي لان المعاملة هي بحد ذاتها عبادة.
:::::
محام ومؤرخ
المصدر: موقع “مَنْ فتى”